مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

فنون العمارة بين عالمية ومحلية اللغة والطراز

مع بدايات القرن العشرين وتحولاته الكبيرة والمتسارعة في كل الميادين الصناعية والعلمية والتكنولوجية، كان تأثير ذلك ظهور أفكار جديدة للعمارة بما يتماشى مع المجتمع وطرق الإنتاج والمواد وظهور السيارة وغيرها من المنتجات الجديدة، ورأينا ما عرف بـ(عمارة الحداثة) تهتم بالجوانب الوظيفية والإنشائية للعمارة وتعطي الجانب الجمالي لغة جديدة خالية من ارتباطات الماضي من خلال أشكال هندسية مجردة ومبسطة، كما هو الحال في الفن حيث التحول من الانطباعية إلى التجريد والتكعيبية و(دي ستيل) في محاولة لخلق لغة فنية عالمية جديدة قابلة للتعامل مع الواقع الجديد.
هذا التحول رافقه في العمارة اهتمام بتطوير لغة معمارية تجريدية وعالمية التطبيق رأينا ذلك في أعمال رواد الحداثة مع لو كوربوزيه وميس فان در روهه ووالتر جروبيوس. عمارة تستجيب لمتطلبات المجتمع الحديث وتعكس قيم وحياة هذا المجتمع، حيث أطلق كوربوزيه مقولته الشهيرة معبرة عن التحول في مفهوم العمارة (البيت آلة للعيش) (The House is a Machine for living). وبها تغيرت الأولوية إلى الاهتمام بالمنفعة والوظيفة والأداء على الشكل والطراز. كما هو الحال مع ميس فان در روهه في عمارة (المينيماليزم) (Less is More) من بساطة الشكل وتجريديته مع ما رأيناه في البيت الزجاجي وبناية سيجرام في نيويورك حيث إن المكعب المعدني الزجاجي الأسود هو شكل العمارة الحديث القابل للتطبيق في كل الأماكن ولكل الوظائف.
ومع أن هذا التطور في العمارة من حيث الشكل والمفهوم والعلاقات كان مرتبطاً بتطور المجتمع الصناعي الرأسمالي في أوروبا، إلا أن حقيقة التوسع الأوروبي في العالم استعمارياً وسيطرته على معظم دول العالم بدءاً من القرن التاسع عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين، جعل من هذه العمارة الجديدة تعبيراً عالمياً عن الحداثة ورمزاً للتقدم ومواكبة العصر وقابلاً للتطبيق في كل مكان، بل واجب التقبل والتحقيق ولو على حساب هدم وإلغاء الغالبية الكبرى من موروث البيئة المبنية في العالم المتلقي، كما حصل في كثير من البلدان ومنها بلداننا العربية خلال مرحلة الاستعمار وما بعد الاستعمار في الخمسينات إلى السبعينات.
و لكن هذا التوجه نحو عمارة عالمية من حيث الإنتاج والتطبيق والشكل تحت مسمى العمارة الحديثة أو (الطراز العالمي) (International Style) واجه بدءاً من الستينات من القرن الماضي تحديات وانتقادات فيما عرف لاحقاً بـ(البوست مودرن Postmodern) أو (عمارة ما بعد الحداثة) خصوصاً مع تحول الاهتمام من كل ما هو جديد وصناعي وتكنولوجي إلى إعادة اكتشاف الماضي والثقافة والمحلية والعفوية. وهذا ما ظهر من خلال كتب مهمة من قبيل كتاب روبيرت فنتوري (التعقيد والتناقض في العمارة) 1966 وكتاب برنارد رودوفسكي (عمارة بدون معماريين) 1964 وكتاب أيموس رابابورت (البيت، الشكل والثقافة) 1969. هذا التوجه نحو التاريخ والثقافة وعمارة المجتمعات المحلية غيّر مفهوم العمارة من عالمية التوجه إلى محلية ومناطقية الاهتمام والهوية.
في عالمنا العربي كان رائد هذا التوجه بعيداً عن عمارة العالمية، المعمار الأشهر عربياً ودولياً (حسن فتحي) منذ الأربعينات والخمسينات وحتى في أوج سطوة عمارة الحداثة، كان يدعو لعمارة تلائم المكان والبيئة والمجتمع، دعوة للعودة لعمارة الاستجابة للظروف المحلية من بيئة ومواد وطرق إنشاء وأشكال وطرز، ليس فقط من خلال الكتب كما في كتابه (عمارة الفقراء) 1969 بل من خلال أعماله المعمارية وخصوصاً (قرية القرنة) التي قدمت مثالاً لعمارة محلية ريفية تحاكي العمارة الريفية العفوية في النوبة، ولاحقاً عمارة مدينية تستقي من الموروث الثقافي خصوصاً المملوكي والعثماني في القاهرة وغيرها من المدن. مع الثمانينات وبدايات التحول من الانبهار بالعالم الغربي واستيراد العمارة العالمية إلى الاهتمام بالتراث المحلي والثقافة (العربية الإسلامية)، حيث ظهرت أنماط معمارية تسهم في هذا التوجه لإنتاج عمارة منتمية للمكان والثقافة والبيئة تحت مسميات متعددة من العمارة الإسلامية والعمارة العفوية والعمارة المجتمعية والعمارة المناطقية وغيرها، ومن الأمثلة على ذلك مجمع قصر الحكم في وسط مدينة الرياض من أعمال المعماري راسم بدران الفائز بجائزة الأغا خان 1986 حيث استلهم من عمارة منطقة نجد لينتج لغة معمارية متماشية مع المكان والناس، ومجموعة مساجد كمسجد البحر للمعماري عبدالواحد الوكيل تلميذ حسن فتحي ومكمل لأفكاره وتجاربه، مستمداً عمارته من العمارة الحجازية والطراز المملوكي في مزج ما بين خصوصية المكان (المحلية) وعمومية ما عرف بالبحث عن هوية العمارة الإسلامية. بالإضافة إلى تجارب أكثر نضجا في أماكن مختلفة من العالم من مثل أعمال تشارلز كوريا ودوشي بالهند.
مع نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين خفت هذا التوجه مع ازدياد الانفتاح الاقتصادي والثقافي والمجتمعي فيما عرف بالعولمة ومواكبة تطورات عصر التحول الرقمي الديجتال ودخول الكمبيوتر إلى عملية الإنتاج والتصميم المعماري، عادت الدفة إلى أصحاب نظرية عالمية الطراز واللغة المعمارية خصوصاً مع ظهور تهديد التغير المناخي على مستوى الكوكب وحتمية وإلزامية الاهتمام بالبيئة والتنمية المستدامة. انعكس ذلك في عمارة متعددة الأوجه من العمارة الخضراء والعمارة التكنولوجية العالية (هاي تك Hi-Tech) وعمارة البارامترية (Parametric) إلى الحداثة الجديدة. كل تلك التوجهات أثرت لغات معمارية حالية تتراوح بين بساطة الشكل المجرد مع دقة وتعقيد التفاصيل اعتماداً على طرق الإنتاج المتطورة حساسية التركيب كما في (ذي لاين) و(برج خليفة) و(متحف اللوفر) أبوظبي وغيرها، وبين الأشكال المنحنية شديدة التعقيد والتشكيل في محاكاة للطبيعة اعتماداً على النمذجة الرقمية، كما رأينا في أعمال المعمارية العالمية الراحلة زها حديد في مركز الملك عبدالعزيز بالرياض أو مركز حيدر علييف في باكو وغيرها من المباني. وزاد من هذا الدور لعالمية العمارة سيطرة رأس المال المتحرك، والمطورون عابرو الحدود، ولم يعد أحد يسأل إذا كانت دبي تشبه سنغافورة أو الرياض تشبه شنغهاي، فقد عدنا إلى عالمية العمارة ونسينا سؤال الهوية في غمرة الانبهار بما ينتجه الكمبيوتر من حلول وبدائل وأشكال تتحدى الخيال والمكان.

ذو صلة