مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

جميل البارودي.. مندوب السعودية وأفصح خطباء الأمم المتحدة

محمد بن عبدالله السيف: الرياض

 


جميل البارودي متحدثاً إلى عمر السقاف، وزير الدولة للشؤون الخارجية

مضى عليَّ وقت طويل وأنا أبحث عن أي معلومة ذات صلة بالسيد جميل البارودي، اللبناني المسيحي، الذي تعيّن لسنوات طويلة مندوباً للمملكة العربية السعودية لدى هيئة الأمم المتحدة، والذي ارتبط اسمه طويلاً بهذه المنظمة الدولية، فكان أحد أبرز الفاعلين فيها، والمساهمين في عضوية لجانها المتعددة، وقد شهدت ردهاتها صولاته وجولاته، كما شهدت قاعتها صوتَه الجهوري، ومداخلاته الجريئة، التي لم يكن يغلفها بطابع الدبلوماسية، رغم ارتدائه لردائها عقوداً طويلة.
ويأتي اهتمامي بهذه الشخصية الدبلوماسية، المثيرة للجدل، ضمن اهتمامي بالكتابة والترجمة والتعريف بعدد من الأعلام الذين خدموا السعودية في هيئة الأمم المتحدة، سواءً في مقرها الرئيس، نيويورك، أو في فرعها الأوروبي، جنيف. وقد عرّفتُ سابقاً بالسفير سمير الشهابي، والدكتور عمر حِليق، والسفير أحمد عبدالجبار، والأستاذ عبدالعزيز المنقور، رغم أنه لم يكن ضمن الوفد السعودي، لكنه عمل ملحقاً ثقافياً في أمريكا سنوات طويلة، وارتبط بعلاقة صداقة وزمالة مع أولئك.
المعلومات عن جميل البارودي شحيحة، خصوصاً ما يتعلق بنشأته ودراسته وانتقاله المبكر من لبنان إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولماذا انتقل أصلاً؟! هل هو للدراسة أم للعمل؟ وهل كانت أمريكا هي وجهته الأولى أم أنه استقر وعمل في دول قبلها؟
وكنتُ قد جمعتُ أخباراً صحافية عنه، ودوّنتُ معلومات بشأنه من عبدالعزيز المنقور، الذي عرفه عن قُرب، ثم أمدني الباحث المنقب الصديق لطفي فؤاد نعمان بحوار صحافي مع جميل البارودي أجراه معه من نيويورك الصحافي العريق المؤرخ رفيق خليل المعلوف، ونشره في صحيفة (النهار) اللبنانية عام 1971م، وفيه سلّط البارودي الضوء على بداياته ونشأته وأسباب انتقاله من لبنان إلى بريطانيا ثم أمريكا، وقصة انضمامه للوفد السعودي المشارك في التوقيع على ميثاق منظمة هيئة الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو عام 1945م، وغير ذلك.

المولد والنشأة
وقبل عرض شيء مما ورد في ذلك اللقاء الصحافي أقول إن جميل البارودي من مواليد سوق الغرب في لبنان عام 1905م، ودرس في الجامعة الأمريكية في بيروت وتخرج فيها عام 1926م، ثم سافر إلى فرنسا وبريطانيا. ووالده مراد البارودي شخصية اجتماعية وسياسية معروفة. ويذكر الدكتور سمير الصليبي في كتابه (سوق الغرب في ذاكرتي)، أن مراد البارودي أنهى دراسته الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت متخصصاً بالكيمياء والصيدلية. و(كانت له مكانة مرموقة في البلاد، وهو المتكلم اللبق، والسياسي القدير، والعالم الكبير). ويضيف الصليبي: اشتهرت صيدليته في محلة باب إدريس في بيروت، وصُنفت كإحدى أشهر (الأجزاخانات) في السلطنة العثمانية. فمنحه السلطان عبدالحميد الثاني لقب البكوية لمآثره العديدة. وقد ترأس محفل الشرق الكبير للماسونية في بيروت.
ولجميل البارودي أخ اسمه بهيج، هو الآخر تخرج في كلية الصيدلة بالجامعة الأمريكية في بيروت. وله أخت اسمها سامية، فازت عام 1935م بلقب ملكة جمال سوريا ولبنان، ثم اشتركت في مسابقة ملكة جمال الكون في بلجيكا، ونالت وصافة الملكة ثم تزوّجت شارل قرم، رجل الأعمال اللبناني والمثقف الشهير، الذي كان يتخذ وقتها من نيويورك مستقراً، ولديه مكتب في شارع وول ستريت يمارس فيه تجارته الواسعة في التصدير والاستيراد، وهو آنذاك وكيل شركة فورد في الشرق الأوسط. وكان زواجهما عام 1936م، واستقرت سامية مع زوجها في نيويورك، ورُزقا بأربعة من الأولاد، هم: داود، وحيرام، وفرجين، ومادلين.


من اليمين: جميل البارودي، الأمير متعب بن عبدالعزيز، الأمير فيصل بن سعد الأول، أحمد الشقيري 1957م.

السفر إلى بريطانيا
وعوداً إلى الحوار المنشور في (النهار)، وصف الصحافي رفيق المعلوف السفير جميل البارودي في مقدمة حواره بقوله: (.. الممثل الدائم للمملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة. رجل في الستينات، يتحدث بلهجة لبنانية أصيلة، يضحك دائماً، يُهدد بإصبعه كل من يتجرأ على تحديه. جميع المندوبين يتسابقون إلى أخذ رضاه ومصافحته، خوفاً من لسانه).
ومضى يقول له: (أرغب في الكتابة عنك. لديك تاريخ حافل في الأمم المتحدة، 26 عاماً أمضيتَها تدافع عن العرب في المنظمة الدولية).
ضحك البارودي، وأجاب: (يا ابني شو بدَّك تعرف، ما في شيء بيستاهل).
أخذ البارودي الصحافي المعلوف إلى مقعد منزوٍ، وقال له: (معك نصف ساعة فقط، لأنني مرتبط بحفلة كوكتيل عند الأتراك. هؤلاء الأتراك أصحابنا. هل تعلم أنني وِلدتُ تركيَّاً؟ كان حكمهم، رغم بشاعته، حكماً حقيقياً، فيه مساواة. البستاني كان وزير البوسطة في الأستانة).
أثناء الحوار تقدَّمتْ إليهما فتاة جميلة تعمل في هيئة الأمم المتحدة تحمل رسالة إلى السفير البارودي. أخذ البارودي الرسالة ودعاها إلى أخذ المكافأة. لم تكن المكافأة إلا قبلة منه على خدها! وبقدر سرورها، فقد تراجعت خجلاً شاكرةً، فالتفت البارودي إلى محاوره قائلاً: (يا ابني أحسن مكافأة تقدمها إلى امرأة هو تقبيلُها).
ومضى يقول: أين كنا في الحديث؟
فرد عليه المعلوف قائلاً: (أنت أعتق المندوبين، ارو لي عن حياتك وتجربتك في المجتمع الدولي وخارجه).
أجاب البارودي: (القصة طويلة، تركتُ لبنان وعمري 24 عاماً، وتوجهتُ إلى لندن، حيث عملتُ في التجارة، في الاستيراد والتصدير وفي تمويل المشاريع الكيميائية).
ومضى البارودي يشرح ما تعرّض له في عام 1937م، يقول: (وقعتْ لي حادثة تعرَّضتُ خلالها لملاحقة سكوتلاند يارد (الشرطة). والقصة أنني عملتُ لصالح الحبشة ضد إيطاليا خلال الحرب الحبشية، وأرسلتُ الأسلحة إليهم. يا أخي كانوا عم بيكذبوا، لم يكونوا على الحياد إلا بالاسم. وعلى كل حال توقفتُ عن نشاطي مُجبراً).

إلى نيويورك
بعد عامين من هذا الموقف، غادر جميل البارودي بريطانيا إلى نيويورك، وذلك بناءً على طلب زوج أخته سامية، شارل قرم، كي يقوم بمساعدته في تنظيم الجناح اللبناني في معرض نيويورك الدولي، فسافر جميل إلى نيويورك وتواصل مع السيد عبدالله بيهم، رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك، الذي طلب منه تأمين عقود الاتفاقيات اللازمة لإقامة الجناح اللبناني.
ويذكر الدكتور سمير صليبي أنه لم يكن في وارد تفكير جميل البارودي البقاء في نيويورك، فقد حزم أمره على العودة إلى بريطانيا، لكن شارل قرم نصحه بالبقاء في أمريكا، لأن مجالات العمل فيها أوسع، والفرص أكبر، كما أن الحرب التي بدأت للتو قد تدوم طويلاً. فبقي جميل في نيويورك ومنحته المدينة لقب (مواطن شرف).
يقول جميل البارودي: (لم أفكر في البقاء في نيويورك، بل كنت عازماً على العودة إلى لندن، لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية حال دون تحقيق أمنيتي).

مع الجنرال بيتان
خلال إقامة جميل البارودي في أمريكا تعرّف إلى السفير هنري هيك، سفير المارشال الفرنسي فيليب بيتان. وفي تلك الفترة طلب منه الأمريكيون ترتيب الدعاية الحربية باللغة العربية، لكنه رفض. لذلك استجوبته وكالة (إف بي آي) عن علاقته بالألمان، وعن علاقته بالزعيم الفرنسي بيتان وحكومته، وعن مصادر أمواله؟! فقال لهم: (علاقتي ببيتان كعلاقتكم به، حكومتكم تعترف به. فلماذا لا أعترف به؟ وبالنسبة إلى مصادر أموالي، فأنا غني، ومالي والحمد لله يكفيني). وأضاف: (إذا لم يعجبكم تصرفي فأعطوني تأشيرة خروج، والسلام عليكم).
يعلق جميل البارودي قائلاً: (في النهاية كانوا لطفاء إذ اعتذروا عن تصرفهم هذا، وقالوا إن استجوابهم لي إنما كان مجرد استجواب روتيني).
وبعد عامين من هذا الموقف، طلب منه الأمريكيون العمل في مجهودات الحرب، لكنه رفض، ثم طلبوا منه العمل في جامعة برنستون لتدريس الضباط الأمريكيين اللغة العربية وتاريخ الشرق الأوسط، فوافق، وعمل أيضاً، في تلك الفترة، عضواً في مجلس مجلة (المختار)، النسخة العربية من مجلة (ريدرز دايجست).



مع الأمير فيصل بن عبدالعزيز
يذكر جميل البارودي في لقائه مع (النهار) أن الأمير فيصل بن عبدالعزيز، وزير الخارجية، وبرفقة شقيقه الأمير خالد بن عبدالعزيز، زارا أمريكا، عام 1943م، وقابلا رئيسها فرانكلين روزفلت. وأنه تعرّف إليهما أثناء زيارتهما هذه.
ومن كلامه يُفهم أنَّ هذه الزيارة هي السبب وهي البداية للعلاقة التي نشأت بين الأمير فيصل وجميل البارودي. لكن عبدالعزيز المنقور ذكر لي أن البارودي تعرّف أول ما تعرّف إلى الأمير فيصل في لندن في إحدى زيارات الأمير فيصل إليها، وهو ما يؤكده المؤرخ سمير صليبي الذي ذكر أنه أثناء إقامة البارودي في بريطانيا بعد سفره إليها تعرّف إلى الأمير فيصل بن عبدالعزيز. يقول: (وشاءت الصدف أنه أثناء وجوده في لندن، علُقت صحبته بالأمير الشاب، فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، الذي كان يمثّل والده في بعض المؤتمرات العالمية، فتوثّقت بينهما عُرى الصداقة). ولم يذكر صليبي تاريخ الزيارة، التي يبدو لي أنها زيارة الأمير فيصل بن عبدالعزيز حينما رأس وفد بلاده المشارك في مؤتمر الدائرة المستديرة في لندن في شهر فبراير من عام 1939م، قُبيل مغادرة جميل البارودي بريطانيا إلى أمريكا.
ومهما يكن من أمر، فدونما شك أُعجب الأمير فيصل بن عبدالعزيز بقدرات البارودي ومهاراته، لذلك حينما زار أمريكا عام 1945م، للمشاركة في توقيع ميثاق هيئة الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو، طلب منه الانضمام إلى الوفد السعودي ثم عرض عليه بعد التوقيع تنظيم المكتب السعودي في نيويورك، وهو المكتب الذي سيحتضن الوفد السعودي الدائم لدى هيئة الأمم المتحدة، لتبدأ فصول قصة دبلوماسية، مميزة ومثيرة، امتدت أكثر من ثلاثين عاماً في ردهات هذه المنظمة الدولية.
وفي يناير 1946م، قام الملك عبدالعزيز آل سعود بزيارته التاريخية إلى مصر الملكية، والتقى فيها الملك فاروق، وقد حرص الأمير فيصل على دعوة جميل البارودي لهذه الزيارة ولقاء والده، وهذا ما كان. يذكر جميل البارودي أن أخ الملك عبدالعزيز، قال له وهو في مصر: (نريدك في نيويورك لتأسيس المكتب السعودي). ولم يذكر جميل اسم أخ الملك، الذي هو الأمير المستشار عبدالله بن عبدالرحمن، الذي كان في معيّة الملك عبدالعزيز في تلك الزيارة.
وبعد مصر زار البارودي الرياض صحبة الأمير فيصل بن عبدالعزيز، كما توجّه على وجه السرعة، إلى لبنان لزيارة عائلته هناك، وقد أبلغه أخوه بهيج أن النائب وديع نعيم يسأل عنه، فذهب إليه، وطلب منه زيارة الرئيس بشارة الخوري، الذي كان يريد مزيداً من الإيضاح عن مؤتمر سان فرانسيسكو. وفي لقاء البارودي مع الشيخ بشارة الخوري، طرح عليه أسئلة محرجة كان من بينها هذا السؤال: (لماذا تنتهجون سياسة لا تتمشى مع الاستقلال؟ ولماذا تسايرون أمريكا؟ إن لبنان لا يزال تحت الانتداب). فأجابه الرئيس قائلاً: (يا جميل الأمريكان عندهم البومب اتوميك).
وبعد عودته من لبنان إلى أمريكا، يذكر أن السعودية طلبت منه مجدداً، بواسطة نائب رئيس شركة (أرامكو)، واسمه ثري ديوس، المساهمة في إنشاء البعثة السعودية إلى الأمم المتحدة. يقول البارودي: (قبلتُ شرط أن تنتهي مهمتي حالما يتم تركي البعثة. لكنني مازلت أرأس الوفد السعودي).


متحدثاً على منبر هيئة الأمم المتحدة

مواقف في المنظمة
من ذكريات البارودي في ردهات منظمة الأمم المتحدة، التي دونتها صحيفة (النهار)، أن السفير البريطاني في المنظمة قاطع حديثه كي يصافحه، فوقف البارودي مرحباً به، قائلاً: (أنا أحبكم أنتم الإنجليز، لكن هل تعرف لماذا؟ أحبكم لأنكم أصبحتم ضعفاء. بعدما كنتم تحكمون العالم. أنا دائماً مع الضعفاء). فضحك المندوب البريطاني، وقال له: (شكراً، الحق معك)، ثم انسحب بدبلوماسية.
ويذكر البارودي قصة حصلت له مع الرئيس السوفياتي خروشوف عندما زار هيئة الأمم المتحدة عام 1960م. يقول البارودي: (كان مقعد الرئيس السوفياتي وراء مقعدي. وقبل أن تبدأ جلسة الجمعية العمومية، صافحتُ خروشوف، رغم تعارض مبادئي الملكية مع مبادئه، وقلت له: أنا خائف من الجلوس بالقرب منك. ضحك خروشوف، وسألني عن السبب. فأجبته: لستُ خائفاً منك، بل من إمكان وجود قنبلة زمنية تحت مقعدك قد تنفجر في أية لحظة، وتصيبني شظاياها وتقتلني. وبالطبع لم تنفجر القنبلة لأنها كانت موجودة في فكري فقط، لكن الفلاح الأوكراني فجَّر قنبلة عندما استعمل حذاءه كمطرقة!).
ويذكر مساعيه من وراء الكواليس أثناء أزمة كوبا. يقول: (أثناء أزمة كوبا التي وقف خلالها العالم على شفير الحرب، بذلتُ مساعي من وراء الكواليس، وعملتُ على تهدئة الوضع، وأعتقد أن المنظمة لم تواجه في تاريخها أزمة حادة وخطرة كالتي واجهتها خلال صراع كينيدي - خروشوف).
ومن مواقفه الجريئة في قاعة هيئة الأمم المتحدة، ما ذكره لي عبدالعزيز المنقور أن البارودي ومن على منبر هيئة الأمم المتحدة هاجم دولة أمريكا، واصفاً إياها بأنها دولة لا حضارة لها، سوى (الهامبورغر).
وقد شارك جميل البارودي عام 1948م في صياغة ميثاق حقوق الإنسان. وقد أشرتُ إلى ذلك فيما كتبتُه عن عمر حِليق، الذي قال إن جميل البارودي تحدث عن الميثاق المقترح، وأنه لا يلائم المبادئ والعادات ومفهوم الحقوق والواجبات التي يُدين بها المجتمع السعودي، وهي مبادئ وعادات تختلف، في بعض الأحوال، اختلافات جوهرية عن المبادئ التي نصَّ عليها الميثاق، والمستمدة من الحضارة الغربية والتراث الغربي.


مستمعاً باهتمام إلى أحد المندوبين

موقف حرج
وفي شهر أكتوبر 1978م، الموافق ذو القعدة 1398هـ، وبعد أن أمضى البارودي أكثر من ثلاثين عاماً في ردهات المنظمة، وصال وجال فيها، وبعد أن بلغ من العمر 73 عاماً خرج إلى وكالات الأنباء العالمية من مقر إقامته بتصريح انتقد فيه الدور السوري في لبنان، وهو حديث أدلى به من تلقاء نفسه، مُعبراً فيه عن موقفه الشخصي، متخطياً بذلك مراجعه العليا في السعودية، وهو أمر مستغرب منه بعد كل هذه الخبرة الطويلة في الدبلوماسية، لاسيما وأنه ما زال مندوباً للسعودية في منظمة الأمم المتحدة، الأمر الذي أحرج القيادة السعودية، ليخرج وزير الإعلام الدكتور محمد عبده يماني بتصريح بثته وكالة الأنباء السعودية وكان عنوانه: (جميل البارودي لم يُكلف بانتقاد الدور السوري في لبنان). وفي تفاصيل الخبر أن المملكة العربية السعودية فوجئت بما تناقلته وكالات الأنباء على لسان مندوب المملكة في الأمم المتحدة جميل البارودي من انتقاد موجَّه للدور السوري في لبنان، ولفخامة الرئيس حافظ الأسد شخصياً. وأكد الوزير يماني أن البارودي لم يكلف بأي شيء في هذا الصدد. وقد اتخذت المملكة الإجراءات اللازمة لوضع الأمور في نصابها الصحيح.

وفاته.. وما قيل عنه
لم تطل خدمة البارودي في رئاسة الوفد السعودي بعد هذا التصريح، وكان قد بدأ في المعاناة مع مرض لازمه طيلة عامي 77 و78، فتوفي بعد خمسة أشهر بالتمام والكمال. وكانت وفاته (مارس 1979م) في مستشفى لينوكس هيل في نيويورك. وقد نعى الدكتور كورت فالدهايم، الأمين العام للأمم المتحدة، جميلَ البارودي وقال: (إن الأمم المتحدة قد خسرت واحداً من أقدم أصدقائها وأكثرهم تمتعاً بحب الآخرين. إن ذكاء السفير البارودي وبلاغته ومدخراته الواسعة من المعلومات جعلته منذ وقت طويل علامة مألوفة ومحبوبة في الأمم المتحدة).
وقد وجّه كورت فالدهايم بإنزال عَلَم منظمة الأمم المتحدة إلى نصف السارية تقديراً وتثميناً لجهود جميل البارودي.
ومن الإشارات التي حصلتُ عليها عن البارودي، بعد وفاته، ما ذكره السفير أركادي شفتشينكو، الذي كان مندوباً للاتحاد السوفيتي في المنظمة قبل أن ينشق عن نظامه، ويبقى في نيويورك حتى وفاته. فقد أشار في كتابه (القطيعة مع موسكو)، الذي يُعد أخطر كتاب عن نشاط أسرار جهاز المخابرات السوفياتي (كي جي بي)، والصادر عام 1985م. إلى البارودي ووصفه بأنه: (كان شخصية نابضة بالحيوية، ومتحدثاً رائعاً، ومن دون شك رجلاً مبدعاً موهوباً. وكان يستطيع أن يتحدث في مسائل مختلفة كلياً إلى لجان مختلفة في اليوم ذاته من دون أن يستعين بأية نصوص جاهزة. ولكن مجرد ظهوره أمام مجلس الأمن أو مؤسسات الأمم المتحدة الأخرى كان يغيظ الممثلين المجتمعين، إذ كانوا يعلمون جيداً أن البارودي يستطيع أن يقول وسيقول الحقيقة المجردة لأي شخص من دون أية مجاملة دبلوماسية. لم يكن يميز أو يُمالئ سواء تجاه دولة عظمى أو دولة صغيرة. كانت قوته تكمن في عقله المتفوق ومعرفته الموسوعية، بالإضافة إلى أنه كان يتمتع بحرية كاملة عملياً للتحدث باسم المملكة العربية السعودية من دون تعليمات. وكان يتحدث عادة لفترة طويلة، وويل لأي شخص كان يحاول مقاطعة كلامه، إذ كان يتحول نحو طالب الإيجاز فيفحصه ويفحص عيوب دولته بأشد العبارات. وكان القدماء في الأمم المتحدة يعرفون أن من الأفضل ألا يحاولوا أبداً مقاطعته).
وأشار ديفيد بوسكو في كتابه (خمسة يحكمون الجميع) إلى أن عدداً من الدبلوماسيين في هيئة الأمم المتحدة قد بنوا سمعتهم على خطبهم حول الشرق الأوسط، وذكر منهم جميل البارودي، وقال عنه: (كان من أبرز خطباء تلك الفترة. وحينما كان يخطو خطوات واسعة داخل غرفة المجلس، كانت تخرج من فمه الكلمات، وكان الناس يتدفقون من أجل مشاهدة العرض. وعندما كان يتلقى دعوة للحديث كان يتوجَّه إلى طاولة حدوة الحصان ببطء، متعمداً وضع ذراعيه وراء ظهره. وكان في أغلب الأحيان يتحدث أكثر من ساعة، وأمامه ورقة واحدة مكتوب عليها ملاحظات، وكان ينتقل بسهولة من الحديث عن النهب الإسرائيلي إلى شرور الرأسمالية الحديثة. وكان يتمتع بمسحة من المرح مقارنة ببعض السفراء العرب الآخرين). ويضيف: (كان يستطيع الارتجال كما يستطيع إلقاء المحاضرات، وكان يستمتع بالتهكم على السفراء الأمريكيين، الذين كانوا يتجولون ذهاباً وإياباً أثناء الجلسات المطولة. وذات مرة دخل السفير الأمريكي جورج بوش (الأب) إلى الغرفة بينما كان البارودي في ذروة انطلاقه، وعندئذ حيَّاه قائلاً من دون أن تطرف له عين: إنني سعيد برؤيتك يا سيد بوش، تفضل اجلس، لدي بعض الأشياء لأقولها فيما يخص شركات النفط، وأريدك أن تسمع ذلك)!
ويذكر الكاتب سمير عطاالله أنه عندما كان جميل البارودي يتجه إلى منبر مجلس الأمن كان المندوب الأمريكي يتوتر، والمندوب الإسرائيلي يحتقن، فالرجل البسيط المظهر، ذو النظارتين الطبيتين البسيطتين سوف يلقي خطاباً طويلاً ومريراً، ولن يتوقف عند شيء. يدخل من باب تاريخي ويخرج من آخر. يحلل حدث الصباح ويستنكر حدث المساء، ولا يجد مندوب إسرائيل ما يقوله سوى أن مندوب السعودية الدائم رجل معاد للصهيونية. ويضيف عطاالله أن جورج بوش الأب، حينما كان مندوباً لدولته في الأمم المتحدة كان يقول على المرء الحذر من الوقوف في وجه البارودي. ومن غير البارودي يقول لجون كنيدي: لقد خرب والدك هذه البلاد عندما أغرقها بالويسكي المهرّب.
***
وبعد وفاة جميل البارودي رشحت السعودية الشيخ جميل الحجيلان، الذي كان سفيراً لبلاده في فرنسا، للعمل رئيساً للوفد السعودي إلى الأمم المتحدة (راجع تفاصيل ذلك فيما كتبته بعنوان: الحجيلان بين البارودي وسمير الشهابي. المجلة العربية العدد 546). وحيثُ لم يُباشر جميل الحجيلان في هذا المنصب الأممي، فقد عُيّن مكانه السفير سمير الشهابي، الذي باشر عمله لفترة ثم رأت القيادة السعودية نقله مؤقتاً إلى السفارة السعودية في باكستان، عشية الاجتياح السوفياتي لدولة أفغانستان. (انظر تفاصيل ذلك فيما كتبته عنه في المجلة العربية، العدد 544) فكُلف السفير جعفر اللقاني، الذي كان يعمل مساعداً للسفير سمير الشهابي، وظل قائماً بالأعمال لمدة ثلاثة أعوام، عاد بعدها الشهابي إلى عمله رئيساً للوفد السعودي الدائم لدى هيئة الأمم المتحدة.
***
ومن غرائب جميل البارودي ما رواه لي الأستاذ عبدالعزيز المنقور أنه كان طيلة عمله في نيويورك يسكن في فندق بسيط. وكان أعضاء الوفد وبقية أعضاء الوفود العربية وبخاصة أصدقاؤه الحميميون يظنون أنه عازب، إلى أن قرأ أحد أعضاء الوفد السعودي خبراً في إحدى الصحف الأمريكية عن فوز طالبة في إحدى المسابقات الرياضية، واسم والدها كما ورد في الخبر: جميل البارودي، فسألوه إن كانت ابنته، فقال: نعم! فتبيّن لهم أنه متزوج، وأن زوجته الأمريكية تقيم مع أبنائه في إحدى ضواحي نيويورك.
وحينما أبدى أصدقاؤه دهشتهم من عدم معرفتهم بزواجه ردّ عليهم قائلاً:هذا شأن يخصني وحدي!
تلك كانت دهشة زملائه، أما دهشتي أنا فقد كانت حينما قرأتُ أنه قد أرسل ابنه ليتعلم اللغة العربية في معهد شملان في لبنان في الستينات الميلادية.
ولحكايا جميل البارودي بقية وبقايا..

ذو صلة