إذا لم تكن الصورة شغفاً فلن تجعل منك مصوراً أو مخرجاً.
نشط المخرج فيصل العتيبي مستحثاً الحاسة البصرية بالتصوير ومن ثم بإدارتها إخراجياً لأكثر من عقدين جعلت منه يمثل الجيل الجديد من المخرجين السعوديين، ما بين تحقيق الأفلام الروائية والوثائقية، وقد تمكن من جعل الفيلم الوثائقي ينطق عن مرحلة جديدة على مستوى الوطن العربي.
فقد عزز من اتجاه الوثائقي نحو تكريس الواقع لا سرد التاريخ، وهو بهذا يقدم مرحلة جديدة في عمر البرامج والأفلام الوثائقية.
يشتغل العتيبي على جعل الحواس شهود الواقع في كل لحظة. سواء حين يشغل نفسه باقتناص لحظات الزواج الكبير في جزر القمر أو رصد حياة المهاجرين من الجزيرة العربية إلى الهند، أو حياة الصيادين، أو ذكرى المخرج سعد الفريح.
عن تجربة تعمقت لأكثر من عقدين في التصوير والإخراج، واحتراف تابعه في الإنتاج والإشراف لأكثر من قناة وفضائية، ومشاركات تحصد جوائز في مهرجانات سينما؛ يحدثنا المخرج العتيبي عنها وعن مستقبل مشاريعه الأخرى.. إلى الحوار:
- هل يمكن أن نقول بأن المخرج شخص يحسن التحديق في الأحداث ليخلق صورة عنها؟ ما تعليقك؟
قبل أن يحسن التحديق في الأحداث أو القصص لابد أن يكون المخرج شخصاً ذا رؤية فنية استثنائية ومهارات إبداعية وشغف عميق بالأفلام. لا بد أن يمتلك المخرج القدرة والموهبة على تحويل القصة أو الأحداث إلى صورة بصرية بالدرجة الأولى، ويجيد سرد الحكاية. وبالتالي هو بحاجة للتحكم في جوانب الفيلم الفنية والدرامية والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة وتطويرها وتطويعها في تسلسل الفيلم وتماسك بنيته.
وبالتأكيد، فالمخرج، لا بد أن يكون لماحاً ويلتقط تفاصيل الحياة، ويوميات الناس التي تلهمه في أعماله، وفوق ذاك يكون قارئاً مطلعاً ومثقفاً بشكل جيد في الموضوع الذي يدور حوله الفيلم.
- المبدع سواء بالكلمة أو بالنغم أو بالصورة؛ يعتمد على الخيال والذاكرة والتقنية. كيف ترى أدوات وخبرات المخرجين السعوديين؟ وكيف طورت أدواتك في التصوير والإخراج؟
المخرجون السعوديون ذكوراً وإناثاً لديهم شغف كبير بإخراج وصناعة الأفلام، ولديهم الموهبة والاطلاع المتنامي، سواء بالمشاهدة أو القراءة أو المناقشات. وبالنسبة لي، فمسألة تطوير الأدوات جاءت تراكمية من خلال خبراتي السابقة في التصوير والإخراج، وفي كل عمل جديد أقوم به يصبح مصدر تطوير بلا شك. وأيضاً مشاركة أفلامي في المهرجانات السينمائية، ومناقشتها مع النقاد والمهتمين وصناع الأفلام الآخرين، ومشاهدة أعمالهم؛ هي من أفضل طرق التطوير للمخرج.
أيضاً لا أنسى أمراً مهماً وهو جانب التقنية وتطورها بشكل سريع، وسهولة توافرها عن السابق.
- مررت بمرحلتين من فن التصوير إلى فن الإخراج بين عامي 1993- 2000. كيف تقيم هذه المرحلة من تجربتك؟
أنا كنت محباً للصورة منذ صغري، كنت أرى فيها شيئاً سحرياً يجعل العالم صغيراً وقريباً مني في نفس الوقت، هذا الشعور تعزز معي أكثر بعد تخصصي في الفنون السمعية والبصرية. وبداية حياتي العملية في فن تصوير الفيديو والأفلام، والمرحلة الثانية وبداية الاحتراف؛ كانت مع تأسيس مؤسسة الإنتاج الخاصة بي، بإنتاج وإخراج أعمال وثائقية للقنوات التلفزيونية، ثم التحاقي بدورة متقدمة في إنتاج وإخراج الأفلام الوثائقية 2004 في مركز الجزيرة للتدريب والتطوير الإعلامي بالدوحة.
الخطوات الاحترافية الأكثر بدأت مع مشاركتي في المهرجانات السينمائية في الخليج والعالم والاحتكاك مع مدارس مختلفة من العالم، ما أتاح لي الفرصة المباشرة لاكتساب المزيد عن فنون صناعة الأفلام خصوصاً الأفلام الوثائقية.
- قدمت الفيلم الوثائقي الواقعي بحسب أحاديثك الإعلامية. كيف توضح لنا مفهومك وأسلوبك؟
- الوثائقي الواقعي هو النوع الذي أحببته من أنواع الفيلم الوثائقي؛ نظراً لتميزه بقدر كبير من المصداقية، واعتماده على شخصيات حقيقية من واقع الحياة اليومية، وتميزه كذلك بكل عناصر المتعة الفنية البصرية، ما يساهم في تشكيل الذائقة الفنية والمعرفية والتنوير لدى المتلقي.
الوثائقي الواقعي لديه ميزة جميلة تستهويني على الصعيد الشخصي، وهي الاكتشاف والمعرفة المتجددة، فكل قصة أو فيلم بحاجة إلى بحث واكتشاف عناصر جديدة وحبكة من نوع مختلف. وكل هذه عوامل جذبتني أكثر للفيلم الوثائقي الواقعي، وبدوري أحاول نقل وتحويل هذه العوامل والمشاعر الواقعية بطريقة إبداعية ومشاركة الناس برؤيتها في النهاية على شكل أفلام وثائقية.
- تراث الجزيرة العربية الثقافي المعنوي والمادي عالم خصب. كيف تحركت الكاميرا واختارت مواضيعها؟ وهل تحلم بمشاريع أخرى؟
- فعلاً تاريخنا وتراثنا وثقافتنا في الجزيرة العربية غنية جداً، وضاربة في أعماق التاريخ الإنساني. لدينا آلاف القصص والشخصيات الموثقة في المصادر المكتوبة أو حتى المتداولة شفهياً، لدينا الكثير من القيم الإنسانية النبيلة والرائعة.
في عناصر الفيلم الوثائقي الأهم هي القصة، والقصة تأتي من خلال ما نقرأ أو نسمع أو نشاهد، وهذه العوامل هي ما ألتقط منها مواضيع وقصص أعمالي، والأفكار في هذا الجانب كثيرة جداً، ولم ير النور منها سوى القليل، مما أتيحت له الفرصة المناسبة للإنتاج من خلال التلفزيون غالباً؛ لأنه هو الجهة القادرة على دفع تكاليف الإنتاج.
وأتمنى أن يجد الفيلم الوثائقي الاهتمام اللائق به، من حيث الدعم والإنتاج وتعدد منصات العرض، فهو من أفضل وسائل المعرفة ونشر الثقافة وحفظ التراث والتاريخ.
- يوجد في المملكة العربية السعودية لحظات تاريخية من الحضارة لا تزال بكراً لم تقترب منها السينما العربية أو الأجنبية، مثل هجرة الملك الكلداني نبونيد إلى تيماء، وهجرة العماليق (الهيكسوس) من شمال الجزيرة العربية إلى مصر، وطريق البخور (طريق التجارة من الجنوب إلى الشمال) وسواها. هل يمكن أن تكون مشروعاً مستقبلياً؟
بالطبع، وأنا متأكد أنها ستكون مادة مشوقة وجاذبة، يراها كل العالم، ويجد فيها أحداثاً وبيئة جديدة وثقافة وحضارة إنسانية أصيلة. وهناك غيرها آلاف الأحداث والقصص والشخصيات التي تستحق عمل أفلام عنها. ولك أن تتخيل أن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- موحد هذا الكيان العظيم؛ لم ننجز عنه فيلماً يوازي ما قام به من إنجاز وتضحيات كبيرة، أثمرت عن قيام وتوحد بلادنا متعددة الأطياف، ومن ثم نهضتنا الكبيرة.
- أنجزت فيلمين متصلين بالتعدد الثقافي بين الجزيرة العربية والجوار الجغرافي، فيلم (الزواج الكبير) (2013) في جزر القمر، وفيلم (باركس) (2015) عن المهاجرين العرب في الهند. ما الذي دفعك إلى هذا؟ وماذا اكتسبت من التجربتين؟
الدافع هو حب الاكتشاف لكل ما هو غامض ونادر ومجهول من عادات وطبائع البشر، خصوصاً في عالمنا العربي والإسلامي المتعدد الثقافات والبيئات، والذي ما نزال نجهل الكثير عنه.
التجربتان (فيلم الزواج الكبير وفيلم باركس) يجمعهما عامل اكتشاف المجهول والنادر والغوص في عمق التجارب الإنسانية، لكنهما يختلفان من حيث المضمون والمعالجة. ففي فيلم الزواج الكبير اعتمدت في تناول الفيلم على المعايشة الواقعية للحدث بعد اختيار الشخصيات المناسبة ورسم السيناريو، واستثمرت الأحداث التي كانت تتم بعفوية دون تخطيط مسبق، وهو ما نسميه في الوثائقي الواقعي بهدايا المكان، حيث تم توظيفها من جديد في سياق الفيلم بطريقة مشوقة.
أما فيلم باركس، فقد استغرق وقتاً طويلاً في البحث، تجاوز ستة شهور، وكان السيناريو الأوّلي الذي ذهبنا لتصويره يتناول حكاية وتاريخ العرب الذين استقروا في حيدر أباد بالهند، وكونوا مجتمعاً صغيراً منذ مئات السنين، لكن أثناء التصوير اكتشفت قصة (أحمد الزهراني وعائلته)، حين هاجر جدهم من الباحة قبل أكثر من 150 سنة، ومحاولاتهم المضنية للعودة لأبناء عمومتهم في الباحة. ولأن الوثائقي يعتمد بشكل أكثر على المعطيات الجديدة، وعلى الواقع؛ فقد قمت بتغيير كبير في الفيلم، وأدخلت قصة الزهراني وعائلته في الفيلم، وذهبنا للتصوير في جدة والباحة، حيث أبناء عمومتهم السعوديين، وبالتالي أخذ الفيلم شقين: أحدهما استقصائي تاريخي، والآخر سيرة ذاتية لقصة كفاح أحمد الزهراني وأبنائه للعودة إلى ديار أجدادهم ولقاء أقاربهم.
في الحقيقة الذي اكتسبته في كل فيلم وعمل وثائقي، غير الرصيد المعرفي والثقافي؛ هو العلاقات الإنسانية التي كونتها مع شخصيات أعمالي، هناك العديد منهم أصبحوا من أقرب أصدقائي.
- أي صناعة ثقافية تحتاج إلى تعليم وممارسة وتسويق. وقد تحققت في مهرجان الجنادرية للتراث، ومعرض الكتاب ومعارض وصالات الفنون البصرية؛ ولم تحدث للفيلم إلا مؤخراً. كيف يمكن أن نجعل منها صناعة مستمرة مع قلة أماكن العرض؟
أعتقد أنها لم تحدث حتى الآن أو على الأقل لم تنضج، فتعلم صناعة الأفلام لايزال في بدايته، وما أنجز من أفلام غلبت عليها الاجتهادات الفردية ومحدودية ميزانية الإنتاج. أما التسويق فهو غير موجود حتى الآن. ومهرجان أفلام السعودية خطوة ممتازة من حيث إيجاد منصة لعرض أحدث الأفلام السعودية والتنافس فيما بين صناعها وتشجعيهم.
أما كيف نجعلها صناعة مستمرة فهذه بحاجة إلى جهد وتخطيط مؤسساتي، أتمنى أن تقوم به الجهات المسؤولة عن الثقافة والفن في البلد، ولا بد أن تتحول إلى صناعة تعود بفائدة اقتصادية، وتتحول إلى مهنة ذات دخل مادي تمكن العاملين في هذا المجال من الاستقرار والاستمرار.
- أنجزت فيلماً وثائقياً عن المخرج السعودي سعد الفريح في مهرجان الأفلام السعودية (2016). كيف يمكن أن تتحدث عن أساتذتك المخرجين والمصورين؟
الفيلم الوثائقي عن المخرج الرائد سعد الفريح من أكثر الأعمال التي أفتخر بها، وهو لمسة وفاء وتقدير وعرفان وتطوع مني ومن الزملاء الذين شاركوني في الفيلم مثل الأستاذ يحيى مفرح زريقان في كتابة النص، والأستاذ سعود الذيابي في التعليق وزميلي المخرج عبدالعزيز الفريح ابن المرحوم سعد الفريح وغيرهم.
ومع قلة المادة البصرية عن سعد الفريح، وعدم وجود أرشيف كافٍ؛ إلا إن الجهود المخلصة والصادقة أثمرت عن فيلم حظي بإشادة وإعجاب الجميع أثناء عرضه في حفلي افتتاح وختام مهرجان أفلام السعودية 2016.
وهو أقل القليل الذي نقدمه لأساتذتنا الرواد من المخرجين السعوديين الذين رغم الظروف التي كانت أصعب من ظرفنا حالياً، وبالرغم من قلة الإمكانات والأدوات؛ إلا إنهم قدموا أعمالاً رائعة وخالدة، وأدوا رسالتهم على الوجه المطلوب.
- حقق فيلمك (المتاهة) (2016) النخلة الفضية في مهرجان الأفلام السعودية (2016). حدثنا عن هذا الفيلم.
فيلم (المتاهة) يحكي قصة ومعاناة الصيادين التقليديين في جيزان، بطريقة غير مباشرة، وشاعرية، تأخذ من البحر هدوءه وغموضه وعنفوانه أحياناً، هناك من يدفع ضريبة للحياة العصرية، فامتداد المدن إلى شواطئ البحر وردمه دون مراعاة للطبيعة ألحق الضرر بالبيئة البحرية ومحاضن الأسماك ومصدر رزق الصيادين.
- ما المشروع القادم للمخرج فيصل العتيبي؟
أعمل حالياً على إخراج فيلمين لقناة الجزيرة الوثائقية أحدهما عن مدائن صالح، والآخر ضمن سلسلة وثائقية عن حكاية الأطباق العربية لشهر رمضان المبارك، وأحضر أيضاً لإنتاج فيلم وثائقي سيتم تصويره في موريتانيا نهاية هذا العام.
بطاقة المخرج
فيصل العتيبي: مخرج وصانع أفلام سعودي. حاصل على دبلوم عالي لمدة ثلاث سنوات في الإلكترونيات السمعية والبصرية من المعهد الملكي بالرياض (1993)، وحاصل على دورة متقدمة للمحترفين في إنتاج وإخراج البرامج الوثائقية من مركز الجزيرة للتدريب والتطوير الإعلامي بالدوحة (2004)، ودورة متخصصة في صناعة الفيلم السينمائي من الفكرة إلى الشاشة المعهد الثقافي البريطاني (2009)، وعضو لجنة الإعلام بالغرفة التجارية الصناعية بالرياض من 2012 حتى الآن، ومؤسس ومدير مؤسسة البعد الإعلامي (2001 حتى الآن) متخصص في البرامج والأفلام الوثائقية، وقدم دورة متخصصة لمدة أسبوعين في صناعة الأفلام والبرامج الوثائقية التلفزيونية لصالح جهاز تلفزيون الخليج في مركز التدريب بتلفزيون البحرين 2015.
أشرف على إنتاج وإخراج العديد من البرامج الوثائقية والتسجيلية لشبكة قنوات التلفزيون السعودي- قناة الجزيرة الوثائقية- قناة الجزيرة الإخبارية- قناة تي آر تي التركية TRT، وغيرها من المحطات التلفزيونية، وقام بإنتاج وإخراج العديد من الأفلام الوثائقية للقطاعات الحكومية والخاصة.
فيلموغرافيا: (عروس الآثار والجبال) (وثائقي - 2006)- شارك في مهرجان أفلام الإمارات 2006 ومهرجان جدة 2007، ومهرجان أفلام السعودية 2008، وفاز بالجائزة الأولى لأفضل صورة سينمائية في مهرجان جدة 2007. (فوبيا) (وثائقي قصير- 2008). و(الحصن) (ديكو دراما- 2009)، فاز بالمركز الثالث في مسابقة الأفلام الوثائقية في مهرجان الخليج السينمائي بدبي 2009. (الزواج الكبير) (وثائقي - 2012) قناة الجزيرة الوثائقية، فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجاني مالمو السينمائي 2013 ومسقط السينمائي 2014 والنخلة الذهبية بمهرجان الفيلم السعودي بالدمام 2015. و(باركس: جدي كان هنا) (وثائقي - 2013)- الجزيرة الوثائقية. رطب جني (وثائقي- 2014)- الجزيرة الوثائقية. و(نكهة سعودية) (وثائقي قصير- 2015)، فاز بجائزة المركز الثالث في ملتقى ألوان السعودية 2015. و(المتاهة) (ديكودراما- 2016)، فاز بالنخلة الفضية بمهرجان أفلام السعودية بالدمام 2016. و(سعد الفريح) (وثائقي قصير- 2016)، عرض في مهرجان الأفلام السعودية- الدورة الثالثة 2016. بالإضافة إلى سلسلة من الأعمال الوثائقية التلفزيونية.