الوعي أصله من فهم الحديث والكلام ومعرفة المراد منه، ثم توسعت دلالته فأصبح يطلق على فهم ما يدور حول الإنسان، وتبينه لمقاصد ما يقال ويحدث من الأقوال والأفعال.
إنه الوعي بما حولنا، فحركاتنا وقناعاتنا في هذه الحياة شرّاً وخيراً، فرحاً وحزناً، تأييداً واعتراضاً؛ مردها الوعي الذي يحرك الأفعال، ومَوْطِن القناعات. بهذا الوعي يعيش الإنسان حياته حلوها ومرها. وبقدر ما يكون الوعي مُتَّفقاً مع العقل والمنطق الصحيح؛ ثمت يكون الألم والحسرة، وبضدِّه تكون الراحة والاستكانة. وانطلاق الوعي من رِبْقة التفكير والتأمل، والبحث عن الحقائق في بطون الأحداث، وبين الأجداث؛ مؤذن براحة طويلة، وقناعات مستمرة لا تتغير مع تغير الأزمان، ودوران الأحداث. ولطالما كان الوعي لعنة على صاحبه، لأنه يكدر عيشه، ويؤرق عينه، ويُمرَّ طعامَهُ وشرابَهُ. قيلَ للحسن البصري (ت 110هـ) ما لنا نَراكَ وَاجِماً؟ فقال: غَمِّي مُكْتسَبٌ من عَقْلِي، ولو كنتُ جاهلاً لكنتُ في دَعَةٍ من عَيْشِي. وقال بشر الحافي (ت 227هـ): لو كنتُ لا أعْلَمُ لكانَ أرْوَحَ لقلبي.
وقال ابنُ المعتز (ت 296هـ): العَقْلُ كالمِرْآةِ المَجْلُوَّة، يَرى صَاحبُها مَسَاوِئ الدُّنْيَا، فلا يزالُ في صَحْوِه مَهْموماً مُتَعَذِّرَ السُّرُورِ. وقاربهم أبو الحسن بن أبي البغل الكاتب (ت 313هـ) فقال:
الصَّعْو يرتعُ آمِناً ولرُبَّما
حُبِسَ الهَزَارُ لأنَّهُ يَتَرَنَّمُ
لوْ كُنْتُ أجْهلُ ما عَلِمتُ لسَرَّنِي
جهلي كما قد سَاءَنِي ما أعْلَمُ
ونظرَ إليه المتنبي (ت 354هـ) فقال:
ذُو العقلِ يَشْقَى في النَّعِيمِ بعَقْلِه
وأخُو الجَهالَةِ في الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ
الوعي ناتجٌ من قدرة العقل على التفكير الصائب الصحيح، الذي يتَّفق مع المنطق، وتُصدِّقُه الحقائق التي تظهر في الواقع. ومصداق ذلك قوله تعالى (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) (الحاقة 12)، فهذه الأذن عَقَلَت عن الله قوله. فارتباط الوعي بالعقل ظاهر جلي. وأطنب القدماء من أهل الأدب في التنويه بأن الأعمال التي تُنمِّي العقلَ والوعي مَظِنَّة الفقر والعَوزِ، بل والابتلاء. وقالوا قديماً: أدْرَكتْهُ حِرْفةُ الأدب. قال علي بن بسَّام (ت 302هـ) يرثي ابن المعتز الذي قُتل بعد يوم من مبايعته بالخلافة:
للهِ دَرُّكَ مِن مَيْتٍ بمَضْيعَةٍ
نَاهِيْكَ في العِلْمِ والآدَابِ والحَسَبِ
ما فيْهِ لوٌ ولا ليتٌ فتَنْقُصَهُ
وإنَّما أدرَكتْهُ حِرْفةُ الأدَبِ
وقال ابن قَلاقِس (ت 567هـ)
لَا أقْتَضِيْكَ لتَقْدِيمِ وُعِدْتَ بهِ
مِن عَادَةِ الغَيْث أنْ يَأْتِي بلا طَلبِ
عُيُوْنُ جَاهِكَ عَنِّي غيرُ نَائِمةٍ
وإنَّما أنا أخْشَى حِرْفةَ الأدَبِ
وسُئِلَ وَرَّاقٌ عن حاله فقال: عَيْشِي أضْيَقُ مِن مِحْبرَة، وجِسْمِي أدَقُّ مِن مِسْطَرة، وجَاهِي أرَقُ من الزُّجاج، وحَظِّي أشَدُّ سَواداً من العَفْصِ إذا خُلِط بالزَّاج. وسُوءُ حالي ألْزَمُ لي من الصَّمْغِ، وطَعامِي أمَرُّ من الصِّبرِ، وشَرابِي أكْدَرُ من الحِبْرِ. والهَمُّ والألمُ يجريان في عَلَقةِ قلبي مَجْرى المِدَادِ في شَقِّ القلم. فقلتُ: يا أخي لقد عَبَّرتَ ببلاءٍ عن بلاء.
وقيلَ للحسن البصري: لمَ صارت الحِرْفةُ مَقْرونةً بمن جعلَ العِلْمَ والأدب شِعاراً، والثروة بمن كسَاهُ الجهلُ والحمقُ عاراً؟ فقال: ليس القولُ كما قُلْتم، ولا الأمرُ كما زعمتم، ولكنَّكُم طلبتم قليلاً في قليلٍ فأعْجَزكُم. طَلبْتُم المالَ وهو قليلٌ عند أهل العلم والأدب، وهُم قليلٌ. ولو نظرتم إلى مَن تَحارَفَ من أهلِ الجهل لوجدتموهم أكثرَ اقْتَاراً، والمالُ عنهم أشدُّ نفاراً.
وتخريج الحسن البصري مقنع، بل يزيده قوة ويشد أزره أن أهل الأدب هم الشعراء والكتاب؛ فصوتهم عالٍ، وشكاتهم ظاهره، فيُظنُّ أن هذا حظُّهم من الدنيا، مع أن الواقع لا يؤيده.
هذا الذي مضى عنه الحديث أسميه (الوعي المُؤرِّقُ). وما ذكرنا دليلٌ على أن الوعي المؤرق لعنةٌ تُلاحق أصحابه، لأن وَعْيه بمجريات الأمور تقودُهُ إلى الحيرة في أمر هذه الحياة وتصرفاتها. ولو نظرَ إلى حالة الدنيا الزائلة، وأنها لا تساوي فتيلاً؛ لسكنَ روعه، وجعل حَسْرتَهُ دَبر أُذُنِه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تَعْدِلُ عند الله جناح بعوضة ما سَقَى كافراً منها شربةَ ماء).
ومَردُّ لعنة الوعي على صاحبه أنه مهما بلغَ من الراحة والسعادة يُلِحُّ عليه هذا الوعي قائلاً: إنه نَعِيم زائل. ولعلَّه يُبلى بمصيبة أهونُها الموت تُزِيلُ ما هو فيه. فلا يزالُ في تَرقُّبٍ ووَجَلٍ مؤرق. قال المتنبي:
أشَدُّ الغَمِّ عندِي في سُرُورٍ
تَيَقَّنَ عنْهُ صاحبُهُ انْتِقَالا
نقل الثعالبي (ت 429هـ) قول بعضهم: لو كان الناسُ كلُّهم عُقَلاء ما أكَلْنا رُطَباً، ولا شربنا عَذْباً. يعني أنّ العُقلاء لا يُقْدمُونَ على صُعودِ النَّخيل لاجْتِناءِ الرُّطَب، ولا حفر الآبار لاسْتِنباطِ الماء الباردِ العَذْب. ويُنشد لأبي عبدالرحمن العطوي (نحو 250هـ):
لمَّا رأيتُ الدَّهرَ دَهْرَ الجاهلِ
ولمْ أرَ المَغْبُونَ غيرَ العَاقِلِ
شَرِبتُ خَمْراً مِن خُمُورِ بابلِ
فصِرْتُ مِن عَقْلي على مَراحِلِ
والسُّكرُ طلبٌ حَثِيثٌ لغيابِ الوعي، وتحوُّله إلى أحلامٍ وخيال.
إن الوعي بالأخطار والسعيُّ لتجاوزها صنعَ حضارةً ممتدَّةً، قامت على تقليل المخاطر، وحفظ الروح، وتفادي ما يحيط بالإنسان مما يتلفه أو يشق عليه في حياته. إن سعي الإنسان إلى كل هذا صنع تلك الحضارات على مر العصور، بداية من صنع سُلَّمٍ نصعد عليه بدل التَّعلُّق في الشجر والجُدُرِ، وتلافي السقوط، وصولاً إلى غزو الفضاء والبحث عن حياة أخرى في الكواكب تُؤمِّن حياة الإنسان لو تدمرت الأرض؛ مرده إلى هذا العامل. بل إن صنع قنبلة ذرية وَعَى الإنسان قُوَّتها التدميرية منعَ حُروباً كثيرة أن تقع، تذهب فيها الأرواح الكثيرة، ومعهم الأخضر واليابس.
هذا الوعي لعنة على الفرد، لكنه نعمةٌ على المجتمع الإنساني الكبير. لأنه يُحافظ عليه، ويسعى به للتقدم والتحضر.
والوعي الإنساني على أنواع ثلاثة:
وعي مُؤرِّق
وعي مُحايد
وعي زَائِف
فالوعي المؤرق سبق طَرفٌ من الحديث عنه. وهذا الوعي مرتبط بالعقل والقدرة على فهم كُنْه الأشياء ومساراتها. وهو أقل أنواع الوعي حُضوراً في العقول والأفهام. يعيش صاحبُهُ يحملُ همَّه، لا يستطيع منه فكاكاً حتى لو أراد أن يدفنه في مقبرة الإهمال والتناسي. ويبلغ الأمر أن يرتفع شيئاً فشيئاً حتى يَلِد مولوداً يُسانده في إيْرَاق صاحبه، وجرِّ المعاناة له وهو القلق. قلقٌ من كل شيء. يُقْلِقُه صوتُ الإسعاف، وصوت الهاتف الذي يعلو رنينه. يقلقه عقبة كؤود تنغص عيشه، يُقلقُهُ المستقبلُ في كثير من تفاصيله. هذا القلقُ المُلِحُّ يتسلَّطُ عليه في خَلواته التي يلجأُ إليها ليَهْدأَ وَعْيُه الذي يُعذِّبُه. هذا الوعيُّ المؤرِّقُ يَتوارى تسلُّطُه إذا انهمكَ صاحبُهُ بعملٍ مُتَّصل مُضنٍ جسديّاً أو فكريّاً، وهذا لا يعدو أن يكون استراحةً قصيرة، كأنها استراحة المُحارب.
أما الوعي الزائف فهو على ضدِّه أكثرها انتشاراً وسيطرة على العقول. فأكثرُ الناس يعيشون في دائرة الوعي المُزيَّف. وأكثر الحمقى الذين يُسيؤون للناس ويهاجمونهم بمجرد الاختلاف على أمرٍ من الأمور يعيشون تحت ظلال الوعي الزائف. بل إن الذين يستبيحون الدماء أخطرَ مَن يعتنقون هذا الوعي الزائف. وهذا الوعي الزائف طوَّح بمشركي قريش بعيداً عن الإسلام، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذل كل جهد وغاية لهدايتهم إليه، لكنَّ الوعي الزائف يغلقُ عقولهم بإيْمَانٍ ساذج، عِمَاده تعظيم الآباء والأجداد، وأنَّ ما كانوا فيه خيراً من دعوة التوحيد السامية، التي تتفق مع العقل والمنطق. ومهما كان الحِجَاجُ مُفْلجاً حُجَجَهم لم يكن مُمكناً أن يتحرَّك وَعْيُهم قيد أُنملة عمَّا قرَّ فيه من خزعبلات.
وممن يعيش تحت الوعي الزائف طلاب الموضة، واللاهثون خلفَ الصيحات الجديدة، والوسوم والفَوْرَات (الترندات) التي تجتاح منصات التواصل الاجتماعي. ومنهم بعضُ شياطين الإنس الذين يجوسون خلال وسائل التواصل، يُؤصِّلون لمثل هذا الوعي الزائف صَغُر شأنه أو كَبُر.
وممن يعيش تحت الوعي الزائف الذين يُصدِّقون ما لا يُصَدق عقلاً، بل يبلغ بأحدهم أن يصدق ما ثَبَت أنه كَذِب، وما لا يستقيم مع العقل من خُرافة. لكنّ الوعي الزائف جعلَ عقَلَهُ أصمَّ لا يسمع، فيستحيل الوعي الزائف حقيقةً خارجة عن سيطرة العقل، ويصبح الوعي قابلاً له، تُوجِّهُه مساراته الفكرية والعقلية.
وأول مَن وقع تحت طائلة الوعي الزائف إبليس، حين هداه وَعْيُهُ الزائفُ إلى أنه خير من آدم وأضل منه، فقال (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) (الأعراف12).
ولهذا فكل من ظن أنه خير من أخيه من باب البَطَرِ والغُرُور فهو مشارك لإبليس في صفة من صفاته، مهما صَغُر هذا الوعي والوَهْمُ.
والوعي الزائف يكون مُرتكزُهُ اعتناق أفكارٍ اعتناقَ عبادة، حتى تُصبح مسَيِّرة للوعي، وتُفسِّر كلَّ حَدَثٍ على ضوء هذه الأفكار. فالوعي الزائف يركبُ العاطفة ويُخاطبها، ويدغدغ المشاعر، فيُريح العقل، لأنه يحوله إلى تبني القوالب الجاهزة. وخير مثال على ذلك نظرية المؤامرة، التي تشُلُّ التفكير في سُنَّة التدافع والسَّيْرورة التاريخية، فيصبحُ معها الوعي مُكبَّلاً بوثاقها، وتحت سيطرتها. بل إن الخروج من الوعي الزائف عسيرٌ صعب، يحتاج الوعي ليخرج منه إلى صدمة قوية تُحيطه بالشَّكِّ. والشكُّ أول مراتب اليقين إن جاوزها، وإلا عاد أدراجه إلى قوالب الوعي المصبوبة يركنُ إليها، ويأنس بالتَّقوقع داخلها.
ويغلبُ على أصحاب هذا الوعي الزائف كثرةُ الحديث الذي يتحول إلى هذر، ثم يسلك طريق الكذب في محاولة للدفاع المستميت عن الأفكار التي يؤمن بها دون تمحيص واختبار. سواء كانت أفكاراً جيدة أو خرافية أو تدميرية.
والوعي الزائف يحمل تضاداً عجيباً، فإنك تجد عالماً بارزاً في علم من العلوم يؤمن بل يتبنى أفكاراً خرافية، كأن يعبد بقرة، أو يدافع عن تناسخ الأرواح، وبضده تجد عالماً آخر لا يؤمن بوجود إله لهذا الكون وما فيه البتة، مع أنهما علمياً من مدرسة واحدة وتخصص واحد.
أما الوعي المُحَايد فهو وعي البَلِيدِ الذي لا تُحرِّكه الأحداثُ، ولا يتأثر بالمواقف التي تمر به. وهذا الحيادُ حيادُ العاجز، فلا هو الذي يَعْلُو وَعْيُهُ فيكون من أهل العقول الخَلَّاقَة المبدعة، ولا هو الذي يُقاتل من أجل وعي زائف، فيمكن أن أصفه بأنه يعيش بدون وعي وبدون تفكير إلَّا في نفسه. وأصفه أيضاً بأنه بلغ الغاية في الأنانية التي تراها في حركاته وسكناته.
تصنيف الوعي
إذا صنفنا الوعي من حيث أثره في المجتمع المحيط بالإنسان نجده على النحو التالي:
- الوعي المؤرق
مفيدٌ للمجتمعات، به يقوم كل فرد بواجباته، ويساهم في عملية بناء المجتمع، وبهذا الوعي المتجسد في هذا الفرد تُبْنى الحضارة والتقدم العلمي في كل المجالات، وبقدر فائدته للمجتمع فإنه قَيْدٌ ثقيل على صاحبه، يجعلُ حياةَ صاحبه سامية لكن هذا السمو على حساب صاحبه.
- الوعي المحايد
لا فائدة منه لصاحبه ولا للمجتمعات التي يحيا فيها هذا الصِّنفُ؛ لأن حامله يعيش لنفسه، وفي النهاية يضرُّ نفسه ولا يقدِّم شيئاً لمجتمعه سوى تحميله مسؤولية أفعاله التي تقوم على الأنانية ومبدأ (أنا وبعدي الطوفان). ولعل بعض إنجازاته ظاهراً تتعارض مع وصفنا له بصاحب الوعي المحايد، لكن نظرة فاحصة تبين أن هذه المنجزات بنيت على أشلاء آخرين، كالأسرة أو الأصدقاء، فمن ثَمَّ أصبح ضرر إنجازه مُتعدِّياً على غيره.
- الوعي الزائف
ضررهُ للمجتمعات أكثر من نفعه، فهو كالخمر إثمها أكبر من نفعها. لكنه في أحيان يُطوَّعُ لخدمة الوعي المؤرق النَّافع الذي تعلو به المجتمعات في سلم العلوم والحضارة. فيصبح خادماً مطيعاً سَلِس القياد له. وذلك بجعل من يحملون هذا الوعي جزءاً من منظومة تساهم في عمل إنساني وحضاري، يحمل وَعْياً به، لكنه وعي موجه يخلو من ذاتية توجهه لو انحرف المسار، بل يستمر في الطريق كما تسير المنظومة. وهذا بالضبط ما تقوم عليه سياسة القطيع، حيث تظهر الهدف السامي وفي دهاليزه الخفية السم الناقع، فلا يجد الوعي الزائف أي غضاضة في السير مع هذا الوعي الزائف لأنه وعي منقوص لا تدخل إليه الشكوك ولا التساؤلات. وهذا الوعي الزائف هو أخطر أنواع الوعي، وأضرها على البشرية منذ خليقتها.