من بين صفوف الأقلام أمامي، سحبت بيدي حفنة، وضعت المال أمام البائع وخرجت أجري تحت المطر إلى منزلي الباهت، كانت هذه الرحلة أشبه بحدوث أزمة أقلام من حولي، فتحت الباب وخلعت كل شيء، نعم كل شيء!!
جلست بمواجهة تلك الأقلام لأفتتح كل هيجان في هذا العالم دون أن أصدر أي صوت، مسكت بإحداها وابتدأت بالكتابة.. كان حبره دمويّ أحمر، لم أكن أعلم بذلك ولم أكن أنوي ذلك، رميته جانباً وإذا بالتالي والتالي والتالي جميعها لديها دم واحد، لم أكن في حياتي كبقية الفتيات أجري خلف هذا اللون، كنت أجري فقط تحت المطر بعيداً عن أية قيود حولي، لم أبكِ لأرتدي الأحمر في طفولتي، ولم أعبث حتّى بأحمر شفاه والدتي الذي أفنى وقته ليجذبني نحوه، فلمَ الآن أكتب بالأحمر إذاً؟!!
ألأنني أنفقت مالاً عليها؟!! ألأن رغبتي بالجري تتوقف حين توقف المطر؟!! ألأنني خلعت كل شيء وانتهى الأمر؟!!
كان هاتفي ملقى على الأرض في مكانه الذي أعتدت على نسيانه فيه، هذه المرة كنت قد نسيته لساعات فلم يأبه بي أحد فيذكرني به، رفعته لأرى الزمن ثم رميته مع الزمن لمكانه، كنت أريد أن أثبت استخدامي له وبأنّ وجوده مهم ومفيد، لا لأعلم الوقت فلم آبه بالوقت مطلقاً في حياتي، كانت أرقام الساعة متشابهة لدي فلا تخبرني بحلول وقت النوم ولا وقت الطعام فلمَ آبه بها إذاً؟!! ألتخبرني بأنّي أزيد عمراً في مكاني وأنّي أتنافس مع كل جامد حولي أيّنا سيعيش أطول وأيّنا سيعمر بينما الآخر سيدفن تحت التراب، بل أيّنا سيذكره الناس؟!! هنا كلانا سيخسر!!
جمعت الأقلام رميتها في الدرج ثم رميت بجسدي العاري جواره لدقائق قليلة من التفكير ثم صوت طرقات الباب المتتابعة، أي زائر هذا الذي أخبره المطر عني؟!! قمت بتثاقل ألبس ثيابي من جديد وأنا أتمتم لنفسي لو كنتِ سترتدينها لمَ إذاً رميتِ بالأقلام جانباً في حين كان علينا رميها في مكانها في صفوفها أو بين يدي بائعها الذي سيرفض تحرير نقودنا من جديد، ربما كان السبب لعدم ذهابي إليه هو عدم رغبتي بالجدال معه في حضور المطر احتراماً لهطوله هذا المساء، فتحت الباب بعد أن كاد الطارق أن ييأس، ربما هذا ماكنت أرجوه فقط، وإذا به صبي صغير نحيل عارٍ فلمَ ارتديت ثيابي إذاً!! سألته ما الذي يفعله في مثل هذا الوقت في مثل هذه الأجواء!! أم أن كل من يجري تحت المطر يصل للباب ذاته!! أجابني بطريقة آلية غير مبالٍ لحيرتي أبداً: أتشترين منديلاً؟!
- ماذا!! أتبيع المناديل الآن في مثل هذا التوقيت، من سيشتري منك؟!
ابتسم بسرعة، وقال: ألم تبتلّي من المطر!! جففي نفسك إذاً!!
ضحكت على طريقة إقناعه، قلت بسرعة أيضاً وكأني اعتدت على التنافس في كل شيء: ولمَ لم تجفف نفسك إذاً بدلاً من بيعها!! ثم ما أدراك بأني مشيت تحت المطر؟! سكت لثوانٍ ثم قال: لأني أريد أن يبتلّ داخلي، أهلكني الجفاف!.
لحظة صمت كافية لإخباره بأنّي ندمت من حديثي هذا وخجلت من غبائي فخسرت منافستي من جديد، أدخلته ليجلس، كانت عيناه الصغيرتان أسرع من خطواته وخطواتي ومن ردوده أيضاً، كانت تبدو ذكية تنطق دون صوت وتفهمني قبل أن أرد عليها، صنعت لنا الطعام وأخبرته حينما كنّا نتناوله بأنه لم يزرني أحد منذ زمن بل ربما هو أول طارق لبابي لذا كنت قد استنكرت صوت طرقاته، كان يأكل بطريقة مهذبة لم أتوقع رؤيتها من صبي جائع وعارٍ مثله، كان ينظر لي ويهز برأسه وكأن ما أقوله قد اعتاد على سماعه، دون أن أشعر وجدتني قد أدخلت نفسي في منافسة جديدة حين محاولتي للفت نظره فلم أجد ما أحكيه سوى ما حدث لي مع الأقلام الحمراء، كنت أعلم أني سأخسر منافسة أخرى حينما فاجأني بانتصاري لأول مرة عندما نظر إلي باهتمام معبراً لي بأنها قصة مثيرة ليقول بسرعة كعادته: أشتريها منك؟!
- ماذا!! تشتريها!! كيف ستشتريها؟!
- توجد مدرسة قريبة من حيّنا، أبيعها على المعلمين هناك.
كانت إجابته تؤكد لي أنه يعاني من مشكلة في اختيار الجواب المناسب للسؤال المطروح عليه!! فها هو يخبرني عن أرباحه متجاهلاً للمرة الثانيةسؤالي الفعلي!!
لم أرد أن أبدو ساذجة لذا قمت بتغيير نمط السؤال من وأين أرباحي أنا؟! إلى:
- كان عليك أن تلتحق بتلك المدرسة لا أن تبيع بها الأقلام!!
- نعم سأكون معلماً يوماً ما!.
زالت كل شكوكي التي لم تراودني أصلاً، هذا الطفل يعاني فعلاً مشكلة في ربط الأسئلة بإجابتها، ألأنه متسرع في الإجابة!!؟ كان هذا ماتحذرني منه أمي دائماً الآن علمت كم هي محقة في حق التسرّع، أعدت عليه: أقول لك كان عليك أن تلتحق بالمدرسة!! كيف ستكون معلماً إن لم تدرس!!
- وهل قلت لك بأنني لم أدرس؟!
أحرجني ذلك الأبله ثانية، لم أعرف كيف يجب أن أرد، أأعتذر أم أشتري منه منديلاً!! هذا ماتعلمناه في طرق تكفير بعض الذنوب! قاطعني قائلاً: ألأنني شبه عارٍ، ألأنني فقير أبيع ماترمينه ظننتي أني لم أتعلم، حسناً أعطني قلماً لأكتب لك ماتريدين!!
كدت أخبره بأنه عارٍ تماماً وليس شبه عارٍ كما يظن ولكني أغلقت فمي حتى لا أجرحه ثانية.
- لا!! لم أقصد ذلك ولكنّي ظننت...!، ثم صمت جديد، لمَ فتحت ذلك الباب اللعين؟!
أخرجت الأقلام من الدرج مددتها له قائلة: إنها من نصيبك!!
كانت جملتي تقول بأني تنازلت عن قيمتها وكأنه قد أخبرني مسبقاً بأنه سيدفع لي!! يالهذا الاعتذار الذي لا نخدع به سوى أنفسنا!.
نظر لها وقال ساخراً: حمراء!! يالك من فتاة عاطفية جداً!.
- لحظة واحدة!! كيف علمت بأنها حمراء قبل أن تجربها!!
ابتسم فقال: أخبرتك سأكون معلماً يوماً ما!.
نهض نحو الباب ليفتحه وكأنه اعتاد فعلاً على العيش هنا، قال لي مع آخر نظرة ألقاها قبل أن يغلق الباب من خلفه ليرحل وحيداً ويجمعني بوحدتي مجدداً: أشكرك على الطعام وأتمنى أن لا تنسي كيفية صنعه كما نسيتي بأنك من أخبرني قصة أقلامي الحمراء هذه!!.
صوت ضحكاته كانت تخترق المكان رغم رحيله، لم أشعر بالغضب منها ولا من غبائي ونسياني الدائم، إنما أغضبني نسبه ملكية تلك الأقلام إليه فوراً وأمامي!! رغم أنه أنا من أعطاه إياها إلا أنه كان عليه الانتظار حتى يرحل ثم ينسبها لنفسه، هذا ما ظننته وهكذا تعلمت معنى تقدير الجميل، هو تذكّره أمام فاعله فقط لا للأبد!! خلعت ثيابي ورميت بجسدي على الأرض وكأن الزمن عاد إلى الوراء وكأن شيئاً لم يكن، تلك الخسارات المتتالية لم تحدث لي من قبل، فلم يستطع أحد أن يشعرني بسذاجتي كما فعل هذا الصبي في ساعة واحدة فقط!! أو ربما أقل من ساعة، لا أعلم فلم يعد هاتفي المرمي على الأرض مكانه من بعد خروجه!!
سألت نفسي سؤالاً موجهاً له، لم تخبرني ياترى أيّ نوع من المعلمين ستكون؟!
صرخت بغضب عالياً: تباً كيف سأعرف الوقت الآن!!.