قال أبو عبدالرحمن: هذه الكلمة غيضٌ من فيضٍ (.. قال أبو عبدالرحمن: أيْ قليلٌ من كثير، والحرفُ ضادٌ مُعْجَمَةٌ في الكلمتين؛ وتأتي الغيظ بالغين المعجمة، وتأتي الفيظ بالفاءِ وبالظاء لمعانيَ أخرى في بعض اللهجات؛ ولهذه المسألة تحقيقٌ خاص من كتاب حديث الشهر إن شاء الله تعالى) من أعبائي الثقافية التي أودُّ أنْ تكونَ منهجاً لكلِّ طالبِ علمٍ؛ من أجل (تكوين شخصِيَّة عِلْمية مُعْتَدٍّ بها).. وكان العلماء السابقون الذين كان لهم تَـخَصُّصٌ في عددٍ من العلوم: يُشار إليهم في كُتب التراجم بأنَّ لهم تخصُّصاً في كذا وكذا، وأن لهم مشاركةً في عددٍ من العلوم.. والتخصُّصُ معروفٌ معناه، والمشاركةُ ثقافةٌ عامة، وعُنصرٌ مُساعدٌ في تعميق التخصص.. وفي عصرنا هذا نحن بحاجة إلى المشاركة في كل العلوم التي نستطيع فهْمَها؛ لأنَّ حاجزَ تخلُّفِ الفهمِ يُحْبط الطَّموح.. وأَضْرِبُ المثال بالنسبة لي بعلمِ الجَبْرِ، وعِلْمِ الفيزياء، والعلمِ بأسرار البثِّ في المذياع والتِّلفاز، والفاكس؛ فمثل هذه المعارفِ أودُّ أنْ يفْتح الله عليَّ بفهمها، ولكنَّ وسائلي العلمية عاجزةٌ عن ذلك؛ ولا يعني هذا أنْ أتوانَى عمَّا أستطيعُ المشاركةَ فيه، ولا أنْ آخذَ ولو تصوُّراً ساذَجاً مما لا أقدر على فهمه؛ وذلك من كُتب المصطلحات والموسوعات التعليمية التي تُحَوِّل غوامضَ العلومِ إلى ثقافة شعبية.. وإنما حكمتُ بأننا اليوم أحوجُ إلى المشاركةِ في كلِّ العلوم؛ لأنَّ عطاءَ الفكر البشري، والمهارةِ البشرية -بقدرة الله سبحانه وتعالى وتعليمِه-: اِتَّسَعت اتِّساعاً لا مثيلَ له في كلِّ أحقاب التاريخ؛ فكيف يعيش طالب العلم في غُرْبةٍ علمية فكرية عن مُحيطه وواقع عصره؟!.. ولقد شَحَذَ هِمَّتي من أجل معالجةِ هذه الأعباء كلمتان عن أمرين متناقضين قالهما الإمام الفذُّ أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى (وهو الذي سبق عصره بأجيال) لَمَّا ذَكر ما يَغْبُنُه ويَغِيْظُه.. الكلمة الأولى عن سماعه مَنْ يتحدَّثون فيما لا يُحسنونه؛ فهذا هو غيظ أهل الجهل، ولقد صدق الإمام؛ لأنه (كما قال أبو حامد الغزَالي فيما أظنُّ، ولست على يقين): (لو سَكَتَ مَن لا يَعْلَمُ لقلَّ الاختلاف).. ولقد بُليتُ بهذا الداء من قوم أكثروا الردَّ عليَّ فيما لا يحسنونه؛ فأهملتُ مناقشتَهم؛ لأنني أخاف أن يَغْلِبوني كما غُلِب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
وتَشَبَّهُوا إنْ لم تكونوا مثلهمْ
إنَّ التشَبُّهَ بالكرامِ فلاحُ
ولأنَّ تسويدَ الطروس بمناقشة مَن ليس له علم بما كَتَبَ عنه؛ إذْ يَهْرِفُ بما لا يعرف: مَضْيَعةٌ للوقت، وتعطيلٌ لِـمَا هو أنفع.. ولأنَّ إهمالَ ذلك خَيْرُ دواءٍ للجهول؛ كي يتعلَّم قبل أن يتكلَّم.. وَهَرْفُ الجَهولِ مأخوذٌ مِن مجاوزةِ الحدِّ في الثناء على الشيءِ عن غيرِ عِلْمٍ، ثم توسَّعُوا بذلك إلى معنى الهذيان؛ لأن مَن تجاوز الحدَّ سيهذي بلا ريب، ثم توسعوا بذلك إلى المدح بلا خِبْرة؛ ومن هاهنا جاء (بما لا يَعْرِفُ)؛ لأنَّ مجاوزة الحدِّ ادِّعاءٌ كاذبٌ؛ وهكذا كلامُ الإنسان فيما لا يعرف أَكْذَبُ ادِّعاءٍ.. والكلمةُ الثانية للإمام أبو محمد (الرفع على الحكاية، ومن أجل رِفْعة مقامه).. (سُئِلَ تَمِيْمِيٌّ: (مِن أيِّ قبيلة أنت؟)؛ فقال: (مِن بنو تميم)؛ فضحك السائِلُ مِن هذا الَّلحْنِ في حُسْبانِه؛ فقال التَّمِيْمِيُّ: (لا أَخْفِضُ مَن رَفَعَه الله)).. قالَها عَمَّا عاناه حِيْنَما كان بين قوم يتكلمون فيما لا يُحْسِنُه هو.. ذكر ذلك في كتابه (مُداواةُ النفوس)؛ وهذا أمر عانيتُه إلى حدِّ أنَّ الْغَبْنَ والغيظَ عندي قد يصل إلى ما يقرب من البكاء إذا كنتُ بين دكاترةٍ دعوني أوْ دعوتهم، ثم أخذوا يتراطنون بالإنجليزية أو الفرنسية، ثم أداروا إليَّ عَرْض أكتافهم؛ وهذا الغبنُ إكراهٌ يُصِيْبُ ذاتَ الرِّبْق (البَهَمَ أولادَ الغَنم)؛ وفي أمثالِ الْـعَامَّةِ: (ما يِرْبَطْ في الرِّبْقْ اِلَّا عْيالْ الْـغَنَمْ).. وإنني لأشفق على ابنِ عصري أنْ ينالَه غِبنٌ كثير إذا لم يشارك في علوم كثيرة؛ فإن سَمِعَ حديثَ ذوي اختصاصٍ فيما شارك فيه مُشارَكَةً طَفِيْفَةً: كان أعْظَمَ حبوراً وسعادةً بصمتِه ورهافةِ إصغائه؛ ليزداد فهمُه، ولا يجوز له أنْ يدخل معهم في الحديث إلا مُسْتفهماً كما يُصْغي التلميذ الأمين؛ وهكذا كان يفعل الدكتور طه حسين (عفا الله عنه.. وهو مَن هو في سعة الثقافة)؛ فإنه يُصْغِي مُتَعَلِّماً لا مُتكلِّماً إذا دُعي لاستفتاح جلسة المجمع اللغوي تكريماً له، ثم قام مثلُ الشيخِ عبدالقادر المغربي رحمه الله تعالى -بِجُبَّتِهِ الأزهرية- يَبْجِدُ من لغةِ العربِ بجداً عبقرياً.. وربما قال كسول: (دَعْوَتُك هذه جُنُوْنِيَّةٌ)، ودعوةٌ إلى ما لا سبيلَ إليه؛ لأنَّ العمر قصيرٌ محدود، والمعارفُ لا حدَّ لها بالنسبة لِعُمْر الفردِ.. كما أنها دعوة إلى إلغاء التخصُّص!!).
قال أبو عبدالرحمن: كَلّْا.. إنني لا أدعو إلى مُـحال؛ وإنما أدعو إلى ما يَقدر عليه طالبُ العلمِ من التخصُّص، وإلى المشاركةِ في كلِّ العلوم مشاركة يُفضِي بعضها إلى ثقافة واسعة، ويفضي بعضها إلى تَصَوُّرٍ نافع وإن كان ساذَجاً؛ وهذا أَمْرٌ سهلٌ سمْح جداً بعد أنْ أصبح حضورُ العلمِ أكْثَرَ مِن ذي قبل، وبعد أنْ سَهُلتْ سُبُلُ تحصيلِه؛ وإنما أصبح سهلاً؛ لأنه دعوة إلى خلاف الممارسة المعهودة الآن عند المتخثِّرِين.. وفي سياق كلامي سترون مَعالِـمَ واضحةً نيِّرة كمَعْلَمِ أنَّ (حِفْظَ المُتونِ بألفاظها) أكبرُ عَدُوٍّ لاستيعاب معاني العلم بحضورِ فكرٍ؛ فالذي سيصرف جزءاً كثيراً نفيساً من نشاطه في حفظ مثل (زادُ المستَقْنِع): قولوا لي بربكم: أيُّ مطلبٍ علميٍّ سيحقِّقُه ويُكوِّنُ به شخصيتَهُ العلميةَ الفكرية؟!.. إنه لن يكونَ إلا نسخةً من (زادُ المستقنع)؛ وما أكثرها في الأسواق، وقد يكون نسخة مشوَّهة.. ثم إنَّ مثلَ هذا المتن كالمجلَّـى (بالجيم) للإمام ابن حزم، وكالزُّبَد عند الشافعية: ليس من المتون التي أدعو إلى حفظ معانيها ودعك من حفظ ألفاظِها؛ لأنَّ ما يحفظه ليس على يقين بأنه القطعي أو الراجح من دين ربه؛ وإنما يتلَقَّى ويتلَقَّن ما اختاره فردٌ من البشر غيرُ معصومٍ.. ولا يغلطنَّ عَلَـيَّ غالِطٌ فيقولُ: إنَّ ما اختاره لك صاحب المُجلَّـى -بالجيم- هو اجتهاد جمهور الظاهرية، وما اختاره لك زاد المستقنع هو اجتهاد جمهور الحنابلة!!.. كلَّا.. إنَّ هذا الجمهورَ يجتهد في نطاق مذهبِ إمامهِ، وَيَـجْذِبُ نصوصَ الشرع إلى ما يوافق مذهبَ إمامه، ويتكلَّف في ردَّ ما خالف مذهب إمامه؛ وما أكثر الأحاديث الواهية في كتب الفروع؟!.. ثم إنَّ هؤلاء يُمثِّلون رأيَ فردٍ واحدٍ هو إمامُهم؛ فليسوا هم الجمهورَ في تحقيق اختلافِ العلماء، وإنما الجمهورُ هم الفقهاءُ من الصحابةِ والتابعين رضي الله عنهم جميعاً قبل التقليد؛ وهم الأئمة الذين لا يُقلِّدون غيرَهم بعد عصورِ التقليد كالأئمة الأربعة والليث وابن مهدي والسفيانيين.. إلى ابن جرير.. إلخ، وكلُّ حنفي فهو أبو حنيفة لا غيرُ، وكل حنبلي فهو أحمد ابن حنبل لا غيرُ رضي الله عنهم، ورحمهم جميعاً.. وأما كلامُ الله: فإنَّ حِفْظَه للتعبُّدِ، وللإمامة بالمصلِّين، ولسهولةِ تلاوتِه في الطريق وفي الأوقات الصامِتَةِ.. ومَن عُوْقِبَ مثلي بإنسائِه إياه بَعْدَ أن كان يَؤُمُ به المصلين في التراويح في مسجد أم سُلَيم حتى عَسُرَ عليه استذكارُه: فعليه أنْ يَسْتَذْكِرَهُ حَسَبَ الْقُدْرَةِ في جزءٍ من أوقات النشاط، ولا يَعْجَلْ، ويكرِّر ما حفظه وإنْ طالت الأيام حتى يكونَ حفظُه كحفظِ سورة الفاتحة التي يتعذَّر نسيانُها، ولا يكونُ لابسَ ثوبِ زُوْرٍ، فيحفظُ آياتٍ من السَّورِ المطوَّلةِ حِفْظاً جيَّداً، ويدَّخرها إلى أنْ يُفاجأَ بطلبٍ مِن الجماعة يَدْعُوْهُ أنْ يُصَلِّيَ بالمسلمين جماعة؛ بل يترك الإمامةَ لغيره، أو يتلُو ما حفظه ولو كان من قِصار السور.. والمأثورُ في بعض القرى أنَّ إماماً من العوام رحمة الله عليهم: لا يتعدَّى في تلاوته جُزْءَ عمَّ؛ فلما غَصَّت القريةُ بالزوار: إذا به يقرأ آياتٍ مُؤثِّرةً مِن طُوال السور.. فقيل له: (يا فلان: ما عهدناك تحفظ هذا؟)؛ فقال: (هذه عَابِيْنْها للأجناب)!!.. أي مُعِدِّيَنها للزوَّار.. والذي يَقْدُمُ مِن قرية في سدير مثلاً إلى شقراء أو العكس: فهو أجنبي في العُرف العامي، والقادم إلى الرياض -حرسها الله، وجميع بلاد المسلمين- من غير أهلها: فكلُّهم (جْنُـبَّا)!!.
قال أبو عبدالرحمن: قدمتُ مِن مَسْقَطِ رأسي شقراء أَوَّلَ شَهْرِ صفر عام 1382هـ وَعُمْرِيْ ثلاثَةٌ وعشرون عاماً وأشهراً، وأقمتُ في الرياض إلى هذه اللحظة خمسةً وخمسين عاماً متَّعَني الله وإياكم متاعاً حسناً، وبلاغاً إلى خير؛ فهل أكونُ بإقامتي في العاصِمَةِ بالرياضِ ضِعْفَيْ إقامتي بمسقط رأسي (جْنِبّْا)؛ والعامَّةُ تقول: «دِيْرَتْكْ اللِّـي تُرْزَقْ فيها.. ما هِيْبْ اللِّـي تولد فيها».. وَمِثْلِيْ مع البونِ الشاسِعِ بيني وبينه في عِلْمِه وَفَضْلِه: (أبو عليٍّ إسماعيلُ بنُ القاسمِ القالِـيُّ.. كان بغدادِيّْاً؛ فقدِمَ إلى الأندلس وعمره كعمري لَـمَّا قدمْتُ من مدينتي شقراء؛ فَعَدَّهُ الْـمُؤَرِّخونَ أَنْدَلُسِيّْاً.. قال الإمامُ أبو محمد ابن حزم كما في (نَفْحُ الطِّيب) 3 / 164: «جَمِيعُ المؤرِّخين من أئمتنا السالفين والباقين دون محاشاةِ أحدٍ؛ بل قد تَيَقَّنا إجماعَهم على ذَلِك: مُتَّفقُون على أَنْ ينسبوا الرجلَ إِلَى مَكَان هِجْرتِه التي اسْتَقرَّ بهَا وَلم يَرْحَلْ عَنْهَا رَحِيْلَ تركٍ لسكناها إِلَى أَنْ مَاتَ؛ فإنْ ذكرُوا الْكُوفِيّين من الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم صدَّرُوا بعلي وَابْن مَسْعُود وَحُذَيْفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم؛ وإنما سكن عَليٌّ الْكُوفَة خَمْسَة أَعْوَام وأشهراً وَقد بَقِي 58 عَاماً وأشهراً بِمَكَّة وَالْمَدينَة شرفهما الله تَعَالَى، وَكَذَلِكَ أَيْضاً أَكْثَرُ أعْمارِ مَن ذكرنَا.. وإنْ ذكرُوا الْبَصرِيينَ بَدَؤُوا بعمران بنِ حُصَيْن، وَأنسِ بنِ مَالك، وَهِشَام بن عَامر، وَأبي بكرَة؛ وَهَؤُلَاء مواليدُهم وَعَامَّةُ زمن أَكْثَرِهم وَأكْثرِ مقامِهم بالحجاز وتهامة والطائف، وجمهرة أعمارهم خلَتْ هُنَالك.. وإنْ ذكرُوا الشاميّْينَ نوَّهوا بِعبَادةَ بنِ الصَّامِت، وَأبي الدَّرْدَاء، وَأبي عُبَيْدَة بن الْجراح، ومعاذ، وَمُعَاوِيَة؛ والأمر فِي هَؤُلَاءِ كالأمر فِيمَن قبلهم.. وَكَذَلِكَ فِي الْـمَصريّينَ عَمْرُو بنُ الْعَاصِ، وخارجةُ بنُ حُذافة الْعَدويُّ.. وَفِي الْـمَكيِّين عبدُالله بن عَبَّاس، وَعبدالله بن الزبير، وَالْحكم فِي هَؤُلَاءِ كَالْحكمِ فِيمَن قَصَصنَا (رضي الله عنهم جميعاً)؛ فَمنْ هَاجر إلينا من سَائِر الْبِلَاد فَنحْن أحقُّ بِهِ، وَهُوَ منا بِحكمِ جَمِيع أُولِـيْ الأمر مِنّْا الَّذين إجماعُهم فرضٌ اِتِّبَاعه، وخلافُه محرَّمٌ اقترافُه.. وَمن هَاجر مِنّْا إِلَى غَيرِنَا فَلَا حَظَّ لنا فِيهِ، وَالْـمَكانُ الَّذِي اختاره أسْعَدْ بِهِ؛ فَكَمَا لَا نَدعُ إسماعيلَ بنَ الْقَاسِم؛ فَكَذَلِك لَا ننازِع فِي مُحَمَّد بن هَانِئ سوانا.. وَالْعدْلُ أوْلَـى مَا حُرِصَ عَلَيْهِ، وَالنَّصَفُ أفضلُ مَا دُعِي إليه».. وانظر (رسالةٌ في فضلِ الأندلس) ضِمْنَ (رسائِلُ ابن حزم) التي جَمَعَها وحَقَّقَها الأستاذ الدكتور إحسان عباس رحمه الله تعالى 2 / 175 - 176.. وهذه أمورٌ بِيْئِيَّةٌ في عهودِ الأمِّيَّةِ أَحْفَلُ بالاستطرادِ مِن أَجْلِها؛ كي أَسَجِّلها فلا تضيع.. والذي لم يحفظ القرآن، أو عُوقِب بإنسائه: فلا بدَّ أنْ يتلُوَه في المصحفِ بتدبُّرٍ وحْده، ويقرأ بين المخافَـتَةِ والجهر؛ لِيُمْتِعَ نفسَه بتحسينِ صوتِه، وليستجْلِبَ بركَةَ السُّياح من الملائكة الكرام؛ فإنَّهم يَغْشَون بالرحمة والسكينة والخشية والاستغفار كلَّ صوتٍ خشوعٍ يُبالغ القارئُ في تحسينه عند تلاوتِه كتابَ الله بتدبُّرٍ.. ولا فهمَ ولا خشوعَ إلا بالتدبر.. وعليه أنْ يتوقَّف عن التلاوة إذا ضَعُفَ صوتُه، أو بُحَّ، أو شَرَدَ ذهنُه بحديث النفس، أو الهمِّ بقضاء شيءٍ مِن حوائج الدنيا، أو مسائل العلم.. وعليه أنْ يَجْتَهِدَ في دعاءِ ربِّه بأنْ يَرْحَمَهُ ربُّه ويتوب عليه مِن إنْساءِ الشيطان إياه كلامَ ربَّه، وأنْ يَهْدِيَهُ ويُثْبِّتَه هو، وأنْ يثبِّتَ كلامَ ربِّه في قَلْبِهِ؛ وكذلك سُنَّـةُ نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم.. ويقول: ربِّ زدْني علماً، اللهم علِّمني ما ينفعني، وانفعني بما عَلَّمتَني، ويا مُعَلِّم إبراهيمَ عَلِّمني، ويا مُفَهِّمَ سليمان فهمني (عليهما، وعلى نبينا محمد، وعلى جميع أنبياء الله ورسلِه أفْضَلُ الصلواتِ والسلامِ والبركاتِ).. ولابد أنْ يُخَصِّص وقتاً أوْ وقتين للتلاوة وحده.. وأمَّا ما قبل وبعد أذان المغرب والفجر: فأُفَضِّلُ كَثْرَةَ الاستغفارِ والتسبيحِ والتهليل والتكبير والتضرع للهِ بالدعاء.. والأفضل في يوم الجمعةُ بعد تحيَّةِ المسجدِ: أنْ يقرأ عشر آيات من سورة الكهف؛ وتلاوَتُها كلِّها أَفْضَلُ؛ فإنْ كان غيرَ حافِظٍ إيَّاها؛ فَلْيَتَعَنَّ لحفظ آياتٍ منها بالترتيب حتى يُتْقِنَ حفظَها كلَّها في عددٍ من الأسابيع؛ ليقرأها كلَّ جمعة، ثم يعود إلى قراءة ما وقفَ عليه من تلاوتِه حسب ترتيب المصحف.. وقبل دخولِ الإمام بساعَةٍ على الْأَكْثَرِ: يَغْتَنِمُ الصلاةَ نافلة، ويُطِيلُ حسب نشاطه، ويتحرَّى كثرةَ الدعاء في السجود وآخرِ التشهد الأخير، ثم بعد النافلة يُكْثِر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاءِ المأثور من جوامِع الكلم؛ لأنَّ ما بين الأذان والإقامة مَظِنَّةُ قبولِ الدعاء؛ وهو في يوم الجمعة آكد إلى صعود الإمام المنبر، ويحرص على الدعاء آخر ساعة من الجمعة وإن لَـمْ يُدْرِكْها كُلَّها؛ لأنَّ قولَ الرسول صلى الله عليه وسلم (وَافَى فيها) لا يقتضي ضرورة إدراكِها كلِّها.. وفي الظهر والعصر والعشاء إنْ فَضَل له وقتٌ بعد السنن الرواتب: فالأفضلُ أنْ يستذكر حفظَه، ويُـحْضِرَ المصحفَ عنده.. ولكنَّ المساجِدَ اليومَ؛ بسببِ قَسْوَةِ القلوبِ إلَّا قليلاً منها: لن تترك لك فرصةً بعد النافلة؛ فهم على مبدأ قول العامة: (حامِيْ حامِيْ شِغْل الشامِيْ)، يؤذِّنون، ثم يُقيمون، والصلاةُ عندهم -وَسَّع الله عليهم- صلاةُ نَشِيطٍ لا تَعُوْقُ!!.. والذي أعهده أنَّ الله رحم عبداً سمْحاً إذا باعَ، سمحاً إذا اشترى، وأما السَّماحةُ هاهنا في المسجد فلا أدري ما حكمُها؟!.. كنتُ في الصِّغَرِ أُصَلِّـي مع والدي خلف الشيخ سليمان بن علي رحمهما الله تعالى في مسجد الحسيني بشقراء؛ فنقرأ جزءاً بعد أذان الفجر، وحزباً أو حزباً وربع حزب في الظهر والعشاء، وأقلَّ من حزب في العصر.. ولا يحتجُّ محتجٌّ (بأنَّ التلاوةَ آنذاك كانت هَذّْاً)؛ فهذا صحيحٌ، ولكنَّ التلاوة عسيرةٌ بطيئة تُشْبه التَّهَجِّي.. (والمهمُّ أيها الأحباب: أنَّني إنَّما أريد تنشيطكم بالاستطرادِ والمؤانسَةِ).. وَمَنْ كان على الحالِ التي أَسْلَفْتُها: فَعَلَيْهِ أنْ يحفظَ معانيَ القرآن؛ بأنْ يعرفَ مواقعَ الأحكامِ والأخبارِ مِن السور؛ فيعرفَ مَثَلاً أحكامَ الحج في السور، ويعرفَ أخبار إبراهيم الخليل عليه السلام من السور.. إلخ.. فإن كان طالِبَ علمٍ: فليكن معه وُرَيْقَةٍ يُسجِّل فيها ما استشكله من معنى أو إعراب، ثم لا يبحثه إلا في وقت نشاط.. وحِفْظُ معاني القرآن لا يكون في تلاوة شهرٍ أو عامٍ؛ بل يكون تدريجياً في مراحل تكوين الشخصية العلمية؛ ومن هذه حالُه: لا يَنْسى وإن ظنَّ أنه قد نسي كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.. والمحاضِرُ والخطيبُ والواعظُ أَقْدَرُ على استحضارِ آيات الذكر الحكيم.. وحِفْظُ كلام الله مُنْـتَهى البركةِ واللذة، ومَن حُرِم بركةَ الحفظِ أو عُوقِب بالإنساء، وكان دأْبُـه ما أسلفتُه لكم عن حالِ التلاوةِ في المصحف: فقد يُعوِّضه الله بأنْ يكونَ أصحَّ وأثبت علمَاً؛ لأنه لا يأخْذُ بباديَ الرأيِ؛ بل يستعين بالله ثم بِكُتُبِ مفردات القرآن، وما بُوِّب مِن كتبِ الأحكامِ أو الآداب أو الأخبار والأخلاق والعقائد، وما سَوَّده من مباحثَ عن آياتٍ أشكلت عليه، ثم يُحقِّق العلم كتابةً بالمراجعة والتفكير والرجوع إلى كتب العلوم المساعِدة.. ومَنْ هذه نشأْتُه: ليس عنده لكلِّ سؤالٍ جوابٌ؛ ولكنه يزحف زحفاً مُقدَّساً؛ فبعد مرحلةِ الطلب يكون عنده في العام مُـسَـيْـئـلاتٌ حاضِرةٌ حَرَّرَها بتحقيقٍ، واسْتَحْضَرَها ببراهينها؛ وَمِنْ ثَمَّ يناقِشُ بِثقَةٍ وبَحْبَحَةٍ ما يُورَد عليها وهو غير وارد، ويكون في غايةِ الإتقان عند عرضها تصُّوراً وتقسيماً وتمثيلاً وتعريفاً؛ فلا يبلغُ سِنَّ الكهولةِ حتى تكونَ عنده كُبريات المسائلِ ودقائِقُهـا بالصـورة الـتـي أسْـلَـفْـتُـها، ولا يـطـعـنُ فـي الشيخوخةِ حتى يكونَ فارساً من الفرسان الأفذاذ، وضِرغاماً يَحْمي غِيْلَهُ، ولا يكون نسخة زادتْ في البلد أبداً، ولا يكون برهانه ألبتة: (قال فلان، وقال عِلَّان)!!.. والنَّشاطُ في العلم مُبارك؛ لأنه يجرُّ بعضه بعضاً، ويُزَكِّي بعضه بعضاً، وَيُذَكِّر بعضُه ببعض.. ومَن تعنَّى لعلومِ الشريعة فلا يُقدِّم شيئاً على تحقيقِ النَّصِّ ثبوتاً مِن كتب ذوي الاختصاص؛ وفي حين طلبه صحَّةَ الثبوتِ فلا يُقَدِّم على حضورِ الفكر من نظريةِ المعرفة شيئاً.. ثم يطلبُ صِحَّةَ الدلالةِ؛ فلا يقدم على قانونِ الجمْعِ بين النصوص في المسألة شيئاً، ثم لا يُقَدِّم على حذقِ لغة العرب شيئاً، ثم لا يقدِّم على حضورِ الفكرِ من نظريةِ المعرفة شَيْئاً أَلْبَتَّةَ؛ ويكون إمامُه نصوصَ الشرعِ لا غيرَ؛ وَيَرُدُّ ما يَسَعُ فيه الاختلاف إلى الرُّجحان، ويردُّ مالا يسع فيه الاختلاف إلى القطعيِّ المُحكم، ويؤسِّس أصولَه من هذا الفهمِ للنصوص؛ ولا يؤسِّسُ قواعدَه وأصولَه قبل ذلك الفهمِ المبارك.. وما يقال: (إنه من مقاصد الشريعة، أو إنه تيسير، أو إنه إعمال للمعاني لا للألفاظ، أو إنه احْتِياطٌ أو سدُّ ذريعة): فإنه يكتشفه مِن نصوصِ الشَّرْعِ إنْ تأتَّى له ذلك دلالَةً، ولا يُؤسِّسُهُ.. ثم بعد ذلك يَفِدُ زائراً مُحتَرَماً إلى كتب المذاهبِ في الفقه والعقائد وعلم الكلام.. إلخ؛ وإمامُه كما أسلَفتُ نصوصُ الشرع؛ فتكون وفادتُه للنزهة يستدرك ما فاته، ويُصحِّح ما وَهَلَ فيه.. وهذا القدر يكفيه؛ فإنْ أراد التطوُّعَ بِدَحْضِهِ الاستدلالاتِ الباطلةَ، والأهواءَ المُرْدِيَةَ، والشُّبَهَ المضلِّلةَ: فذلك هو الإِمامةُ في الدين؛ ولكنَّ ذلك صعبُ المنال من جهة استيعاب كلِّ مسائل الديانة؛ لأن العلمَ واسعٌ، والعمرَ قصيرٌ يعتوره مشاغلُ وعوارضُ صِحيَّةٌ وكلالٌ، مع ما تحتاجه النفسُ من الترطيب؛ وإنما المهمُّ أنْ لا يُضَيِّعَ من وقتِ نشاطه شيئاً؛ فإنْ أرادَ مُرطِّباتٍ من الآداب والفنون (بعد كَلالٍ): فلا تكنْ متعتُه لنفسه؛ بل ينقلها محرَّرةً؛ ليستمتع بها الآخرون.. وعليه أنْ يصونَ أصولَه عن التناقض؛ فإن بدا له خللٌ فَلْيُعْلِنْ تراجعَه عنه، ويُحررْ أصلَه من جديد.. وأما مَن لم يُعلنْ تراجعَه؛ فتراه في موضع يقول: (إخوةُ يوسفَ مِنْ رُسُلِ الله عليهم السلام؛ وهم مذنبون عفا الله عنهم).. ثم يقول في موضع آخر: (ليسوا أنبياء)!!.. والْـمُحقَّقُ أنَّ إخْوَةَ يوسفَ عليهم صلوات الله وسلامُه وبركاته: لَيْسُوا أنبياءَ؛ وإنما هم على مِلَّةِ أخيهم يوسفَ، وأبيهم يعقوبَ وإسحاقَ وإبراهيمَ عليهم صلواتُ الله وسلامُه وبركاته؛ ولكنْ أدركتْهم الْـغَيْرَةُ لَـمَّا رَأَوْا يوسفَ أثيراً عند أبيهم؛ فأرادوا تَغْييبَه عنه، وأَضْمَروا التوبةَ بعد ذلك؛ فهذا ذنبٌ عظيمٌ؛ ولكنْ اسْتَغْفَرَ لهم أخوهم يوسفُ وأبوهم يعقوبُ عليهم جميعاً صلواتُ الله وسلامُه وبركاتُه؛ فتاب الله عليهم؛ وكان أَمْثَلُهُمْ أَكْبَرُهم.
قال أبو عبدالرحمن: وأما حديثُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: فإنَّ شأنُه ما أسلفْتهُ لكم عن نصوصِ الشَّرعِ، ولا ريبَ أنَّ الشرعَ، وحِفْظَ صحيحَه: نضارةٌ في الوجه؛ فإذا لم يتيسَّرْ له حفظُه فليكن على ذكرٍ من معانيه إلا ما تمسُّ إليه حاجةُ المسلم حتماً كالأدعية الصحيحة الموظَّفة، وما هو مطْلَقٌ من الاستغفار والتسبيح والتهليل والتكبير، وأدعيةِ الركوع والسجود.. إلخ؛ فهذا يلزم حِفْظُه.. ولا ريبَ أنَّ المسلمين أصَّلُوا علومَهم منذ انتقل العربُ من الأمِّيةِ إلى الكتابة؛ فَقَعَّدوا لِـما يُخشَى ضياعُه بعد فسادِ السليقة من النحو واللغة؛ فيكونُ الكتابُ المُدَوَّنُ نائباً عن النُّطق سليقةً وبداهةً.. وأصَّلُوا ثبوتَ ودلالةَ ما دوَّنوه من النصوص؛ ليحقِّقوا نِسْبةَ القولِ إلى القائل؛ ولِيُحَقِّقُوا معنى النصوص حَسَبَ مرادِ قائِلها؛ فتفرَّغَ كلُّ ذوي الاختصاص في كل حقلٍ علمي لتسجيل وترتيب أصولِه وقواعدهِ، وقرَّبوا إلى الأفهام تصوُّرَ كلٍّ ما سَمَّوه (مبادئَ العلوم)؛ وهي عَشَرَةَ مبادِئَ: منها التعريفُ بالحقل، وتحديدُ موضوعِه، وفائدتُه.. إلخ.. ثُمَّ انبرى ذوو التَّخصصِ في أكثرَ مِن حقلٍ لتحديد مصطلحاتِ ما أتقنوه من معارِفِهم، وَتَرْتِيْبِها كابن فُوْرْك في كتابه الحدود، والسكاكي، والفارابي.. إلى الجرجاني في التعريفات.. وسَبَقَهم مَن توسَّع في ترتيبِ المعارف كالإمام (ابن حزم) رحمهم الله تعالى جميعاً؛ فألَّف رسالَته (مراتبُ العلوم) مع لمحاتٍ ذكرها في كتابه (التقريبُ)، وذكر ما لم يُقْسَمُ له فيه نصيبٌ مِن بعْضِ الْـمَعارِفِ.. قال رحمه الله تعالى في كُتَيِّبِهِ (الميزانُ) الْـمَطْبُوْعُ باسم (رسالةٌ في فضلِ الأندلس) التي أَوْرَدَها الْـمِقرِيُّ في كتابه (نفحُ الطيبِ) 3 / 176: «وأمَّا العدد والهندسة: فلم يُقْسَمْ لنا في هذا العلم نفاذٌ، ولا تحقَّقْنا به؛ فلسنا نثق بأنفسنا في تَمْييزِ الْـمُحسنِ من المقصِّر في (إعادةُ (مِن): أَفْصَحُ مِن ذِكْرِه (في) هاهنا) المؤلفين فيه من أهل بلدنا.. إلا أني سمعتُ مَنْ أثق بعقلِه ودينِه من أهلِ العلم ممَّن اتُّفِق على رسوخِه فيه يقول: (إنَّه لم يؤلَّفْ في الأزياجِ مِثْلُ زيجِ مسلمة، وزيجِ ابن السمح)؛ وهما من أهل بلدنا؛ وكذلك كتابُ الْـمَساحة الْـمَجهولة لأحمد بن نصر؛ فما تُقِدَّمَ إلى مثله في معناه)».. وبعده بثلاثة قرون توسَّع في ذلك ابنُ سعادةَ في كتابِه (مقاصدُ العلوم).. إلى ابن خلدون في مقدمته.. إلى الكفوي في كلياته؛ فدونوا ما حذقوه من تخصُّصِهم هم، وأفادوا من تعريفاتِ ومصطلحاتِ الآخرين في المعارفِ التي لم يتخصَّصُوا فيها، واستمرّ هذا الجهدُ عند ابنِ رسول، والتهانَوِيِّ، وطاش كبري زاده، وصدِّيق حسن خان في كتابِه (أبجدُ العلوم).. ثم استجدَّتْ حقولٌ علميةٌ أخرى؛ فَوُجِدت لذلك كتبُ الموسوعات، ودوائرُ المعارف؛ فأَتَتْ بالعجب العُجَاب الذي لا يُعْذَر بعده أيُّ كَسولٍ.. ثم عاد الأمرُ أُنُفَاً؛ فتفرَّغ الفلاسفة لتدوين مصطلحات ما استجدَّ في كلِّ مذهب، وهكذا فعل علماءُ الاجتماع، وعلماءُ النفس، وعلماءُ الفيزياء؛ فاستقلَّتْ كتبُ مصطلحاتِ العلوم.. وتلك المصطلحات ذاتُ مَنْحَيَيْن: المنحى الأول مصطلحاتٌ لشيءٍ استجدَّ بالتعريب أو الاقتراض، ولم يحصل للمسمَّى اصطلاحٌ سابِق.. والمنحى الثاني تراكمٌ ثقافيٌّ سَبَبُهُ اصطلاحُ كلِّ فردٍ على معنى يريده هو وَحْدَهُ وله تسميةٌ خاصة في اللغةِ تغني عن اصطلاحٍ خاصٍّ لا يكونُ مِن التَّسْمِيَةِ اللغوية؛ فهو اصطلاحٌ مذهبيٌّ.. ويدخلُ في هذا التراكُمِ الثقافيِّ مصطلحاتٌ تغيَّرتْ معانيها على مدى العقود؛ وربما تحوَّلَ الاصطلاحُ القديمُ إلى معنى قبيحٍ جداً كمصطلحِ (الليبراليةُ) و(الدوجماطيقيةُ) و(الميتافيزيقا).. ويدخل في هذا التراكم أيضاً اصطلاحاتٌ تضليلية فُرِّغَتْ من مضمونها إلى مضمون عِدائيٍّ مُتَسَتَّرٍ عليه كما في الشعار الثلاثي لدى حِزْبِ البعث.. ومِن أدبيّات هذا الشعار كُتَـيِّبُ (الرسولُ القائد) لـ(ميشيل عفلق)؛ فقد اغترَّ به القطيعُ العربيُّ ردحاً من الزمن؛ فالمغرَّر به يظن أنَّه صادرٌ عن شعار يوحي ببعثٍ إسلامي.. والمُلَمَّعُ والمرتزِقُ والأجيرُ والطائفيُّ المُعادي للملة: يعلَم أنه مَضْغٌ باللسان، وأنَّ حقيقتَه مضمونٌ عِدائي؛ فلما نجحت ثورةُ البعث: طَرح بعضُ المُغرَّرِ بهم سؤالاً على (ميشيل عفلق) حول عنوان كُتَيِّبه، وأنَّ الممارسةَ الحضاريةَ بِزِعْمه لحزب البعث تنافي هذا المضمون؛ فأجاب (عفلق) بكل صفاقَةِ وجهٍ: بأنه لا يريدُ بالرسولِ القائدِ المعنى الخُرافيَّ (يريدُ قَبَّحَهُ اللهُ الإيمانَ بأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم عَبْدُ اللهِ ورسولُه)؛ وإنما يريد أنَّ محمداً (صلى الله عليه وسلم) زعيمٌ عبقري مُحنَّك أبْدَعَ أيديولوجيةً وضْعِيَّةً سمَّاها الإسلامَ؛ فحصل لأمته بذلك أعظمُ دولةٍ، وأوسعُ رقعةٍ عرفها التاريخ؛ فهذه مرحلةٌ تاريخية أعادتْ للعرب كرامتَهم.. ومع تغيُّرِ العصرِ، وتجَّددِ معارِفه: احتاجتْ العربُ إلى أيديولوجيةٍ جديدةٍ وضعيةٍ يقوم بها زعيمٌ عربي؛ فيُحَقِّقُ بها مكسباً حضارياً لأمته؛ فهذا هو البعث العربي المنشودُ، وهو الرسالةُ الخالدة في الشعار!!.. ويدخل في هذا التراكُمِ أيضاً مصطلحاتٌ تَقْبَلُ أكثرَ مِن مضمون بأسلوب فيه تَعْقيد كفلسفة (هيجل)؛ فقد طُبِعَ باللغة العربية أكبرُ مجلد لمصطلحات فيلسوفٍ واحد (وهو مُصْطلحاتُ هيجل)؛ وما كان هذا الانفلاتُ عن غباءٍ مِن(هيجل)؛ ولا عن عُقْم في علمه وفكره؛ ولكنه وَضَعَ ذلك لِتغْطيشِ الأفهامِ كاصطلاحه بالروح؛ فهو يَسْتَعْمِلُها في أكثرَ مِن موضع بمعانٍ متغايرة، وكان هذا الشتاتُ مادةً خِصبةً لكل مذاهبِ الفلسفة الحديثةِ التي سَلَّطت الجدلَ المتشعِّبَ للشَّك في وجود الله بصفات الكمال، والشكِّ في النُّبوَّات والشرائع، والشكِّ في إدراك العقل؛ فكانت فلسفتُه مرجعاً للماركسيِّ والحِسْيانيِّ والاسميِّ والوضعيِّ.. بل اتَّكأتْ عليه مدرسةُ كانط النقدية الثعلبية.. وأوضحُ شيءٍ في مصطلحاتِه ما كان عن التاريخ والنظرية الجمالية؛ وهي إلى السياق الأدبي المعقَّد ألصقُ منها بالسياق الفلسفي المنظَّم؛ وأضْرِبُ المثالَ لذلك بمصطلحي (الوجود والعدم)؛ فهذان المصطلحان لهما معنى لغوي يَنْفي الاصطلاحَ بهما لأمرٍ مستقلٍّ؛ بَلْ لا بدَّ أَنْ يُبْنَيا على عمومُ اللغة؛ بل لا بُدَّ أنْ يكونَ المعنى الاصطلاحيُّ جزءاً من المعنى اللغوي يُشْترط فيه أنْ يكونَ ذا دلالةٍ جزئية من اللغة؛ ولهذا يُصاب القارئُ بالدوار إذا تَتَبَّع مصطلحاتِ الوجود والعدم في السياق الفلسفي قديمِه وحديثه؛ بل ألَّف (سارتر) أهمَّ كُتُبِه الفلسفيةِ (الوجودُ والعدمُ)؛ وفيه كل شيءٍ من العَفَنِ الفلسفي إلا معنى (الوجود والعدم)؛ فالتَّعَنِّي للإحاطة بهذا التراكمِ الاصطلاحيِّ: ليس هو المشاركةُ في كلِّ العلوم التي أَعْنِيها؛ بل هذا على الحقيقةِ في نفسِه حَقْلٌ تخصُّصِيٌّ يكونُ موضوعاً تُـحاكِمُه (نظريةُ الْـمعْرِفةِ والعلم)؛ لأن الشتاتَ أحكامٌ وادِّعاءاتٌ وتحويرٌ لدلالاتِ اللغات لا يعني مُسَمَّى مُعَيَّناً: لا في الحسِّ الظاهر، ولا في الحس الباطن، ولا في تصوُّراتِ العقل؛ وإلى لقاء عاجل إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان.