مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

عُمر حِليق.. وأول كتاب طُبع في الرياض

محمد بن عبدالله السيف: الرياض




(الملك) الأمير فيصل بن عبدالعزيز عام ١٩٥٣ وعلى يساره عمر حليق في اجتماعات هيئة الأمم المتحدة

قبل سبعين عاماً دفعت مطابع الرياض، التي تأسست عام 1955م على يد الشيخ حمد الجاسر وشركائه، بأول كتاب طُبع في مدينة الرياض. ولعل المثير في هذا الكتاب، الذي يكتسب أهمية تاريخية كونه أول كتاب طبع في مدينة الرياض؛ أن مؤلفه لم يكن وقتها سعوديَّاً، ولم يكن مُقيماً في مدينة الرياض؛ بل في نيويورك، كما أن موضوع الكتاب لم يكن موضوعاً دينياً، كما هو متوقع، عطفاً على أن النخبة المثقفة آنذاك في مدينة الرياض تنتمي في غالبها إلى طلبة العلم الشرعي، إذ لم يكن متوافراً في الرياض وقتها إلا كلية الشريعة والمعهد الديني. فما قصة هذا الكتاب ومَنْ يكون مؤلفه؟!
المولد والنشأة
مؤلف الكتاب هو الدكتور عمر كامل حليق، الذي ولد في حيفا فلسطين، بُعيد إعلان وعد بلفور، فهو ينتمي إلى الجيل العربي الذي نشأ وتشكَّل وعيه في ظل الانتداب البريطاني على فلسطين. وبعد أن نال شهادة الثانوية، غادر إلى أمريكا لمواصلة تعليمه الجامعي، وحصل على البكالوريوس في تخصُّص علم الاقتصاد.
في معهد الشؤون العربية
فور تخرّج عمر حليق من الجامعة، التحق بالعمل في مكتب الشؤون العربية الأمريكية في نيويورك، وعمِل سكرتيراً للمعهد مدةً من الزمن، وكان يوقِّع بعضاً من مقالاته بهذا المسمى الوظيفي، وتحديداً في مقالاته التي كان ينشرها في مجلة (الرسالة) المصرية. وقد واصل عمر حليق دراسته العالية، وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كولومبيا في نيويورك قبل عام 1950م.
الوفد السعودي الدائم
أثناء عمله في نيويورك، تعرّف مع مجموعة من أبناء وطنه، وغيرهم إلى الأمير فيصل بن عبدالعزيز، وزير الخارجية السعودي، الذي كان يحضر اجتماعات هيئة الأمم المتحدة، وقد دعا بعضاً من أولئك إلى الانضمام والعمل ضمن الوفد السعودي، الذي بدأ يتشكَّل في هيئة الأمم المتحدة، فكان عُمر حِليق أحد المنضمين لذلك الوفد. ولا أعرف بالضبط متى كان التحاقه بالعمل، لكننا نجده في عام 1953م، يعمل مندوباً للسعودية لدى اللجنة الاقتصادية والمالية في هيئة الأمم المتحدة. ولا شك أن التحاقه بالوفد السعودي الدائم سيكون قبل ذلك التاريخ بوقتٍ كافٍ يؤهله للعمل مُمثلاً للسعودية في إحدى لجان هيئة الأمم المتحدة.



عمر حِليق كاتباً ومؤلفاً
بدأ عمر حليق الكتابة في وقت مبكر، فور حصوله على الشهادة الجامعية. ولعل أقدم مقالة حصلتُ عليها له هي مقالته المعنونة بـ(قدمٌ في الجحيم)، المنشورة في مجلة (الثقافة) في شهر يونيو 1945م، ثم توالت بعدها عشرات المقالات، في السياسة والاقتصاد والفكر والأدب. وكانت مجلة (الرسالة) هي أكثر مجلة نشرت له.
وأثناء عمله ضمن الوفد السعودي لدى هيئة الأمم المتحدة، أنجز كتابه هذا، الذي هو أول كتاب يُطبع في مدينة الرياض، ولذلك يستمد الكتاب قيمة تاريخية إلى جانب ما تضمَّنه من معلومات ذات أهمية في العملية التنموية، التي شهدتها السعودية إلى عام صدوره 1955م. كما أنه هو الكتاب الأول لعمر حليق، وستتلوه كتب أخرى في الاقتصاد والفكر والسياسة. واحتفاءً بهذا الكتاب، نشرت مجلة (اليمامة) في عدديها: العاشر والحادي عشر، يونيو ويوليو 1955م، فصلاً من فصوله، وهو الفصل المعنون بـ(العادات والتقاليد). وكان عمر حليق قد انضم إلى مجلة (اليمامة) كاتباً، فقد كتب مقالةً بعنوان (صُنعة الشعر) في عدد مايو 1954م، ومقالة تالية بعنوان (أشعة الشمس والرمال ومستقبل الجزيرة العربية). وأفرَد دراسة مطوّلة نُشرت على 6 حلقات، بعنوان (الرق في نطاق التشريع الدولي). ونشر عرضاً مطولاً لعدد من المراجع الأجنبية التي تناولت تاريخ المملكة العربية السعودية.
مؤلفات أخرى
بعد هذا الكتاب، أصدر عمر حليق عدة كتب تدور في معظمها حول الاقتصاد. ثم بدأ في التأليف في الفكر والسياسة. وكان أول مؤلفاته في هذه المرحلة كتاب (دور الماركسية في الاشتراكية العربية)، ثم كتاب (الاشتراكيون العرب والشيوعية الدولية)، الذي صدر عام 1966م في بيروت، قبل أن ينتقل إلى النشر في مدينة جدة من خلال (الدار السعودية للنشر) التي أسّسها الناشر محمد صلاح دندراوي، بعد لجوئه إلى السعودية. وقد نشر عمر حليق عبرها خمسة مؤلفات. نشر في عام 1967م أربعة منها، هي:
- موسكو وإسرائيل.. عرض مدعم بالوثائق لجهود موسكو في خلق إسرائيل وإبقائها.
- حديث في السياسة السعودية.
- الثورة والدولة والوطن الأم.
- مآربهم في البترول العربي.
وكان عمر حليق قد انتقل في هذه الأثناء من نيويورك إلى العمل ضمن الوفد السعودي في هيئة الأمم المتحدة لدى مكتبها في جنيف بسويسرا.
وفي عام 1967م، أصدر عمر حليق كتابه (مآربهم في البترول العربي)، الذي صدر عن (الدار السعودية للنشر) في مدينة جدة، وقد شنَّ فيه عمر حليق والدار الناشرة له هجوماً على الأستاذ عبدالله الطريقي إثر مقالات كتبها، وتصريحات أدلى بها للصحافة العربية عن النفط العربي، مما تناولته وعرضتُه مطولاً في التقديم الذي كتبته عن عمر حليق في كتابه عن العمران، والصادر حديثاً.
وقد ظل يعمل ضمن المندوبية السعودية في جنيف إلى تقاعده في التسعينات الميلادية. وقد أشار الأستاذ سليمان البدير إلى زمالته له خلال المدة من عام 1989 إلى 1991م، وهو العام الذي غادر البدير المفوضية السعودية في جنيف.


عمر حليق في جنيف عام ١٩٨٩م مع زميله الأستاذ سليمان البدير

مع الشاعر أحمد عبدالجبار
طيلة عمله في نيويورك أو في جنيف، كان عمر حليق متواصلاً ومتفاعلاً مع ما تطرحه الصحافة السعودية. وسأعرض هنا لمثال واحد، حينما تداخل عبر صحيفة (عكاظ) وكتب فيها مقالاً مطولاً عن الشاعر السفير أحمد خليل عبدالجبار، الذي عمل لعقود طويلة في السلك الوظيفي والدبلوماسي، بدءاً من الديوان الملكي منذ عهد الملك عبدالعزيز ثم عمل معاوناً لرئيس ديوان النائب العام قبل أن ينتقل سفيراً في اليابان وفي غيرها، وانتهاءً بعمله رئيساً للوفد السعودي لدى هيئة الأمم في جنيف. وهو من مواليد مكة، وشاعر مطبوع، ويحمل الماجستير من جامعة جورج تاون.
وكانت جريدة (عكاظ) قد أثارت قضية الشاعر أحمد عبدالجبار وعزوفه عن النشر، عبر مقالة كتبها الأستاذ عبدالله عمر خياط، عاتَب فيها دور النشر السعودية لإهمالها النشر لإنتاج شاعر سعودي موهوب ومخضرم. كما كتب الأستاذ عزيز ضياء مقالة في الجريدة ذاتها، مُطالباً بتقديم الشاعر أحمد عبدالجبار للمحاكمة بتهمة (الزهد في الشهرة أو المرابطة في قوقعة الاستعلاء). وما أن قرأ عمر حليق مقالة عزيز ضياء حتى بعث رسالة طويلة، وصفتها عكاظ بأنها (مرافعة دفاع من سويسرا)، مكونة من 9 صفحات، يُعدد فيها مآثر الشاعر وتاريخه الفكري وأسباب زهده عن النشر، ويتساءل في عنوان المرافعة: (هل الزهد في الشهرة مما يستوجب المحاكمة؟).
أوضح عمر حليق أنه تربطه صداقة وصلة وزمالة عمل بالشاعر أحمد عبدالجبار، لأكثر من ثلاثين عاماً، وله اطلاع على معظم المنشور من إنتاجه الشعري والنثري أيضاً، سواءً ما كتبه باللغة العربية أو ما ترجم منه إلى الإيطالية، والإنجليزية، والفرنسية، والألمانية. وأبان في مرافعته، أن للشاعر أحمد عبدالجبار معاذيره الخصوصية وظروفه الاستثنائية بشأن عزوفه عن النشر، فالزهد في الإعلان الذاتي هو من طبع هذا الشاعر ومزاجه، ومما اكتسبه من ظروف العمل. فقد تدرَّب على فكر العمل الدبلوماسي الطويل، وقبله العمل في الديوان الملكي، مما يستوجب الصمت، والميل إلى التكتم، ويُلزم صاحبه بسلوكٍ ونهجٍ يقتصد في التعبير عما يُحب ويكره، وما يجوز ولا يجوز القول به، ناهيك بالإعلان عنه. فلا يفرض نفسه على الغير، ولكنه لا يتردد في الجواب على التساؤل. وهذا الوضع من المزاج والمهنة لا تُبيح لصاحبها أن يطرق أبواب الصحف، ودور النشر، لا لأنه يستعلي عليها، بل لأنها لم تسأله، فلا هو قريبٌ منها، ولا هو منخرطٌ في حلقاتها، بحكم اغترابه في خدمة الوطن. ولذلك فإنتاج أحمد عبدالجبار يكاد يكون مجهولاً في وطنه، وإن كان بعضه منشوراً في منابر عربية وأجنبية هي في متناول الباحثين.
وأضاف حليق: وله أيضاً بحوث في صميم الشؤون السعودية المحلية، منها دراسة صدرت في سلسلة مقالات، نشرتها مجلة (المكشوف)، بعنوان (ويسألونك عن الأدب في الحجاز)، ودراسة أخرى نُشرت أيضاً بعنوان (الشعر النبطي في نجد). ولا أظن أن دور النشر السعودية أو حلقات الجامعات السعودية استطلعت مثل هذا الإنتاج المفيد لتعريف الوسط الأدبي والجامعي به، ليس فحسب للتعريف بأحمد عبدالجبار، فالرجل زاهد في الشهرة، كما يقول الأستاذ عزيز ضياء. وعلى سبيل المثال لموهبة هذا الشاعر، فإن أول قصيدةٍ له نُشرت في مجلة (المكشوف) البيروتية، وعمره بضع عشرة سنة فقط، طالباً في جامعة بيروت الأمريكية، أهداها إلى (الملاح التائه) الشاعر المصري علي محمود طه، ونقلت مجلة (الرسالة) عن مجلة (المكشوف) قصيدة الشاعر، ونشرتها عام 1939 بدون علم الشاعر، وبدون أن يكون معروفاً لمحرر (الرسالة).
وعن الاستعلاء، الذي وصف به عزيز ضياء الشاعر أحمد عبدالجبار، قال عمر حليق: (الاستعلاء وصفٌ بعيدٌ عن هذا الشاعر، بل العكس هو الوصف الأصدق؛ فارتباط أحمد عبدالجبار بالأهل والوطن منحوت كالوشم في كل قصيدةٍ له، نشرت أو لم تنشر، مثل قصيدة (من وحي العودة)، التي نشرتها مجلة (المنهل)، وسعى لنشرها محررها المرحوم عبدالقدوس الأنصاري، واستجمع من الشاعر حفنة من قصائده لينشرها في ديوان منفصل قبل غياب صاحب (المنهل)، ولست أدري ما جرى لتلك المجموعة بعد وفاته).
ويرى عمر حليق أن الشاعر أحمد عبدالجبار: (هو الأديب العربي الأول والوحيد الذي اختارته أكاديمية العلوم والفنون الإيطالية لجائزة الشعر عام 1980، من ضمن 350 مرشحاً لتلك الجائزة، ذات الوزن الدولي في عالم الفن والأدب والفكر، وهي المرة الأولى التي تُمنح لشاعر غير إيطالي. وقد اختارت هذه الأكاديمية الإيطالية الشاعر أحمد عبدالجبار عضواً عاملاً فيها، لا عضو شرف، وذلك تقديراً واعتزازاً للفن والفكر السعودي في شخصية شاعر فحل، أعتقد أن من الواجب القومي أن تستذكره وتُشغل به حلقات الفكر والأدب والفن في بلده، لأنه مقتدر على إثراء حركة الفن والفكر بالكثير من عطائه. والمطلع على إنتاجه يعلم أنه لا يُكثر من النظم ولا يرضى دائماً عمَّا ينظمه، فإما أن يحفظه في الدرج أو أن يمزقه، سامحه الله.. فبعض ما ضاع من إنتاجه حرامٌ أن يندثر، وهذا ما لاحظته أكاديمية العلوم والفنون الإيطالية عن مقام هذا الشاعر في الخطاب الذي ألقاه وزير الثقافة الإيطالي عند تقديمه جائزة الشعر لأحمد عبدالجبار عام 1980).
مع جيهان السادات
أثناء بحثي عن مقالات عمر حليق وجدت له مقالة نشرها في مجلة (المجلة) عام 1989م، ويبدو لي أن هذه المقالة هي آخر ما كتب. وجاءت المقالة تعقيباً على حوار أجرته مجلة (المجلة) مع السيدة جيهان السادات. وقد فنّد عمر حليق كثيراً مما ذكرته في حوارها، وأنها تجاهلت حقائق ليس من المعقول أن تجهلها، وهي أستاذة أكاديمية تنشر المعرفة في أمريكا عن الشؤون العربية - اليهودية.

ذو صلة