إن تنميّة فكرة المواطنة والمناخ الجيد لتكوين المواطن الصالح يتمثل في المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين كافّة، مع ضرورة تأمين تكافؤ الفرص في مجالات التوظيف والتعليم، والسعي لبسط العدالة الاجتماعيّة، والنهوض بالبحث العلمي للإسهام في حركات التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبشريّة، والأحداث الدوليّة تدعو بإلحاح لإحياء مفهوم المواطنة أو على الأقل إبرازه، وتقديم حلٍّ ناجع لقضيّة التعايش السلمي بين الأمم والشعوب والعمل على إذابة الفوارق، والحرص على وحدة الأمّة وبناء مستقبلها الواعد بإذن الله تعالى.
كما يمتدّ مفهوم المواطنة في أعماق التاريخ لارتباطه بالمجتمع الإنساني عندما شكل نواته الإصلاحيّة عبر الانتقال من التوحش إلى الاستقرار على ضفاف الأنهار ومواطن الزراعة والصيد، فحينها كان المواطن هو من انتمى إلى تلك المجتمعات البدائيّة، فكانت له حقوق كما عليه واجبات نحو المجتمع الذي يعيش فيه، ظلّ مفهوم المواطنة مفهوماً بدائيّاً حتّى عصر التنوير، فقام رموز عصر التنوير (هوبز- لوك- روسو- مونتسيكو) بطرح مفهوم آخر يقوم على العقد الاجتماعي ما بين أفراد المجتمع والدولة والحكم، وعلى آليّة ديمقراطيّة تحكم العلاقة بين الأفراد أنفسهم بالإسناد إلى القانون الذي يتساوى عنده الجميع، وبعدها تغير مفهوم المواطنة من أداة تمييزيّة ضدّ الآخرين تربط الناس عضويّاً ضمن مفهوم القوة والسلطة إلى الإشارة إلى أنّ المواطن أصبح ذاتاً مستقلّة كينونة وحقوقاً.
ولمّا قامت الدولة الإسلاميّة أقرّت حقّ الانتماء والمواطنة لكل مقيم على أرضها، وتمتّع غير المسلمين في الدولة الإسلاميّة في المعاملة بحقوق وواجبات واحدة، وخير شاهد على التزام المسلمين بضمان حرّيّة المعتقد لغير المسلمين والمحافظة على أماكن عبادتهم تلك الشهادات التي سجلها التاريخ لمؤرّخي الغرب والشرق، فقد قال ول ديورانت: «لقد كان أهل الذّمّة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم».
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: «العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها سُمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى. أوليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟».
ولا بدّ من القول إنّ بقاء غير المسلمين على دينهم قروناً متتالية في الأندلس ومصر، وبقاء أماكن العبادة لليهود والنصارى في معظم ديار الإسلام والمسلمين لدليل واضح على سماحة الإسلام، وحرّيّة غير المسلمين في بلاد الإسلام.
لكن هناك من تنكّر لرعاية الدولة الإسلاميّة لمواطنيها عبر العصور، ممّا استلزم ضرورة بيان الحقيقة في معاملة المسلمين لغيرهم، فالغاية الأساسيَّة من دراسة علم التاريخ -كما قيل- هي أن يُقرأ التاريخ كما كان لا كما نريده أن يكون، والمواطنة لا تمثّل حالة شعور فحسب، إنّما تمثّل رابطة أو تفاهماً أو تعاقداً من أجل التعايش السلمي، وهي اسم جامع لأبناء المجتمع سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين. فالجميع أهل وطن، تجمعهم أخوة وطنية على اعتبار أنهم جميعاً أهل دار الإسلام، وصاحب الدار كما هو معلوم ليس غريباً، ولا أجنبيّاً، وقال الله تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ) فقد عدّت الآية القرآنية الشريفة النبي نوحاً أخاً لقومه المشركين الذين يواطنهم بنفس المكان.
والوطن في المفهوم الإسلامي هو السقف الذي يجمع المسلمين وغير المسلمين، في لحمة تفرض عليهم جملة من الحقوق والواجبات، وفي كنف شريعة تؤمن بالتنوع الأيديولوجي والفكري.