نتطلع ونحن على أعتاب القرن الواحد والعشرين إلى مستقبلٍ حافل بالتغيرات السريعة التي طغى عليها التحول الرقمي الذي بدأ يرسم ملامح عصرٍ جديد مختلفٍ. ولا يمكننا ونحن نقف في هذه المحطة من تاريخ البشرية إلا أن نُعيد قراءة ما راكمته الحضارات الإنسانية على مر العصور.
ولعل تصفح تاريخ الحضارة العربية التي أشرقت شمسها، وأضاءت العالم لفترة طويلة سيعود بنا حتماً إلى بعض ما وصلنا من آثار تلك الحضارة مجسداً في آلاف المخطوطات النفيسة الموزعة عبر مختلف المتاحف العالمية والعربية. ويُمكننا العودة في منطقتنا المغاربية إلى الحواضر الكبرى التي عرفت نهضة ثقافية وفكرية وعلمية في أزمنةٍ ماضية. وتعد تلمسان (500 كلم غرب العاصمة الجزائرية) مركز إشعاع ثقافي وحضاري على مر العصور، بالرغم مما تعرضت له من محاولات طمس هويتها العربية الإسلامية الزاخرة بمقومات الفكر والعلم والفن. وللإشارة نذكر أنه قد أُحصي في آخر العهد العثماني 50 مسجداً في هذه المدينة، واشتملت أغلب هذه المساجد على مدارس ومكتبات عامرة بخزائن تحوي أهم المخطوطات الأصلية. ويعد مخطوط شهاب الدين أبي العباس أحمد بن محمد المقري التلمساني توفي (1041هـ) بمثابة فهرس لأهم أسماء علماء تلمسان ومخطوطاتها.
غير أن هذه الثروة الفكرية والتاريخية قد تعرضت لعمليات تخريب وسلب ونهب وحرق، طالتها بهمجية إبّان الاحتلال الفرنسي الذي استمات في محاولة طمس هوية المدينة، حيث عبث بأغلب مساجدها ومدارسها ومكتباتها، التي كانت تمثل تحفاً معمارية ومراكز علمية تستقطب أهل العلم من مختلف البلدان، على غرار المدرسة الخلدونية نسبة لابن خلدون الذي درس بها، والمدرسة التاشفينية التي وصفها المعري بأنها من بدائع الزمان، فتحولت أغلب هذه الأقطاب على أيدي المحتلين إلى ثكنات أو مستودعات أو إسطبلات، وأُتلفت خزائن مخطوطاتها، أما ما نجا منها فتم نقله إلى بلدان أخرى بينما استطاعت بعض الزوايا الدينية والعائلات حماية عددٍ معتبر من تلك المخطوطات، ثم سعت الدولة الجزائرية بعد الاستقلال إلى رصدها واسترجاع ما أمكن منها وحمايتها.
ولأجل ذلك الغرض أُنشئت عدة مؤسسات على مستوى ولاية تلمسان تهتم بالمخطوط رصداً وجمعاً وصيانةً ورقمنةً ودراسةً، ومن هذه المؤسسات ما هو تابع لوزارة البحث العلمي، على غرار فرقة البحث في المخطوطات والمصنفات، ضمن مخبر الدراسات الأدبية والنقدية وأعلامها في المغرب العربي المُوطّن بجامعة تلمسان. وكذلك ملحقة المركز الوطني للمخطوطات التي تم إنشاؤها سنة 2012 لتضطلع بمهمة جرد المخطوطات في غرب الجزائر وفهرستها، بالاعتماد على إستراتيجية وطنية تقوم على رصد المخطوطات ومُعاينتها وجردها وتسجيلها والعناية بها وترميمها ورقمنتها وتدوين كل المعلومات المتعلقة بمالكيها بُغية تسهيل الوصول إليها.
ومن تلك المؤسسات التي تُعنى بالمخطوط في تلمسان ما هو تابع لوزارة الثقافة، على غرار الديوان الوطني لتسيير الممتلكات الثقافية المحمية واستغلالها بتلمسان، والذي يحتوي على خزانة زاخرة بالمخطوطات التي تم استرجاعها بعد استقلال الجزائر. ولئن أحدثت هذه المؤسسة التي تقع وسط مدينة تلمسان سنة 1987، فلن تعرف بمُسماها الأخير إلا سنة 2005، وأسندت إليها مهمة ضمان صيانة الممتلكات الثقافية الوطنية وحمايتها. وبناءً على هذه المهمة استعاد الديوان 70 مخطوطاً كانت ملكاً للمدرسة الفرنسية الإسلامية إبّان الفترة الاستعمارية، لتنتقل ملكيتها بعد الاستقلال إلى المدرسة الثانوية الدكتور بن زرجب، وبعدها إلى المدرسة الثانوية حامد بن ديمراد المَشْوَر، حيث لم تتوافر مكتبتا هاتين المدرستين الثانويتين على الشروط المناسبة لحفظ المخطوطات، مما أحدث أضراراً بالغة ببعضها، وأتلف بعضها الآخر. وتتنوع مواضيع مخطوطات هذه الخزانة بين الفقه واللغة وعلومها والرياضيات، ومنها ما يجمع بين الرياضيات والنحو، ومنها ما يجمع بين الحديث وأصول اللغة، ومواضيع أخرى متفرقة. وقد نُقلت بعض هذه المخطوطات كما ذكرنا إلى خزانة الديوان الوطني لتسيير الممتلكات الثقافية المحمية بتلمسان واستغلالها، وبعضها الآخر نُقل إلى المتحف العمومي للخط الإسلامي.
ويعتبر المتحف العمومي الوطني للخط الإسلامي من المؤسسات التابعة لوزارة الثقافة الجزائرية، والتي يندرج ضمن مهامها حفظ المخطوطات والاعتناء بها، وهي من المؤسسات الأكثر نشاطاً في هذا المجال. ويقع هذا المتحف في ساحة الأمير عبدالقادر وسط مدينة تلمسان، وبالضبط في مسجد أبي الحسن التنْسِي، وهو معلم تاريخي تم تشييده بأمر من السلطان الزياني أبي سعيد عثمان بن يغمراسن سنة 696هـ/ 1296م، وحمل اسم أحد علماء تلمسان الذين تولوا مهمة التدريس به. وخلال الاحتلال الفرنسي تم تخريب المسجد وتحويله إلى مستودع للخمور، وبعدها إلى مخزن للعلف، ثم إلى متحف محلي بعد صراع كبير مع أعيان المدينة سنة 1901، وقد احتفظ بمهمته تلك إلى سنة 2013، حيث تم تخصيصه للاهتمام بالخط الإسلامي والمخطوط. ويحتوي هذا المتحف على خزائن تشتمل على مخطوطات نفيسة تم جردها وفهرستها والاعتناء بها من قبل ملحقة المركز الوطني للمخطوطات بتلمسان. ومن بين المخطوطات التي يتوافر عليها هذا المتحف نذكر: (الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام) لأبي عبد الله محمد بن أحمد ميارة الفاسي (1072هـ)، و(قاموس المحيط ) لمحي الدين محمد بن يعقوب الفيروزبادي (1181هـ)، و(الجامع الصحيح) للإمام مسلم (1284هـ)، و(رسالة ابن أبي زيد القيرواني) لأبي الحسن علي المالكي (1282هـ)، و(المختصر في علم المنطق) لأبي عبد الله السنوسي الحسني (1283هـ).
ويقوم عمل المتحف العمومي الوطني للخط الإسلامي بتلمسان في مجال المخطوطات على تنسيق الجهود بينه وبين باقي المؤسسات السابق ذكرها، بُغية تحقيق أهداف محددة تتمحور أساساً حول رصد المخطوطات الموجودة في المنطقة الغربية من الجزائر، سواء لدى المؤسسات أم الأفراد وصيانتها ورقمنتها وفهرستها وجمع ما أمكن منها. كما ينظم المتحف الكثير من النشاطات الداعمة لما سطر من أهداف، على غرار تنظيم أبواب مفتوحة لتعريف المجتمع المدني عموماً والمجتمع العلمي على وجه الخصوص بما تزخر به المدينة من إرث حضاري وعلمي تجسده المخطوطات المعروضة. وتنظيم أيام دراسية تحسيسية بأهمية التعريف بالممتلكات الفردية من المخطوطات بهدف صيانتها وفهرستها ورقمنتها لتمكين الباحثين والمهتمين من الوصول إليها، عن طريق النسخ الرقمية التي يحتفظ بها المتحف. كما ينظم المتحف ملتقياتٍ وطنية ودولية تهدف إلى التعريف بخزائن المخطوطات الوطنية والإقليمية والعربية، وتوطيد علاقات التعاون المؤسساتي والدولي، وتبادل أحدث التقنيات الرقمية المستخدمة لمعالجة المخطوطات وحمايتها، كما تفتح هذه التظاهرات العلمية والثقافية التي يعكف على تنظيمها المتحف آفاق البحث في الحمولات المعرفية والقيم الجمالية والتاريخية والحضارية للمخطوطات. ويستفيد العاملون في المتحف من ورشات تكوينية مستمرة تمكنهم من التحكم في أحدث تقنيات صيانة وترميم المخطوطات، ولا تذخر بعد ذلك هذه الإطارات جهداً في نقل ما اكتسبت من خبرات لمختلف المهتمين والمعنيين من أصحاب المخطوطات.
وليس غريباً على مدينة تلمسان تسخيرها لإمكانات ضخمة، ومؤسسات عديدة للاعتناء بالمخطوطات التي تزخر بها، بل بالمخطوطات في كل المدن الغربية للجزائر، وهذا بالنظر إلى التاريخ العريق لها، والذي جعلها تمتلك هذا الإرث الحضاري الأصيل الذي تعبق به فضاءاتها ذات الطابع المغاربي الأندلسي الساحر، والذي تسعى للحفاظ عليه وتقديمه للعالم باعتباره إرثاً إنسانياً يحق لكل مهتم بتاريخ الحضارات العودة إليه والسفر في عوالمه عن طريق ما تتيحه الوسائط الرقمية اليوم.