يشهد العالم اليوم سلسلة من التحولات، بل يشهد صياغة جديدة لعالم جديد، عالم متداخل، متماهٍ، متقاطع، يتبنى العديد من القواسم المشتركة في نسخته الجديدة، مستنداً إلى أنساق ثقافية واجتماعية تزداد تقارباً كلما تلاشت الحواجز الطبيعية والاقتصادية والفكرية بين المجتمعات. وبقدر ما يزيد التبادل المعلوماتي والثقافي في تعزيز فرص المنافع وحثها نحو مزيد من المكاسب؛ كلما رفع من مستوى التمايز والتفرد والاختلاف.
ويجب إدراك أن المستقبل الجميل هو غاية يصل إليها أكثر من سبيل، وأن الاختلاف إثراء، وأن التنوع والتعدد هما الأفق الفسيح للحرية والإبداع، والإبداع هو أداة التغيير، وهو سبيل الاكتشاف، والجديد هو وقود المستقبل. بناءً عليه، فإن العالم يتهيأ لتغيير صورته بالكامل في كل لحظة، سواء على مستوى علاقاته، أو على مستوى التحديات الجديدة التي اختارها لنفسه ولمستقبله، لن يكون هناك أدنى شبه، أو أدنى قربى، بين عالم الغد القريب وما سبقه من عوالم موغلة في القدم.
الأزمات الأخلاقية
إن ما يشهده عصرنا الحالي من أزمات أخلاقية لا تقتصر فقط على مجرد التفحش في تحقيق مزيد من الثروة، وإنما تعني التراكم الهائل للثروة والأرباح، على سبيل المثال فإن الصفة المطلقة للدول الإسكندنافية أنها جنة الخلد في الدنيا؛ إنما تعود إلى نجاح هذه الدول في تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الدخل بشكل عادل بين جميع طبقات الشعب، بحيث لا تدع أي فروق واضحة بين جميع الفئات، لذا ومن العبث أن تلهث دول العالم الثالث بالجري للحاق بركب الدول المتطورة ومحاكاتها في أسلوب عيشها ورفاهيتها، فهذه البلدان ذات المستوى المتقدم بالترف والتطور التكنولوجي ليست المثل الأعلى الذي يحتذى به، وهي لم تحصل على هذه الثروات إلا من جراء استغلال بلدان العالم الثالث وشعوبها ونهب ثرواتها؛ ومن ثم جر هذه الدول والتي أصبحت هزيلة لا تقوى على حل مشاكلها الاقتصادية والتي تعصف بها يمنة ويسرة وشمالاً؛ إلى الهاوية.
كيف لا، وأقمارهم الاصطناعية بما تمتلكه من أجهزة متطورة فائقة الذكاء، وقرون استشعار عن بعد، وما وراءها من تقنيات معقدة قادرة على كشف ما يرقد تحت أراضينا وما يجري فوقها، وما تبطنه عقولنا وما يختلج في صدورنا، يستحوذون على بياناتنا الخام ليعيدوا تصديرها لنا في صور معلوماتية نهائية.
فمنذ ما يزيد على مدة قرن من الزمان والعالم الغربي يرفل بالثراء وأسباب الرفاهية والسعادة كافة، بفضل استغلاله للثروات الطبيعية ومقدرات تلك الشعوب الضعيفة وعلى رأسها الثروة النفطية، لتستأثر بهذا المنتج وبأسعار زهيدة وتستثمره في مشاريعها العلمية والتنموية العملاقة السريعة النمو والمتسارعة باستمرار، وأيضاً مشاريع التطوير والتحديث التي فرضتها على بلدان العالم الثالث، لتقلب بكل وحشية بنيتها الأساسية رأساً على عقب مستعيضة عنها بآلات الغرب وأدواته.
حكمة العصر
لم يكن نابليون بونابرت الإمبراطور الفرنسي مبالغاً في وصفه للصين عندما قال: (الصين عملاق نائم فلا توقظوه)، وقول أحد المشاهير: (يوم تنهض الصين يهتز العالم) نعم، فهذا العملاق الآسيوي قد حظي باحترام وتقدير كبيرين من دول العالم قاطبة، والتي أخذت تنظر بدهشة كبيرة إلى النمو السريع للاقتصاد الصيني، هذا النمو المخيف الذي لم يكن سببه اليد العاملة الصينية فقط، بل أيضاً العقل الذي عمل بإرادة صلبة وعزيمة، وصمم على ألا يتخلى عن صهوة الحصان السريع، والذي أسهم في انتشال البلاد مما كانت فيه من جهل وضعف وتخلف، لا بل إن التحليلات والتوقعات لكبار علماء الاقتصاد تقول بأن الصين هي المستقبل، وهي بهذا أضحت تشكل قلقاً ملحوظاً ومتزايداً للدول المتسيدة على اقتصادات العالم، فتلك الدول لا تخفي مخاوفها وامتعاضها من هذا العملاق الجديد الذي أخذ يهز العالم بأسره، وهي لا تجد ما تعبر به عن ذلك القلق أكثر من محاولات التقرب أو التنسيق مع هذا المارد، ويأتي في مقدمة هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، فضلاً عن الجارة العملاقة اليابان، إذ بدأت مخالب هذا المارد تدغدغ هذين البلدين العملاقين، بل بدأت تزيحهما بكل ثقة عن قمة عرش العالم.
في حين بدأت دول أوروبا الغربية تسعى بخطىً حثيثة لانتزاع السبق في هذا المضمار، واضعة كل ثقلها العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والسياسي من أجل المحافظة على تفوقها أمام الهجمة الصينية واليابانية الشرسة القادمة من الشرق، بينما أخذت دول حافة الباسفيك وبعض دول جنوب شرق آسيا في البحث عن نقطة التوازن بين طرفي الصراع التكنولوجي.
ومما لا شك فيه أن الصين تتحول اليوم بشكل سريع إلى عملاق آسيا كلها، صناعياً واقتصادياً وتكنولوجياً، وهي لن تتوانى عن مزاحمة الدول الكبرى التي سبقتها بتراث طويل وعميق في الابتكار والإنجاز، بل إنها تمثل تهديداً تنافسياً مشهوداً لتلك الدول. ومن أول مظاهر نجاح التجربة الصينية حل المشكلة المستعصية لهذا الخزان البشري الهائل والذي سيصل قريباً إلى حافة الألفي مليون من الأفواه المفتوحة الجائعة، فبدلاً من أن يكون هذا الخزان البشري الهائل عبئاً على الدولة وعلى التنمية فيها تحول وسيتحول إلى قوة ودعم لملامح العملاق القادم.
لقد أصبحت الصين أكبر ورشة للتصنيع في العالم، بما في ذلك أقنعة الوجه وغيرها من معدات الحماية كما شهدنا ذلك بعد انتشار فيروس كورونا، وفي هذا العام ستتفوق الصين على الولايات المتحدة في الإنفاق على البحث العلمي والتطوير والابتكار، ما يقود الولايات المتحدة إلى (نقطة تحول في البحث والتطوير) والقدرة التنافسية المستقبلية.
والتجربة اليابانية الحديثة تستدعي وتستحضر هنا، فاليابانيون نهضوا، بعد التحطيم الذي تعرضوا له في منتصف القرن الماضي، ليس فقط لأنهم ذهبوا إلى الغرب وقرروا أن يتجاوزوه، ولكن، كذلك، لأن الموروث الياباني ظل ملهماً لهم، ومولّداً ثرياً لطاقات الإبداع والتحديات الهائلة والتي أوصلتهم اليوم إلى ما أوصلتهم إليه، ويعتقد الياباني بأن لا قيمة له دون موروثه، ودون الماضي الذي انبثق منه.
التبعية المعقدة
إن التحديات التي تواجه العالم في الوقت الحاضر والتي يتوقع أن تستفحل في القريب العاجل عصية على الحلول، فتحقيق التخلص من التبعية أو إيجاد بدائل مماثلة، مازالت بعيدة المنال، مع كل ما يرافق ذلك من العوائق العصيبة التي تصيب بالشلل نواحي الحياة كافة، وأكبر مثال على ذلك ما مرت به البرازيل في منتصف الثمانينات من أزمات اقتصادية طاحنة عصفت بالبلاد (إذ تعد البرازيل خامس دولة في العالم من حيث المساحة المقدرة ب 8,5 مليون كم2، والسابعة عالمياً من حيث عدد السكان بتعدادٍ يبلغ 213 مليون مواطن برازيلي، وبمقدرات اقتصادية وزراعية هائلة)، لتتجه هذه الدولة إلى صندوق النقد الدولي معتقدة أنه الحل الأفضل لأزمتها الاقتصادية، وطبعاً فُرضت عليها شروط قاسية ومجحفة من قبل البنك الدولي وصندوق النقد، لتقديم حزم من المساعدات والقروض للاقتصاد البرازيلي، فكانت النتيجة تسريح ملايين العمال وخفض أجور باقي العاملين، وإلغاء الدعم، وبالتالي انهار الاقتصاد البرازيلي، ووصل الأمر إلى تدخل دول أخرى في السياسات الداخلية للبرازيل، كما فرض البنك الدولي على الدولة أن تضيف إلى دستورها مجموعة من المواد تسببت في اشتعال الأوضاع السياسية الداخلية، وأصبح ملايين المواطنين تحت خط الفقر، الأمر الذي دفع قادة البرازيل مرة أخرى إلى الاقتراض من الصندوق، معتقدين أن هذا سيحل المشكلة المعقدة لإخراج البلاد من الأزمة الطاحنة، ولكن الأمور لم تكن كذلك، فانخفض الإنتاج المحلي وأصيبت الكثير من القطاعات بالشلل، فانهارت العملة وتدهورت الأمور بشكل أسرع من المتوقع، لتصبح البرازيل الدولة الأكثر فساداً والأكثر مديونية في العالم أجمع والذي تضاعف 9 مرات في 12 سنة، والأكبر في معدل الجريمة وتعاطي المخدرات وطرداً للمهاجرين، لدرجة أن صندوق النقد الدولي هدد بإعلان إفلاس البرازيل لو لم تسدد فوائد القروض، ورفض في نهاية الأمر إقراضها أي مبالغ أخرى، فكانت البرازيل تحتضر بكل ما للكلمة من معنى.
ويشير بعض الاقتصاديين إلى أن معدل البطالة والفقر في الدول التي اقترضت من البنك الدولي ومن صندوق النقد الدولي يتزايد مع تزايد الديون، حيث تقوم هاتان المؤسستان بتطبيق الشروط الخاصة بها والتي عادة ما تكون ضد مصلحة الدول الفقيرة.
لذا فإن القادم أعظم، وهذه الهجمة الشرسة ستزداد شراسة في عصر التجويع المعلوماتي والاحتكارات التكنولوجية والذكاء الاصطناعي، حيث ستصدر لنا المعرفة والتكنولوجيا في أغلفة وحزم يصعب علينا تفكيكها وفك شفراتها، إنهم يحجبون عنا تفاصيلها الدقيقة تحت دعوى جعل التكنولوجيا أكثر يسراً لدول العالم الثالث، لنعيش نحن تحت وهم البساطة في (غيبوبة تكنولوجية) مخدرة.
وستبقى الدول الصناعية هكذا هي المثال الواقعي الحي لنموذج التقدم، فهذه الدول اهتمت ببناء الفرد وبذلت جهوداً جبارة في إكسابه المعرفة، والخبرة، وإمكانات التفكير المنظم، وبمعنى آخر فلقد هيأت تلك الدول بيئة علمية واجتماعية غنية وأرضية صلبة ثرية تحرض على الإبداع وتشجع عليه، ففي مثل هذه البيئة تنمو المواهب، ويزدهر العقل، وتتفتق الأفكار الإبداعية، ويخصب الخيال، مبنياً ذلك على وفرة الإمكانات والتجهيزات، ومعتمداً أيضاً على الحرية، وهي جمرة الإبداع أو نبعه العذب المتدفق.
لقد تحول العرب من أمة عالمة مبدعة مساهمة بشكل فعال في عمارة الأرض وازدهارها إلى أمة مستكينة، وهي في واقعها الجديد عالة على غيرها في كل شيء، وصارت عبئاً على التنمية، في الوقت الذي كان ينبغي أن تكون هي محركها، وهي وقودها، وجذوتها التي لا تنطفئ.
والتعليم هو السبيل الرئيس لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل الذي يكفل مواكبة التقدم وإرساء النهضة الحضارية للأمة وإعداد الأبناء للقرن الحادي والعشرين بخطى ثابتة، والعنصر الفاعل في مواكبة التطورات العالمية المعاصرة، وما من شك فيه أن من أهم التحديات التي يقابلها التعليم هي في الواقع تحديات علمية تكنولوجية، وليس المهم أن تسعى المجتمعات لبناء مجتمع معلوماتي متطور، بل الأهم هو الوصول الحقيقي إلى جوهر الفكر المعلوماتي ومعرفة استحقاقاته البنيوية والعملية.
واليوم وفي ظل هذه التغييرات السريعة والمتلاحقة التي تجتاح العالم بلا رحمة بفعل التطور التكنولوجي والتدفق المعلوماتي الهائل، الأمر الذي جعل دول العالم قاطبة تتسابق في نظم التعليم وفي إعداد وتطوير المناهج التعليمية من أجل مواكبة هذه التغيرات المعاصرة والتحديات المستقبلية؛ فالنظرة إلى المستقبل لا تستند فقط الى محاولات الماضي والحاضر فحسب، بل الاستعداد والتأهب لعالم جديد، مختلف، يموج بكثير من التغيرات الجوهرية في شتى مجالات الحياة.