منذ ظهر بشكل واسع خلال مرحلة الستينات من القرن الماضي؛ بات ما يعرف بفن الجرافيتي يمثل إشكالية وحالة جدالية. وما بين الرفض والقبول استمر هذا الفن في الانتشار مشكلاً عالماً خاصاً به. وبالرغم مما يسكنه من غموض؛ فهو اليوم أصبح فناً يعترف به، ويجد رواجاً واسعاً في معظم بلاد العالم. وهو فن بصري يمتاز بالتجديد والاختلاف عن الفنون الأخرى المتداولة التي نشاهدها في الصالات ومعارض الفنون كالتجريدية والتأثيرية والوحشية والتكعيبية.
فن الجرافيتي تجده أمام عينيك في الشارع على جدران الحوائط، وداخل الأنفاق والأسوار الخالية ووسائل المواصلات.. وفي كل مكان تقع عليه العين، تشاهد هذا الفن الذي يراه البعض مجرد شخبطة وتشويه وتلوث بصري. وتعريف الجرافيتي هو الكتابة أو الرسم على الجدران الخالية بعبارات ورسومات تلفت الأنظار، وتخاطب عقول الجماهير والحكومات، وتحرك مشاعرهم نحو قضايا الوطن. وهو ما يمكن اعتباره رسالة ووسيلة سهلة ومجانية للتعبير عن الرأي، ولكن بطريقة غير مرغوب فيها، أو بدون موافقة صاحب المكان، وهو ما يمثل اعتداء على حقوق الغير، وعملاً ضد القانون في معظم دول العالم، ففي ألمانيا تتكلف الحكومة الألمانية 200 مليون يورو سنوياً من أجل إزالة وتنظيف الجدران التي يمارس عليها عشاق هذا الفن هوايتهم، بينما يؤكد الفنان التشكيلي بنيامين سويالا (إننا لا نجد أماكن كافية في مدينة بون لممارسة هذا الفن في الوقت الذي يجد الفنانون في مدينة لايبنريج مساحات كبيرة). كما تم ترميم رسم الجرافيتي (مادونا والطفل) الذي أصبح مدرجاً ضمن الآثار المحمية. أما الفنان الإنجليزي روبرت بانكس فهو حالة خاصة، حيث كان يخفي اسمه دائماً، ولكن جريدة الجارديان الإنجليزية توصلت إلى اسمه، ولا يعرف أحد حتى اليوم شكله بشكل مؤكد، حيث امتاز بانكس بالأعمال الجريئة التي غالباً ما تكون سياسية ضد الحروب والرأسمالية والنفاق والجشع، ويرى البعض بانكس الأكثر شهرة وعبقرية وموهبة وقدرة على تحريك الناس، ولفت أنظارهم وتفجير قضايا من خلال خطوط وريشة وفكرة، بينما يراه البعض إنساناً مخرباً وسيئ السمعة، ويعمل بطريقة غير شرعية وضد القانون، رغم أن رسوماته على جدران لندن وبرايتون وبريستول (مسقط رأسه)، وعلى جدران الفصل العنصري في الضفة الغربية وغزة في فلسطين؛ حصلت على شهرة كبيرة، وقد بيعت أعماله بمئات ألوف الدولارات، كما أن بانكس يحظى بإعجاب مجموعة من الفنانين أمثال براد بيت وأنجيلنا جولي، حيث يحرصون على اقتناء أعماله التي تتسم بالغرابة والغموض والجرأة.
وكلمة جرافيتي أصلها إيطالي (أجرافيتوب)، وتعني فن رسم الأحرف أو الصور على الأسوار والجدران، من أجل إيصال رسائل سياسية أو اجتماعية. وتعتبر فرنسا وإيطاليا من أهم المعاقل لفن الجرافيتي الذي ظهر في مطلع الستينات في أوروبا. وفي أوائل عهد هذا الفن كان الجرافيتي مرتبطاً بموسيقى الهيب هوب في نيويورك، وانتشر مع عام 1979 عندما افتتح الفنانان لي كونيس وفريدي؛ أول معرض للجرافيتي في روما. ويأتي أصل كلمة جرافيتى في تعريف آخر (graffito) أو (graffiti) التي تعني الخدش (scratchen)، ويمكن القول إن رسوم المغارات القديمة هي نوع من الجرافيتي، ويمكن العثور على أمثلة أولى للجرافيتي في روما وإيرلندا وتركيا واليونان، وفي مصر أيضاً أثناء الحملة الفرنسية (1798-1801)، كتبها جنود فرنسيون. وفي أمريكا عقب الحرب العالمية الثانية عام 1945 كتبت العصابات البلدية على جدران مواقع عامة لتحديد مقاطعتها، وكثيراً ما كانت الكتابات مرتبطة بحضارة موسيقى الهيب هوب والراب، ومع الوقت لم تعد للعادة علاقة بثقافات العصابات وأصبحت منتشرة، وكذلك معقدة وفنية أكثر.
وفنان الجرافيتي يظل مجهولاً وشبحاً مطارداً، ويرفض التوقيع باسمه غالباً، ويستعمل اسماً مستعاراً على العمل الذي قد ينال الإعجاب أو السخط والغضب، وبخاصة من جانبي الحكومات والأنظمة، بينما الفنان الإنجليزي بانكس وغيره يعرضون لوحاتهم في المعارض في كل أنحاء العالم.
عرف العالم اسم وتعريف الجرافيتي وانتشر استخدامه في العديد من المجالات كالدعاية والإعلان، والتعبير عن الرأي، فهو أسلوب متاح للتعبير عن الرأي أو إرسال رسالة سريعة ومختصرة ومعبرة وجديدة وفاعلة إلى الحكومات والأنظمة، وتعبير عن الرفض باستخدام وسيلة أكثر انتشاراً في الآونة الأخيرة، كما أنها باتت ذات تأثير قوي، ورغم ما يجده هذا الفن من رفض من شريحة كبيرة داخل المجتمعات خصوصاً الأوروبية، حيث يرونه عملاً تخريبياً وغير شرعي؛ فإنه تحول إلى فن يومي متجدد، ويراه البعض فناً أو رسماً أو كتابات، وبشكل عام يجري الرسم دون إذن صاحب الملك، ولذلك يعتبر انتهاكاً للقانون وتخريباً.
يقول روجر فراي في كتابه (الرؤية والصورة): إننا لا نستخدم في عملية الرؤية التي نمارسها أثناء اليوم أبصارنا بأي معنى جمالي على الإطلاق، ونحن نبصر ذلك القدر من الأشياء التي يهمنا أمرها. أما الجانب التشكيلي من المنظور، من لون وخط وشكل وحجم؛ فهذا ما لا نراه على الإطلاق. ويقول أروين أدمان في كتاب (الفنون والإنسان) الرسام لا يسعى في إذلال لمحاكاة الطبيعة، وليس هو المنطق الذي يعمد إلى إعطائنا نسخة طبق الأصل من الواقع، والمهم في كل هذا هو الحقيقة الجمالية أي الصفاء الحسي والمتعة التشكيلية التي يحس بها الفنان في لحظة معينة من لحظات الرؤيا، فيجسمها في الحجر أو على لوحة، والفنان يصل إلى هذه الحقيقة من خلال اللون والخط، ويقول عمار أبوبكر أحد أشهر فناني الجرافيتي في مصر إن فنان الجرافيتي يملك منبراً إعلامياً قوياً يستطيع من خلاله التحكم في فئة كبيرة من الناس، من خلال اختيار المكان والفكرة التي يناقشها الجرافيتي الذي يعتبر اليوم أداة للتعبير عن الآراء السياسية والاجتماعية، ووسيلة دعائية، ليصبح في الأخير نوعاً من أنواع الفن الحديث، كما ظهر هذا الفن بقوة في مصر مع حركة الألتراس، حيث يستخدمونه في التعبير عن أنفسهم وأفكارهم التي يريدون توصيلها إلى الشارع برسمها على الجدران في المناطق الشعبية والحيوية، حيث أصبح هناك تنافس بين الأفراد داخل الألتراس في الإبداع والفكر والتنفيذ ومناقشة القضايا العامة بجانب الدعاية لأنديتهم وتسجيل انتصارتها وبطولاتها.
وفي البرازيل الجرافيتي هو فن الشارع أو فن الحفر، وصوت المجتمع في الأماكن العامة، وصوت الجماعات المهمشة والشباب الذي يسعى إلى من يسمع صوته. ولم تكن أمريكا اللاتينية بعيدة عن ذلك، ويركز الجرافيتي في هذه البلاد على القضايا السياسية والكفاح ضد الحكومات والأنظمة الاستبدادية ومواجهة السلطات باستخدام طلاء الإيروسول أو رش السبراي، ويستخدم كتاب ورسامو الجرافيتي الخبراء أحجاماً مختلفة من صمامات رش السبراي للتحكم في انتشار وضغط الطلاء وإعادة ملء الأوعية لتوفير المال أو استخدام وسائل أخرى للطلاء الأقل ثمناً. وبالرغم من كون هذا الفن بعيداً عن الإعلام الشرعي أحياناً، ومع صرف السلطات الكثير من الأموال من أجل إزالة الجرافيتي؛ فإنه انتشر في الشوارع وعبر الحدود للكثير من الدول، وبخاصة مع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن.. وغيرها، ففي مصر لم يكن الجرافيتي معروفاً بشكل واسع حتى انطلقت ثورة 25 يناير 2011؛ فظهر هذا الفن في ميدان التحرير، وبخاصة على سور الجامعة الأمريكية، ثم انطلق إلى باقي المحافظات خصوصاً في الإسكندرية والسويس وبورسعيد، وظل هذا الفن يحظى من قبل الثوار باهتمام بالغ حتى اليوم.
وغالباً يستخدم بخاخ البوية في الرسوم، وأيضاً تستطيع استخدامه للتواقيع. أما قلم البوية فيستخدم للتواقيع، ولكن لا يمكن استخدامه للرسوم، وهناك أغطية خاصة للتحكم في مساحة الرش وشكل البقعة بنجاح، وتباع على حدة وتسمى بالقبعة، وأيضاً يستطيع جعل القبعة ترش بمساحة أصغر بطريقة يدوية، أما أدوات النوع الآخر (الجرفيتي المكتوب) فيستخدم لكتابة عبارات معينة ومقصودة، أو توقيع لاسمك، وكثيراً ما يستخدم للتخريب قلم البوية المعروف، (أقلام البوية مصنوعة مخصصة للجرافيتي ولها مقاسات مختلفة)، وهي علب معبأة ببوية ذات منفذ إسفنجي مقوى، وتكون مصنوعة ومخصصة لهذا الغرض.
ويؤكد العلماء والباحثون أن الإنسان مارس فن الجرافيتي منذ 30 ألف عام، حيث كان البشر الأوائل يقومون بالرسم على حوائط الكهوف باستخدام عظام الحيوانات، وقد مارسه الفراعنة والإغريق والرومان، وفي التاريخ المعاصر عرف الجرافيتي بشكله الحالي في عام 1920 في الولايات المتحدة الأمريكية عندما مارس بعض الأفارقة ذوي البشرة السمراء هذا الفن رسماً وكتابةً على الجدران بعبارات تندد بالتمييز العنصري والاضطهاد والسياسة التي تتبعها الحكومة الأمريكية ضد السود، ثم كان العام 1979 حيث أقيم أول معرض لهذا الفن في روما، ليصبح بعدها الجرافيتي أكثر انتشاراً، رغم ما واجه من صعوبات، وبخاصة أن هناك حكومات عديدة تحاربه وتضيق الخناق حوله بإصدار قوانين تجرمه وتعتبره تخريباً، وليس فناً. بينما عشاق هذا الفن يحاربون من أجل انتشاره دون النظر إلى ما يمثله أحياناً من اعتداء على حقوق الآخر ومخالفة القوانين.
ويمثل جرافيتي حالة جدالية في مختلف مدن العالم، فالذين يمارسونه ومعظمهم الشباب يرون أن ممارسة فن الجرافيتي حق من حقوقهم ووسيلة متاحة للتعبير عن آرائهم ومواقفهم السياسية ضد النظام السياسي في بلادهم، والجرافيتي ما هو إلا وسيلة للرفض، بينما النظام السياسي في هذه المدن يرى أن هذا الفن ضد الطبيعة، ويمثل نشازاً وتلوثاً بصرياً، بجانب ما يكلفه من أجل إزالته. ويكون عادة وسيلة للثوريين والفنانين وعامة الناس للتعبير عن ما بداخلهم من آراء في الوقت الذي تفشل بعض الدول في محاصرة هذا الفن الذي بات صداعاً للأنظمة والحكومات لما يمثله من إثارة للجماهير ضد الحكومات، وبالتالي اضطراب الأوضاع الداخلية، وهو الأمر الذي جعل العديد من الدول تحارب هذا الفن وتسن القوانين من أجل محاصرته بشتى الطرق والوسائل. وممارس هذا الفن عادة ما يقوم بهذا العمل تحت جنح الظلام، ومن خلف الأقنعة خوفاً من القبض عليه، كما أنه يقوم بالتوقيع باسم مستعار. في المقابل ومع انتشار هذا الفن ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية عدة شركات متخصصة في صناعة الدهان السائل الذي يمتاز بالألوان الملفتة وسرعة النشفان، كما ظهرت بعض المجلات المتخصصة في فن الجرافيتي مثل مجلة غرافيت الفرنسية التي تهتم بهذا الفن، وما يحدث حول العالم من تطور لهذا الفن الذي بات يجد تجاوباً غير عادى بين الشباب العاديين الذين يملكون القدرة على الرسم أو الكتابة بالسبراي (البخاخ)، ومنهم من يعبر عن حبه لحبيبته بعبارات رومانسية، أو عشقه لناديه المحلي أو العالمي . ومنهم من يستغل الجرافيتي في التعبير عن آرائه السياسية، وربما الإساءة إلى أشخاص بعينهم.
ويستمر الجدال وتستمر المطاردة بين الأنظمة وعشاق الجرافيتي في كل مكان حتى وصل إلى وسائل الاتصال الحديثة التي باتت أكثر سرعة وانتشار وسهولة من ممارسة الجرافيتي في الشارع رغم ما يمثله من خطورة على ممارس الجرافيتي إلكترونياً، خصوصاً إذا كان مخالفاً للقوانين التي وضعتها دولته. والسؤال الآن هل سيظل هذا الفن في تصاعد وانتشار حول العالم أم سيخبو مع مرور الوقت، وبخاصة أن الجرافيتي لا يعيش طويلاً على الحوائط بسبب عوامل الجو والتعرية صيفاً وشتاء، ومطاردة البلدية والحكومات بإزالة الرسومات.
ولا يمكن أن نجزم بأن الجرافيتي يمكن القضاء عليه وملاحقته في كل مكان، فهناك مدن مشهورة في أوروبا بهذا الفن، قامت بتحديد أماكن لرسامي هذا الفن الذي أصبح له شعبية واسعة ومؤيدون، بينما يعيش فن الجرافيتي عربياً في مناخ لا يساعده على الإبداع والتحرر، ولا يجد تلك المساحة التي يجدها أوروبياً، ويؤخذ على الرسامين عربياً عشوائية اختيار الأماكن أحياناً وسطحية القضايا والأفكار، والإساءة في التعبير أحياناً.
إننا أمام فن يملك شعبية واسعة ورواجاً في معظم مدن العالم. وفي ظل الصعوبات التي يواجهها الشباب، خصوصاً في الوطن العربي، وسوء الأوضاع، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في عديد من دول العالم؛ سيكون لفن الجرافيتي أهمية ودور أكبر، لأنه فن غير مكلف مادياً ولا يحتاج في ممارسته سوى لألوان البوية والبخاخ ومكان خالٍ لنقل ما يريده فنان الجرافيتي من آراء ورسالة وفكر وموهبة في التعبير بخطوط وريشة وألوان.