بعد نشر كتابه (ذخائر الأدب الغربي) في منتصف التسعينات الميلادية كان الناقد الأدبي الكبير هارولد بلوم على موعد مع سيل من التهم التي كيلت له بسبب ما حفِلَ به الكتاب من نصوص وما أغفله من أعمال أدبية يعتقد طيف واسع من شُداة الأدب أن غيابها إما رسالة من بلوم أو تعسف منه. (ذخائر الأدب الغربي) في جوهره يحوي الإشارة لمؤلفات يراها بلوم من عيون الآداب الغربية ومعاييره في انتخابها القيم الجمالية من جهة ومن جهة أخرى مدى تجاوز العمل الأدبي للحدود الزمانية والمكانية والأمثلة على ذلك كثيرة مثل أعمال ويليم شكسبير ودانتي وتولستوي وفلوبير وسيرفانتيس.
عُرف عن بلوم نقده اللاذع لموجة النقد الثقافي التي اجتاحت أقسام الأدب في الجامعات وغَزْت الصحافة الأدبية وتغلغلت في أوعية النشر حتى أصبحت الأطروحات النقدية لا تخرج عن أطر النقد التي رسمها المنظر الماركسي الشهير ميشيل فوكو الذي يرى أن الكتاب -أي كتاب- مفيد في جوهره إذ يعبر عن سياق ما, له سلطته التي لا تخضع للأطر النقدية التقليدية. كان بلوم يتحسر على انحسار العناية بالأدب الرفيع وسطوة الأعمال الأدبية المتواضعة التي انتشرت انتشاراً واسعاً ليس لقيمتها الأدبية، ولكن للرواج الهائل لها في أوساط الجيل الجديد الذي لم يجد طريقه إلى الآداب الكلاسيكية القيّمة. وجه بلوم نقداً شديداً لسلسلة هاري بوتر للمؤلفة البريطانية رولنغ وعدَّها مثالاً ساطعاً لتلك الأعمال التي لا تحمل أي قيمة أدبية وأن قراءتها إملاق معرفي لا يؤثث ذائقة أدبية ولا يساهم في رفع وعي القارئ.
في مطلع الألفية الجديدة نشر بلوم كتاباً حول القراءة بعنوان: كيف نقرأ ولماذا؟ (?Why to read and how). الكتاب ليس بيداغوجياً صرفاً كما يوحي العنوان، بل قد يكون العنوان مضللاً نوعاً ما فقد أراد بلوم أن يُرشد القارئ إلى ألوان من القصص القصيرة والقصائد والروايات والدواوين الشعرية التي يجدر به -أي القارئ- أن ينفق فيها وقتاً ثميناً. تقرأ في مقدمة الكتاب نقداً مبطناً لأساليب التلقي الجديدة التي يَخِفُّ إليها القارئ مثل التاريخانية الجديدة (neo-historicism) التي ترجع القيم الجمالية لأي نص من النصوص إلى الزمن الذي ظهرت فيه وليس لكونها تحوي قيماً إنسانية تتجاوز حدود الزمان والمكان. وخطورة هذا التصور كما يراه بلوم تكمن في وضع رقبة النص الأدبي الذي ظهر في القرن السادس عشر مثلاً تحت مقصلة القيم التي أفرزتها حركات الحداثة وما بعدها.
من الأمور النقدية التي عُني بها بلوم موضوع القراءة وأساليب التلقي. كتب في أكثر من موضع حول مقاربة أخرى لقراءة النصوص تعتمد على التغلغل في بنية النص اللغوية وتأمل مراد الشخصية الأدبية وغاياتها والتوظيف النشط للذاكرة. مثلاً في مسرحية (أهمية أن يكون المرء جاداً) للكاتب أوسكار وايلد يتوقف بلوم عند مشهد لبروكنيل -السيدة الأرستقراطية التي تحترم القيم الفكتورية- مع ابنتها في محطة للقطار حيث تصرخ قائلةً: (لقد ذهب القطار بدوننا أربع مرات ولو ذهب للمرة الخامسة لأصبحنا أضحوكة للناس). هنا يلتقط بلوم الصورة ويعلق متهكماً على هذه السيدة التي تعتقد أن الناس في محطات القطارات تراقبها مراقبة لصيقة، منبهاً للحقيقة الناصعة وهي أن محطات القطارات للغرباء لا يعنيهم إن كان ثمة أشخاص غفلوا عن رحلة ما ولا زالوا عالقين في أتون الانتظار.
عمل بلوم أستاذاً للأدب في جامعتي ييل وهارفارد ويصمه خصومه بالصلف الشديد والتعصب والنزق مما جعله هدفاً لحملات إعلامية شرسة في ميادين الأدب والسياسة. طُرد من قسم الأدب في جامعة ييل وكاد يطرد من الجامعة لولا نشاطه اللافت في ميدان البحث والتأليف حيث كان يفاخر بأنه نشر في خمس سنوات كتباً تعادل ما نشره قسم الأدب بكامل أعضائه في الفترة ذاتها. هذا النشاط الكبير ونزولاً عند رغبة الكثير من مريديه جعل الجامعة ترضخ حيث عينته أستاذاً حراً طليقاً لا ينتمي لأي قسم، يُعهد إليه بتدريس بعض المقررات لطلاب الدراسات العليا والإشراف على بعض رسائل الماجستير والدكتوراه.
على المستوى الإعلامي نشر بلوم مقالات في صحف سيارة كنيويورك تايمز وظهر في برامج تلفزيونية حوارية جعلته نجماً ساطعاً في دنيا الأدب وذلك بفضل ذاكرته وسرعة بديهته التي جعلته يستجلب نصوصاً شعرية ويقرؤها دون كلل أمام مذيعين عقدت الدهشة ألسنتهم من تمكن الضيف وقدرته على استدعاء مقاطع كاملة من قصائد شعرية أو فصول مسرحية أو مواضع في روايات سيارة. رحل بلوم عن دنيانا عام 2019م ولكنه سيبقى أثراً في أذهان عشاق الأدب الرصين الذين يشاهدون الساحة الأدبية والتي أضحت متخمة بالأعمال المتهافتة في شتى المجلات والذين يتوقون لصوت نقدي يدلهم على الكنوز الأدبية ويرشدهم إلى أساليب التلقي.