في الجاهلية والإسلام كان الشعر ذكورياً بامتياز, حتى ادعى بعض النقاد العرب أن إبداع الشاعرة العربية ظل طوال تاريخه متشحاً بالسواد، ومجللاً بالدموع والأحزان, منذ أن وقفت (نائحة بني سليم) سيدة الشعر النسائي العربي تـرثي أخاها في سوق عـكاظ. ويذكر الدكتور أحمد الحوفي في كتابه (المرأة في الشعر الجاهلي)، أن الشواعر كن يحاكين الرجال الشعراء، ولكن أجنحتهن قعدت بهن عن التحليق في أجوائهم، حتى ليخيل إلى القارئ أن حواء العرب تظل معقودة اللسان، معطلة الحس، صماء الوجدان، إلى أن تقوم مناحة فتحل عقدة لسانها، وتتفجر ينابيع الحس في وجدانها.
كسرت ليلى الأخيلية شاعرة بني (عامر) هذا المنوال، فكانت من أهم شاعرات العرب المتقدمات في الإسلام. عاشت في الجاهلية والإسلام وشهدت العصر الذهبي للشعر في العهد الأموي، ولم يتقدمها أحد من النساء سوى الخنساء. توفيت سنة (85) للهجرة في منطقة (ساوة) في محافظة (ذي قار) في العراق, وهي في طريقها إلى (الري) في إيران. كانت فارعة الطول، أخاذة الجمال، دعجاء العينين، حسنة المشي، مبسومة الثغر. فاقت أكثر الفحول من الشعراء، وشهدوا لها بالفصاحة والإبداع ومنهم (الفرزدق) الذي فضلها على نفسه، و(أبو نواس) الذي حفظ الكثير من قصائدها، و(أبو تمـام) الذي ضرب بشعرها المثل، و(أبو العلاء المعري) الذي وصف شعرها بأنه (حسـن ظاهره). نشأت منذ صغرها مع ابن عمها (توبة بن الحميـر) فعشقها وعشقته، ورفض أبوها تزويجها منه. أما قصة إنقاذها له بعد أن هـدر دمه فمعروفة: زارها يوماً فظهرت إليه من خيامها حاسرة الرأس، سافرة الوجه على غير عادتها ففطن لغرابة ذلك فهرب ونجا من الموت.
مدحته وأشادت في خصاله حتى قال لها (معاوية بن أبي سفيان): ويحك، لقد جـزت بتوبة قدره. فأجابته بأنها مقصـرة بحقه ونعته، وقالت:
أتـتـه المنايـــا حيــن تم تمــــامه
وأقصر عن كل قرن يطاوله
وكان كليث الغاب يحمي عرينه
وترضـــى به أشبالــه وحلائلـه
غصوب، حليم حين يـطلب حلمـه
وسـم زعاف لا تصاب مقاتله
ناجزها أحد جلساء الحجاج بن يوسف الثقفي يوماً، وهو أسماء بن خارجة الفزاري، قصد إحراجها فقال بأنها تصف هذا الرجل (توبة) بشيء لا تعرفه العرب عنه، فردت ليلى: والله لو رأيته لوددت كل فتاة شابة في بيتك حاملاً منه، فكأنما فـقيء في وجهه حب الرمان لخجله.
ولما كانت في سفر، مرت على قبر (توبة) وأبت إلا أن تسلـم عليه راكبة، وكانت بجانب القبر بومة، فزعت فطارت في وجه الجمل فجـفـل ورماها من فوقه على رأسها فماتت ودفنت جنبه.
شاعرات أمويات
امتاز العهد الأموي بكونه العصر الذهبي للشعر عموماً والغزل خصوصاً، والعوامل التي دعت له، دعت أيضاً إلى قيام الغناء والموسيقى.
وممن برعن في شعر الغزل في هذا العصر، أم الكرام بنت المعتصم بن صمادح، وهي من شاعرات القرن الخامس الهجري، فكانت تقول في حبيبها الذي كان أحد فتيان قصر أبيها:
ألا ليت شعري هل من سبيل لخلوة
ينزه عنــها سمـع كل مراقــــــب
ويا عجباً أشتاق خـلوة مـن غـدا
ومثواه ما بين الحشا والترائب
ومنهن: بثينة بنت حبا بن ثعلبة العذرية, شاعرة اشتهرت بأخبارها مع جميل بن معمر وهو من قومها، توفي قبلها فرثته ولم تعش بعده طويلاً.
ومما قالته فيه:
توعدني قومي بقتلي وقتله
فقلت: اقتلوني وأخرجوه من الذنب
ولا تتبعوه بعد قتلي أذيةً
كفـى بالـذي يلقـاه مـن شــدة الحــب
ومما ينسب كذلك إلى ليلى العامرية صاحبة قيس التي عاشت في فترة خلافة مروان بن الحكم وعبدالملك بن مروان في القرن الأول من الهجرة في بادية العرب قولها:
لم يكن المجنون في حالة
إلا وقد كنت كمـا كانـا
لكنه باح بسر الهوى
وإنني قد ذبت كتمانا
ولها في المعنى نفسه:
باح مجنون عامر بهواه
وكتمت الهوى فمت بوجدي
فإذا كان في القيامة نودي:
من قتيل الهوى؟ تقدمت وحدي
شاعرات عباسيات
وفي العصر العباسي الذي امتاز بازدهار الدولة وسمو شأنها ظهر لعـلية ابنة المهدي العباسي -أخت هارون الرشيد– ديوان شعر متعدد الأغراض. وكانت من أحسن نساء زمانها وجهاً وأظرفهن خلقاً وأوفرهن عقلاً وأدباً، ومن أشعارها:
ليس خطب الهوى بخطب يسير
ليس ينبيك عنه مثل خبير
ليس أمر الهوى يدبر
بالرأي ولا بالقياس والتفكير
ونلاحظ هنا أن علية لم يمنعها حياؤها من البوح بمشاعرها، مع أنه كان يروى عنها أنها كانت أزهد الناس.
أما الخنساء بنت التيحان فقد أحبت جحوش الخفاجي حباً عذرياً، وهي العاشقة القائلة:
إن لنا بالشام لو نستطيعه
خليلاً لنا يا تيحان مصافيـــــــا
نعد له الأيام من حب ذكره
ونحصي له يا تيحان اللياليــــا
فليت المطايا قد رفعنك مصعداً
تجوب بأيديها الحزون الفيافيا
ومن شاعرات هذا العصر اللاتي اندفعن في تصوير الحب والشوق إلى مدى لم يبلغ كثير من الشعراء جرأته، الشاعرة عشرقة المحاربية التي جاهرت بحبها مع عفة الألفاظ حين قالت:
جريت مع العشاق في حلبة الهوى
ففقتهم سبقاً وجئت على رسلي
فما لبس العشاق من حلل الهوى
ولا خلعوا إلا الثياب التي أبلي
ولا شربوا كأساً من الحب مرةً
ولا حلوةً إلا شرابهم فضلي
أما ابنة قبيلتها أم الضحاك المحاربية فكانت أجرأ, حيث كانت تحب زوجها حباً جماً ولكنه طلقها فأسرفت في تولهها فيه فقالت:
سألت المحبين الذين تحملوا
تباريح هذا الحب في سالف الدهر
فقالوا: شفاء الحب حب يزيله
لآخر، أو نأي طويل على هجر
وهذه شاعرة عاشقة أخرى تدعى خيرة بنت أبي ضيغم البلوية، عشقت ابن عم لها، فعلم أهلها بذلك فحجبوها عنه، فقالت شعراً تصف فيه مرارة الهجر وشماتة العـذال وسـهد الهوى، وتدعو ربها وتلوذ به (سبحانه) كلما أحست ضعفاً، فهي عفيفة تـحب، وتـحب أن تبقى على عفتها والتزامها، فها هي تقول:
وبتنا خلاف الحي لا نحن منهم
ولا نحن بالأعداء مختلطان
نرجي يقيناً ساقط الطل والندى
من الليل بردا ليلةٍ عطران
نلوذ بذكر الله عنا من الصبا
إذا كان قلبانا به يجفان
ونصدر عن أمر العفاف وربما
نقعنا غليل النفس بالرشفان
وهذه شاعرة عاشقة اسمها ضاحية الهلالية شعرها من أرق شعر الغزل، حيث تقول:
وإني لأنوي القصد ثم يردنــــي
عن القصد ميلات الهوى فأميل
وما وجد مسجون بصنعاء موثق
بساقية من حبس الأمير كبـــول
وما ليل مولى مسلم بجريــــــرة
له بعدما نام العيون عويـــــــــل
بأكثر مني لوعةً يوم راعني
فراق حبيب ما إليه سبيــــــــــل
غزل الشاعرات الأندلسيات
ازدهر الغزل في العصر الأندلسي ازدهاراً قل نظيره، وقد ساعد على إذكاء جذوته عناصر مختلفة منها جمال الطبيعة، وغناها، والتحضر، والتقدم العمراني، والترف الاجتماعي والمادي، وكثرة مجالس اللهو، والشراب، والغناء، والسبي الدائم، الذي أرخص اقتناء الجواري والغلمان في أسواق نخاسة ورقيق ذلك الزمان.
أما أهم أعلام الغزل في هذا العصر فالشاعرة حمدون بن زياد، ونزهون الغرناطية، وولادة بنت المستكفي، هذا وإن كان شعر ابن زيدون في (ولادة) أروع من أن يـحجب إلا أن اختيارنا من غزل (الولادة) به قد يكون أقرب إلى موضوع المقال.
وهنا نتوقف عند موقف (للولادة بنت المستكفي) يبين مجاهرتها وجـرأتها في الغزل حينما صادف يوماً أن سمعت الشاعر ابن زيدون يلقي قصيدة فاستفردت به فطلب صورتها فأرسلت له الصورة ومعها هذه الأبيات:
ترقـب إذا جن الظــــــــلام زيارتي
فإني رأيت الــــــليل أكتم للســـر
وبي منك ما لو كان للبدر ما بــدا
وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسر
وبعدما زارته قالت تودعه:
ودع الصبر محب ودعك
ذائع من سره ما استودعك
يا أخا البدر سناءً وسنا
حفظ الله زماناً أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم
بت أشكو قصر الليل معك
والحديث عن شاعرات الأندلس مما أفاض فيه الباحثون والنقاد، لا يعود لكثرتهن فحسب، بل إلى اقتحامهن معظم فنون الشعر وأبوابه، وعن جرأتهن على طرق مواضيع لم تكن شاعرات المشرق ليجرأن على الاقتراب منها، فصارت الشاعرة تتغزل بالرجل كما يتغزل بها، بل وتتفاخر في ذلك. فقد اشتـهر عن الولادة بنت المستكفي صاحبة ابن زيدون أنها كانت تكتب بالذهب مفاخرة بأنوثتها على الطراز الأيمن من عـصابتها:
أنا والله أصلح للمــــــعالي
وأمــــشي مشيتي وأتيه تيها
وعلى الطراز الأيسر:
أمكـن عاشقي من صحن خدي
وأمنح قبلتي من يشتهيها
كانت (ولادة) امرأة ذكية حاذقة متأدبة بالفنون والآداب قوية الشخصية، ذات جمال وذكاء طغيا على ثقافتها وأدبها. يقول بدر الدين الصديق صاحب كتاب (نزهة الأبصار والأسماع في أخبار ذوات القناع) عن ولادة إنها كانت (سرية النفس شريفة الأصل لا تترك أحداً يتصرف في مجلسها ولا بالدرهم الفرد). ولما قـتل المستكفي (416هـ - 1025م) انفلتت من القيود الأخلاقية والاجتماعية وجعلت دارها منتدى لرجال الأدب، وانصرفت إلى كثير من أسباب اللهو والطرب. لقد بلغ غزل المرأة بالرجل في الأندلس باعاً لم يـسبق من الحرية في المجاهرة حتى كن يجاهرن بعشقهن للرجال وبتغزلهن بهم من غير أن يخشين في ذلك لومة لائم وبدون رادع من خجل أو شيء من حياء، الأمر الذي ننأى عن سرده أو التطرق إليه في هذا المقال. وقد ذاع من ذلك قصص كثيرة وشعر وافر، فقد أحبت ولادة بنت المستكفي الشاعر المشهور ابن زيدون وأحبها، وذكرت المصادر أنها كانت البادئة في طلب اللقاء به.
ومن الشاعرات اللواتي جاهرن بالغزل بمن أحببن، الشاعرة حفصة بنت الحاج الركونية، التي كانت على علاقة عشق مع الشاعر أبي جعفر ابن سعيد، فقد تناقلت لها المصادر الأدبية كثيراً من شعرها الغزلي الرقيق، ومن ذلك قولها:
أغار عليك من عيني رقيبي
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني خبأتك في عـيوني
إلى يوم القيامة ما كفانــي
وكتبت له ذات مرة تقول:
أزورك أم تزور فإن قلبي
إلى ما ملتم أبدا يميـــل
فثغري مورد عذب زلال
وفرع ذؤابتي ظل ظليل
وقد أملت أن تظمأ وتضحى
إذا وافى إليك بي المقيل
فعجل بالجواب فما جميل
أناتك عن بثينة يا جميل
ولما طمع أمير غرناطة الموحدي أبو سعيد عثمان بن عبد المؤمن في حبها، وقتل حبيبها أبا جعفر سنة (559 هـ/1198م) حزنت عليه حفصة حزناً عظيماً ولازمت لبس الحداد وجاهرت برثائه والبكاء عليه، فنهاها المؤمن عن ذلك فما امتنعت، فلم يجد بـداً من تهديدها فأبت وأصرت.
ونلاحظ كذلك مما وصلنا من أشعار النساء الأندلسيات، أن منهن من كانت تترسم خـطى الشعراء من السلف في أساليبهم وصورهم ولغتهم وتعابيرهم، ومنهن من مال إلى الرقة والتجديد في التعبير واللغة والصورة والأسلوب.
إن ما وصلنا من شعر نساء الأندلس يصلح شاهداً على ظروف المرأة الأندلسية وشخصيتها وطباعها آنئذ, ولكن لا بد من الافتراض أن كثيراً من النتاج الإبداعي للمرأة الأندلسية لم يصل إلينا بفعل ما أصاب التراث الأندلسي من تدمير وضياع، بل ربما بسبب تحرج بعض مؤرخي الأدب الأندلسي من إيراد أشعار تلكم النساء.
ومن أمثلتهن نزهون بنت القلاعي الغرناطية (ت: 1155م) التي جاوزت أم الكرام في غزلها بالوزير أبي بكر بن سعيد وعشقها له حين قالت:
لله در الليالي ما أحيسنـــــــها
وما أحيسن منا ليلة الأحد
لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت
عين الرقيب فلم تنظر إلى أحد
أبصرت شمس الضحى في ساعدي قمر
بل ريم خازمة في ساعدي أسد
تورد كتب التراث الأندلسي أخباراً كثيرة عن نزهون القلاعية وحضورها مجالس الرجال ومساجلتهم ومهاجاتهم، فقد كانت موصوفة بخفة الروح والطباع النادرة. ومن الأخبار الدالة على مخالطتها للرجال ومناكفتها لهم أنه روي أنها كانت تقرأ يوماً على أبي بكر المخزومي الأعمى فدخل عليها أبو بكر الكتندي، فقال مخاطباً الشاعر المخزومي الأعمى:
لو كنت تبصر من تجالسه...
وصمت المخزومي برهة يفكر، ولم يحر جواباً، فأجابت (نزهون):
.... لغدوت أخرس من خلاخله
البدر يطلع من أزرته
والغصن يمرح في غلائله
وبسبب رقة طبع هذه الشاعرة وخفة ظلها فقد كـلـف الشعراء بمحادثتها ومراسلتها ومنهم أبو بكر بن سعيد، وأبو بكر المخزومي، وابن قزمان الشاعر وأبو بكر الكتندي، كما كانت تجالسهم وتهاجيهم بسلاطة لسانها.
شاعرات معاصرات
نازك الملائكة شاعرة وناقدة من العراق، ولدت ببغداد عام 1923. نشأت في بيئة أدبية خالصة من أم شاعرة (سلمى عبد الرزاق) وأب شاعر وخال شاعر.
أقرب مالاح لنا من رائحة الغزل الصريح من مجموع (57) قصيدة لها، قصيدة بعنوان (ثلج ونار) وهي قطعة عتاب غليظ لحبيب، موشاة بكبرياء قل نظيره في البشر، صلد كالحجر:
تسأل ماذا أقصد؟
لا، دعني، لا تسأل
لا تطرق بوابة هذا الركن المقفل
اتركني يحجب أسراري ستر مسدل
إن وراء الستار وروداً قد تذبل
إن أنا كاشفتك، إن عريت رؤى حبي
وزوايا حافلة باللهفة في قلبي
فستغضب مني , سوف تثور على ذنبي
وسينبت تأنيبك أشواكاً في دربي
ثم ما تلبث أن تنهيها بهجمة عارمة وصفعة موجعة لهذا المتكبـر غير الآبه بها وبمشاعرها فتقول:
يا آدم لا تسأل.. حواؤك مطوية
في زاوية من قلبك حيرى منسية
ذلك ما شاءته أقدار مقضية
آدم مثل الثلج, وحواء نارية
ولها:
عـد لم يزل قلبي نشـيطاً حالمـاً
يشدو بحبـك لحنه المفتـون
عـد فالكآبة أغرقت بظـلالها
روحي فليلي أدمع وشجون
عـد لا تدع نفسي يعذبهـا الأسى
ويعض فيها خافق محـزون
عـد فالحياة إذا رجعت أشـعة
ومشـاعر سـحرية وفتـون
ولها العديد من التساؤلات الفلسفية المشروعة لإنسان ظل يبحث عن روحه ومستقره ووطنه حتى خـبت ذؤابة نوره وانطفأت شمعة روحه في قصيدة مؤثرة بعنوان (من أنا؟) لا مجال لذكرها مع قصائد الغزل.
ولمي زيادة افتتانها وحبها وغزلها المنثور بجبران خليل جبران، كما كتبت له تقول:
من مي إلى جبران:
(... جبران! لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب. إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه في المراقص والاجتماعات، ينمّي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألأ السطحي لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم، ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل القلوب عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة. ويفضلون أي غربة وأي شقاء (وهل من شقاء في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.
ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب الكثير الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير.
كيف أجسر على الإفضاء إليك
بهذا. وكيف أفرط فيه؟ لا أدري.
الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كنت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى.
حتى الكتابة ألوم نفسي عليها، لأني بها حرة كل هذه الحرية.. أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إن خير للبنت ألا تقرأ ولا تكتب).
ومن المغرب العربي برزت لنا الشاعرة مالكة العاصمي- وهي شاعرة على قدر كبير من التمرس والأهمية الشعرية والثقافية والعلمية, إذا ما قيس شعرها بنبوغ شاعرات عربيات مهمات جداً مثل: ناهضة ستار، دولة العباس، سهام شعاع، خديجة ماء العنين، إكرام العبدي، عائشة البصري، سلمى الخضراء الجيوسي، وهالا محمد.
ومن خلال بيان هذه الخواص نجد الشاعرة مالكة تعاتب نفسها وتعاقبها وتصطلي بنار نسغها وتتجرعه بصبر وإن كان نزغاً حارقاً مؤلماً، فلا بأس شرط أن يكون علاجاً ناجعاً للحب، ولكن هيهات لها ذلك!
وا حر قلباه ممن قلبه شـبـم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
مالي أكتم حباً قد بـرى جسدي
حتى تفجر كالنيران تضطرم...
وتتتابع تجليات الشاعرة بكل قوة مكشوفة وشجاعة لا تلوي على شيء:
وقالت ثريا
إذا كان هذا الدواء دوائي
كـلـيه إليا
متى جاء أخلو به
في خبائي
وأقتل خديه بين يديا
وأمتص من فيه خمرا حسيـا
فيصحو من السكر شيا فشيا
ولها من الشعر الفاضح أيضاً ما لا مجال للتطرق إليه في هذا المقال.
ولشاعرة الحرية فدوى طوقان دلو في الإفصاح عن مكنونات قلب فتاة صادفت رجلاً في طريق فأحبته، وتخيلت أنه فهم معنى نظراتها إليه فابتسم لها فعشقته، ثم راحت تسقي عشقها خيالاً حتى اتقدت جذوته واعتقدت أنه سيأتيها فانتظرته وظلـت... وظلـت تنتظره، ومع الانتظار اتقدت نار الشوق فيها ولم تجد من يرويها، فأذابت حتى الصخر:
تمضي وأمضي مع العابرين
وما بيننا غير نجوى النظر
وطيف ابتسامة على شفتيك
ووهج هيام بعمقي استعر
وقد هبط الليل حلو الغموض
خلوب الرؤى عبقري الصور
وماجت مع الريح خضر الكروم
مشعشعة ببياض القمر
وفاض الوجود شـعوراً وشـعراً
وذاب مع الوجد حتى الحجر
ولسعاد الصباح نقرأ من قصـيدة (أنت أدرى):
ياحبيبي لو فرشـت الدرب من أجلك زهــرا
وملأت الجـو أضـواء وألحـاناً وعـطـرا
ومددت الهـدب في غابة أحـلامك جـســــرا
ونسـجت الأمسـيات البيض للأشـواق وكرا
هانئاً يقطر طيباً دافئـاً ينبض ســــحرا
لبدا الكون لنـا من نفحـة الفردوس قـصرا
نحن فيـه وحـدنا للحـب أحرار وأســرى