مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

أثر العمارة الإسلامية على معمار المدن الأوروبية.. رحلة عبر الزمن والمدن

يُطلّ علينا القرنان التاسع عشر والعشرون شاهدان على نقطة تحول مهمة في مسيرة الحضارة الإنسانية التي انتقلت من العصور الوسطى إلى عتبات الحداثة، حيث نتج عن الثورة الصناعية الهائلة في أوروبا، التي سرعان ما اجتاحت أرجاء المعمورة، إبداعات غير مسبوقة. وفي خضم هذا التطور المتسارع، ظهر شعور عميق بالحنين إلى الماضي، ورغبة ملحة في إعادة إحياء التراث المعماري العريق. فكان ذلك بمثابة البذرة التي نبتت منها ظاهرة (إحياء الطرز المعمارية التاريخية)، تلك التي نشأت في الحضارات القديمة مثل اليونان وروما وكذلك حضارات العصور الوسطى وعلى رأسها الحضارة الإسلامية. لم يقتصر هذا الإحياء على مجرد تقليد أعمى للماضي، بل اتخذ منحى أكثر عمقاً، حيث استلهم بعض المعماريين من أصول العمارة التاريخية في أوطانهم، متبنين الأساليب التقليدية في تصميم عمائرهم الحديثة، فكانت واحدة من وسائل التعبير عن الهوية الوطنية، والارتباط الجذري بماضي بلادهم.
في خضم القرن التاسع عشر، اشتعلت نار المنافسة بين أروقة الفن المعماري في أوروبا، حيث تنافست مختلف الطرز الكلاسيكية، من قوطي وروماني ويوناني، على إثبات هيمنتها على المشهد المعماري. وأولئك الذين لم يقبلوا بأي من تلك الخيارات، اتجهوا نحو الشرق العريق الذي كان مصدراً مهماً للإلهام المعماري، فظهرت ملامح من العمارة الإسلامية في بعض المدن الأوروبية كطراز معماري غير مألوف، وكان الغرض من استخدامها هو إضافة عنصر غريب وجذاب لمبانيهم يستدعي الأجواء الشرقية المتخلية النابعة من حكايات ألف ليلة وليلة التي استحوذت على المخيال الأوروبي، فجسّدت عمائرهم أجواء الشرق المتخلية، ممزوجة بلمسة من الإبداع الأوروبي.
حرص الفنانون الأوروبيون على توثيق روائع العمارة الإسلامية في رسوماتهم، فجابوا بريشتهم في عواصم الشرق ومدنه مثل القاهرة ودمشق وإسطنبول ومراكش، ناقلين رموزاً من الحضارة الإسلامية إلى أراضيهم. لم يكن التأثر بالعمارة العربية مباشراً، بل مرّ بمراحل من الدراسة والبحث والتطوير، حتى تمكن المعماريون الأوروبيون من إتقان أساليبها وبناء منشآت مستوحاة منها. ومن هنا ظهرت نماذج معمارية فريدة من نوعها في مدن أوروبية مثل ألمانيا وسراييفو، حيث تم تشييد مبان مستوحاة من الطراز الإسلامي، شاهدة على تأثير الشرق على الحضارة الغربية.
تميزت المباني الأوروبية المتأثرة بالعمارة الإسلامية في القرنين التاسع عشر والعشرين باستخدام الزخارف الإسلامية التقليدية، سواء كانت هندسية أو نباتية، كما استلهم المعماريون الأوروبيون أيضاً عناصر معمارية أساسية من العمارة الإسلامية، مثل واجهات المباني والمداخل البارزة، والقباب والعقود والنوافذ والشرافات التي تزين أسوار المباني. ولم ينسوا رمزاً مهماً من رموز العمارة الإسلامية، وهو المئذنة، فبنوها بطرز مختلفة، مضيفين على المبنى لمسة إسلامية خالصة. ولم يكتف المعماريون الأوروبيون بنقل تلك العناصر بشكل تقليدي، بل وظفوها بطرق مبتكرة تتناسب مع التصاميم الحديثة والوظيفة الرئيسة للمبنى. انحصر استخدام تلك العناصر المعمارية والزخرفية الإسلامية في العمارة الخارجية، بينما لم يمتد تأثيرها إلى داخل المبنى، حيث لم تظهر أي صلة واضحة بين التصميم الداخلي للمبنى وبين العمارة الإسلامية، لا من ناحية الشكل ولا من ناحية المضمون.
وبفضل اتجاه الاستشراق الذي ساد في أوروبا منذ القرن التاسع عشر، ظهر ما يُعرف بـ(المساجد غير الوظيفية)، وهي مبان تتخذ من الخارج هيئة المسجد، مع مئذنة وقبة، بينما تُستخدم لغرض آخر غير ديني. بدأ ظهور تلك المساجد غير الوظيفية في ألمانيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكان من بينها مبنى فريد من نوعه في مدينة بوتسدام بالقرب من برلين. تم تشييد هذا المبنى بين عامي 1841 و1843، ويعد أول نموذج للعمارة الإسلامية الحديثة في أوروبا. على الرغم من مظهره الخارجي كمسجد، إلا أن هذا المبنى كان في الواقع محطة ضخ وخزان مياه لقصر سانسوسي، حيث كان يُستخدم لنقل المياه من نهر هافل المجاور إلى حدائق القصر. شيد المبنى المعماري الألماني لودفيج بيرسيوس Ludwig Persius بتكليف من الملك فريدريك ويليام الرابع، وتميز بتصميمه الإبداعي الذي يمزج بين الفن المعماري الإسلامي والوظيفة الهندسية الحديثة. حرص بيرسيوس على إخفاء مدخنة محطة الضخ، حيث تم دمجها في بناء على شكل مئذنة، مما أضفى على المبنى مظهراً إسلامياً متكاملاً. في عام 1985، تم تحويل هذا (المسجد غير الوظيفي) إلى متحف، ليصبح معلماً ثقافياً مهماً يجذب الزوار من مختلف أنحاء العالم.
بُني مسجد بوتسدام على طراز معماري شبيه بالعمارة المملوكية التي سادت في مصر وسوريا والحجاز خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين. يتجلى ذلك بوضوح في تصميمه الخارجي، حيث نجد القبة المميزة للمساجد المملوكية، والمئذنة ذات القاعدة المستطيلة والبدن الأسطواني، والزخرفة المُلفتة للنظر باستخدام الصفوف المتبادلة من الحجر الملون. تُزيّن نوافذ المسجد ذات العقود الثلاثية واجهته، بينما تُضفي الشرافات التي تعلو سور المبنى لمسة من الجمال. شهد المسجد تجديداً شاملاً في القرن العشرين، حيث اتخذ الطراز المغربي الجديد طابعه المميز.
مما يثير الدهشة أن المعماري لودفيج بيرسيوس، الذي صمم وبنى هذا المسجد، لم يقم أبداً بزيارة أي دولة عربية أو إسلامية! يُطرح هذا السؤال بوضوح: ما هو مصدر إلهامه؟ ولماذا اختار هذا الطراز تحديداً؟!
يُرجح أن اختيار بيرسيوس لهذا الطراز يعود إلى اتجاه الاستشراق السائد في أوروبا خلال تلك الفترة، حيث كان المعماريون الأوروبيون مُولعين بتجربة طرز معمارية غريبة عن المعتاد. من ناحية أخرى، قد يكون لعمل بيرسيوس كمعماري دوراً في اطلاعه على مختلف الطرز التاريخية، ومنها العمارة الإسلامية، مما دفعه إلى استلهامها في تصميمه لمسجد بوتسدام.
وفي مدينة دريسدن الألمانية، بُني (مسجد غير وظيفي) آخر يُعرف باسم (يدنز) Yednize، بمعنى (جديد) باللغة التركية، حيث استُخدم كمصنع للتبغ. استلهم مالك المصنع، (هوغو زيتز)، فكرة بناء مصنعه على طراز مسجد خلال رحلة له إلى الشرق، رغبة في التميز عن المباني الباروكية السائدة في دريسدن. واجه زيتز صعوبات في الحصول على مكان لبناء مصنعه بسبب القيود المعمارية، فاستعان بالمعماري (مارتن هاميتزش) الذي صمم المبنى وأتم بناءه بين عامي 1907 - 1909 بشكل يتضمن مآذن زائفة لإخفاء مداخن المصنع. تميز المبنى بمداخنه المرتفعة المتنكرة في شكل مآذن، و600 نافذة مختلفة، وقبة زجاجية ملونة بارتفاع 20 متراً.
استلهم هاميتزش بعض عناصر المسجد من مقابر المماليك في القاهرة، مثل شكل القبة والجدران الخارجية، والشرافات، والنوافذ ذات العقود. أما المآذن، فهي تنتمي لطراز العمارة العثمانية ذات النهاية المخروطية، نظراً لأن التبغ كان يُستورد من مدينة عثمانية. تم استخدام عناصر معمارية شرقية لجذب العملاء، حيث ربطوا (سالم جولد)، نوع التبغ المُنتج، بالشرق، كما تميز المبنى عن باقي المباني الباروكية في دريسدن. تم تثبيت كلمات (سالم عليكم) على المبنى للترحيب بالمسافرين على خط السكك الحديدية بين براغ وبرلين. حقق تبغ (سالم جولد) رواجاً كبيراً في ألمانيا، وسرعان ما أصبح المبنى رمزاً لمدينة دريسدن. تعرض المصنع للقصف خلال الحرب العالمية الثانية في فبراير 1945، وتم إصلاحه لاحقاً. في التسعينات، تم تحويل المبنى إلى مركز تجاري، وتحولت قبته إلى مطعم يوفر للضيوف إطلالة بانورامية رائعة على المدينة.
هكذا انتشر الأسلوب الإسلامي الحديث في وسط وشرق أوروبا، مستلهماً من العمارة العثمانية والمغربية، وعمارة القاهرة في العصور الوسطى. مع نهاية القرن التاسع عشر، سافر العديد من المعماريين الأوروبيين إلى إسبانيا والمغرب ومصر، لدراسة العمارة الإسلامية. أثرت رحلاتهم ودراستهم على المعمار المعاصر في أوروبا، مما مهد الطريق لظهور تلك الطرز التاريخية بشكل أكبر في أنحاء أوروبا، ومن بينها مدينة سراييفو.
تعد مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك، شاهدة على تاريخ عريق يعود إلى منتصف القرن الخامس عشر، حين استقرّت تحت حكم السلطان العثماني محمد الفاتح عام 1457م، لتصبح عاصمة البوسنة عام 1462م. وظلت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية لمدة 421 عاماً، حتى احتلالها من قبل الإمبراطورية النمساوية المجرية عام 1878م، وامتد حكمها 40 عاماً، قبل أن تصبح البوسنة جزءاً من يوغوسلافيا بعد الحرب العالمية الأولى. خلال تلك الحقبة، تركت كل حضارة بصماتها على معمار سراييفو، حيث سادت العمارة العثمانية خلال الحكم العثماني. ومع حلول القرنين التاسع عشر والعشرين، سعى المعماريون النمساويون-المجريون إلى الخروج عن النمط المألوف، باحثين عن مصدر إلهام معماري جديد.
تجسّد تحفة معمارية في سراييفو ذلك التنوع الثقافي، وهي مبنى بلدية المدينة، المعروف باسم (غرادسكا فيجيسنيكا) (Gradska Vijecnica). تم تصميم المبنى عام 1891 على يد المهندس التشيكي كاريل باتشيك Karel Pařík. واجه باتشيك بعض الخلافات مع حاكم البوسنة حول تصميم المشروع المأخوذ عن طراز معماري روماني- بيزنطي، مما دفعه إلى ترك المشروع. أكمل بناء المبنى مهندسان تشيكيان آخران، ألكسندر ويتيك (توفي عام 1893) وشيريل إيفكوفيتش (عام 1896). وُنسب تصميم المبنى الحالي إلى ويتيك مستلهماً من روعة العمارة المملوكية في القاهرة، حيث عكست خبرته ودراسته لآثار القاهرة الإسلامية على تصميم المبنى. ويُرجح أن ويتيك سافر مرتين إلى مصر، وكان مولعاً بعمارة مسجد السلطان حسن درة العمارة الإسلامية في مصر، مما ألهمه في تصميم مبنى بلدية سراييفو.
لم يقتصر تصميم المبنى على الاستلهام من مسجد السلطان حسن، بل تميز بمزيج فريد من عناصر العمارة الإسلامية، بما في ذلك العمارة الإسلامية الحديثة في القاهرة التي كانت سائدة في ذلك الوقت. يُعدّ مبنى بلدية سراييفو تحفة معمارية على الطراز الإسلامي، ويتمتع المبنى بموقع إستراتيجي، حيث يطل على ثلاثة شوارع رئيسة في سراييفو، ويتميز بمدخل تذكاري بارز يضفي عليه فخامة وجمالاً.
بعد أن استخدم مبنى البلدية كمركز للإدارة المحلية لسنوات، تم تحويله إلى المكتبة الوطنية والجامعية لجامعة البوسنة والهرسك عام 1949. واجه المبنى مأساة عام 1992، عندما احترق نتيجة هجوم من قبل ميليشيات الصرب. وبعد سنوات من الترميم، أعيد افتتاح مبنى البلدية عام 2014، ليصبح أحد أجمل معالم سراييفو بواجهته الملونة وزخارفه العربية. الأمر المثير للاهتمام أن هذا المبنى أصبح رمزاً وطنياً في نظر السكان البوسنيين، على الرغم أن من شيده محتلون أجانب للبلاد، كما أنه بُني على طراز أجنبي لا يمت للمدينة بصلة! نظراً لأهميته التاريخية والثقافية، تم تسجيل مبنى البلدية كأثر تاريخي من قبل سلطات البوسنة والهرسك عام 2006.
لم يقتصر وجود العمارة الإسلامية على ديار الإسلام، بل تجاوزت حدودها الجغرافية لتُثري المشهد المعماري العالمي، فقد تركت العمارة الإسلامية بصمة واضحة على الفن المعماري الأوروبي، بدءاً من القرن التاسع عشر، حيث ألهمت المعماريين في تصميم مزيج من الإبداع الشرقي والأوروبي، يُجسد رمزاً معمارياً إسلامياً في أوروبا، على الرغم من اختلاف وظيفة تلك العمائر عن العمارة الإسلامية التقليدية.

ذو صلة