مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

إرث الشرق في قلب فارس وأفغانستان.. لآلئ منثورة في تاريخ العمارة الإسلامية

ما إن هدأ صهيل خيول الجيوش الفاتحة وانفض غبارها ماكثاً في الأرض، ومعلناً عن بزوغ نجم أمصار جديدة تتعرف على الإسلام لأول مرة وتستكشفه، أمصار بعضها متجانس والآخر متباين لتباين البقعة الجغرافية وإرثها المحلي المتنوع، حيث انتشر الإسلام شرقاً وغرباً، فوصل حدود شمال القارة الأفريقية من جهة الغرب واستقر في بلدان المغرب ومدنه ومنها انتقل إلى بلاد الأندلس، وانتشر كذلك شرقاً عابراً قمم الجبال الشاهقة والطرق الوعرة، مستقراً في بلاد الساسانيين، وبلاد عُرفت ببلاد ما وراء النهر وهي منطقة أوزبكستان وتركستان حالياً. فإذا بهذه المدن والولايات الجديدة التي تحبو على طريق العمارة الإسلامية جنباً إلى جنب مع مراكز الإسلام وقبلته في مكة والمدينة -ثم الكوفة ودمشق وبغداد فيما بعد-، تستلهم أهم ركائزه والممثل في بناء معماري متعدد الوظائف على رأسها وظيفة السلطة الروحية للإسلام وأداء العبادات، ألا وهو (المسجد). ومع تبلور الشكل المعماري البسيط للمسجد في المرحلة المبكرة من تاريخ الإسلام، والقائم على الصحن المكشوف تحيط به الأروقة، أخذت كل بقعة من تلك البقاع المترامية الأطراف تهضم تلك الروافد المعمارية والفنية الجديدة وتمزجها بإرثها التليد وموروثها المحلي، فأنتجت طرزاً معمارية متفردة ومميزة لكل بقعة منها.
وكما كان التخطيط المعماري المبكر للمساجد هو القاسم المشترك بين المدن والولايات الإسلامية المترامية الأطراف، كانت اللغة العربية كذلك، فعلى الرغم من أن الغالبية العظمى لأهل تلك البلاد كانت تتحدث الفارسية والتركية والكردية وغيرها من اللغات واللهجات المحلية، إلا أن اللغة العربية كانت هي العامل المشترك بينهم جميعاً، فنجد آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة منثورة على جدران المساجد والمنشآت المعمارية المتنوعة جنباً إلى جنب مع أبيات من الشاهنامة الفارسية وأشعار جلال الدين الرومي والتبريزي وأوحدي والكرماني وغيرهم، والتي تمثل إرثاً محلياً بامتياز.
واليوم.. ربما تحول الجغرافيا السياسية والأوضاع الداخلية المضطربة بيننا وبين تلك البقاع ولاسيما تلك الموجودة في قلب فارس وأفغانستان، إلا أن إرث الشرق المكنون في قرى ومدن تلك البقاع وميراثها الفكري والأدبي والمعماري، شكلوا جسراً مستداماً للتواصل، دائماً بدوام رصات الآجر والبشر. وفي الفقرات التالية نتعمق أكثر في تلك المجتمعات وما أنتجته من إرث معماري مميز.
طراز معماري فريد
ففي بلاد فارس ما زال لدينا هناك شهود عيان قابعة وشاهدة على تلك التحولات المعمارية المهمة سواء من الزرادشتية ومعابد النار أو البوذية ومعابدهم إلى الرافد الديني الجديد، الإسلام ومساجده الجامعة. وتحديداً من شمال شرق البلاد في مدينة دامغان بمحافظة سمنان، نجد مسجداً بسيطاً في شكله لا يختلف كثيراً عن هوية ومضمون المسجد النبوي في مراحله الأولى الممثلة في صحن يطل على السماء، تحيط به في جهاته الأربع مظلات تقي المصلين حرارة الشمس وبطش الرياح والرمال. مسجد مبني بالآجر والطوب اللبن، واختلف المؤرخون في تحديد تاريخه ما بين فترة ولاية الخليفة علي بن أبي طالب والبعض الآخر ينسبه لفترة ولاية هارون الرشيد. وعلى كل فهو يرجع للقرنين الأول والثاني الهجري. ورغم بساطة المسجد من الناحية المعمارية والفنية إلا أنه يحمل في جنباته مورث المدينة والممثل في ضخامة الأعمدة التي تحمل سقفاً مسطحاً بسيطاً يعبر عن المرحلة الزمنية التي ينتمي إليها، إلا أن النموذج المثالي للمساجد المبكرة في فارس نجده في إحدى قرى محافظة أصفهان، في قرية نائين أو نايين كما ينطقها أهلها، حيث نجد هناك لؤلؤة مكنونة ممثل في مسجدها الجامع، الذي لأول وهلة تراه تظن أنك في إرث العباسيين حيث سامراء بطرزها الفنية المتنوعة. ووفقاً لهذا التخطيط شيدت العديد من المساجد الفارسية ومنها مسجد شوشتر (القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي)، ومسجد ساوه، ومسجد فهرج (القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي) وغيرها.
ومن قلب فارس نعرج شرقاً ونتجه نحو أفغانستان وتحديداً مدينة بلخ، وزيارة لأقدم مسجد باق من العصر العباسي، وأحد أهم المساجد المبكرة في العمارة الإسلامية بشكل عام، هو مسجد (القباب التسع) أو مسجد (نه گنبد) في بلخ ويرجع تاريخه إلى بدايات القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي. يقع المسجد بمدينة بلخ التي تُعد واحدة من المدن الثرية تاريخياً وثقافياً على مدار التاريخ الإسلامي لكونها جزءاً حيوياً من إقليم له ثقل سياسي وميراث فكري وتراثي ضخم، هو إقليم (خراسان) الذي ضم عدة مدن لها تاريخ كبير في التاريخ الإسلامي منها مدينة نيسابور، ومرو، وطوس، وهرات. وبلخ اليوم تقع ضمن حدود دولة أفغانستان وكانت المدينة عاصمة للولاية التي تحمل الاسم نفسه (ولاية بلخ)، إلى أن انتقلت العاصمة من بلخ إلى مزار شريف في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من بساطة تخطيط المسجد وزخارفه، إلا أنه يُعد حجر زاوية في دراسة العمارة الإسلامية المبكرة في بلدان شرق العالم الإسلامي، لما يحفظه هذا المسجد من إرث ثقافي محلي يتشابه إلى حد ما مع مسجد تاريخانه في دامغان حيث الأعمدة الضخمة المبنية بالآجر المتراص في طبقات تعلو بعضها البعض، ومع زخارف مسجد نائين ذات المسحة السامرائية.
ولم يقتصر الطراز المعماري لوسط آسيا وآسيا الوسطى على عمارة المساجد وتخطيطها فقط، فقد أبدع المعماريون وتميزوا في عمارة الأضرحة والمدارس والخانقاوات، وكذلك في تضمين العناصر المعمارية المميزة لتلك الأبنية، ومنها على سبيل المثال المآذن. فنقف عند نموذج مئذنة غزنة التي تعود لعهد السلطان مسعود الثالث في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، والتي جاءت أنموذجاً متفرداً ومبكراً لاستخدام الخط الكوفي الهندسي الذي انتشر فيما بعد في كافة أنحاء العالم الإسلامي وبلدان شمال أفريقيا وغربها. فمن غزنة وبحطات من الآجر المتراصة بشكل هندسي متفرد مشكلاً كلمات عربية هي السلطان الأعظم يمكننا الوقوف على هذه التقنية في تنفيذ الكتابات والزخارف التي انتقلت من الشرق إلى الشرق وإلى الغرب أيضاً.
من الشرق.. وإلى الشرق
فمع ظهور الأمير تيمور على مسرح الأحداث في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي وسيطرته على تلك البقعة الجغرافية الشاسعة الممثلة في بلاد الشام وفارس وأفغانستان وبلاد ما وراء النهر حيث استقر في مدينة سمرقند ونقل إليها إرث تلك المدن وفنونها وميراثها العلمي والفكري أيضاً، فأسس التيموريون مرصداً لدراسة علوم الفلك وحركة النجوم يضاهي مرصد مراغة، وانتقل الصناع والخزافون والمعماريون إلى سمرقند وشهر سبز وبخارى وخيوة وترمذ، حيث المشروعات المعمارية الجديدة التي كانت قيد البناء. فنجد توقيعات الصناع من تبريز وأصفهان وكاشان مازالت كبصمة شخصية لتفردهم الفني والمعماري مسجلة على عمائر سمرقند وبخارى، شاهدة على انتقال فنون تلك المدن إلى أقصى الشرق. وكان هذا النوع من التبادل والانتشار يأتي غالباً تحت سيطرة سلطة سياسية واحدة كما حدث في عهد الأمير تيمور -على سبيل المثال- الذي استطاع بسط نفوذه على تلك المدن جميعاً في وقت واحد وبالتالي كان من السهل انتقال طرز وفنون المدن من مدينة لأخرى، إلا أن انتقال تلك الطرز المعمارية والفنية من الشرق إلى الغرب كان أكثر تعقيداً وعبر معابر مختلفة.
بين الشرق والغرب.. جسور للتواصل والتبادل
لقد كانت الغلبة في القرون الأولى سواء في المساجد الجامعة أو مساجد القرى الصغيرة، تتبع نظام الصحن المكشوف والأروقة، إلا أن شيئاً فشيئاً تبنَّت بلاد فارس وآسيا الوسطى بشكل عام (الإيوان)، وأضحى وحدة أساسية ومميزة في تخطيطاتها المعمارية سواء في المساجد والمدارس والخانقاوات أو القصور. ففي القرنين الخامس والسادس الهجريين شيدت في إيران المساجد وفقاً لتخطيط الصحن والأواوين، سواء كان عدد هذه الأواوين، إيواناً واحداً فقط أو إيوانين أو أربعة أواوين. ويعد أشهر نماذج هذا التخطيط، مسجد الجمعة في أصفهان، وذلك عندما أُعيد بنائه في عهد السلاجقة على طراز الصحن والأواوين بعد أن كان وفقاً لتخطيط الصحن والأروقة، وكذلك المسجد الجامع في زوارة، والمسجد الجامع في أردستان وغيرهم. فتحول المسجد ذو الأواوين الأربعة ليصبح طرازاً معمارياً مميزاً للعمارة المشرقية بشكل عام.
ولم تنحصر تلك الطرز المعمارية المنتشرة في شرق العالم الإسلامي على البقاع التي نشأت فيها، فمثلها مثل العوامل الثقافية والحضارية تنتقل بانتقال الإنسان نفسه، فنجد كثيراً من المهندسين والحرفيين والصناع انتقلوا من مدينة لأخرى ومن بلد إلى آخر، حاملين معهم إرث بلادهم وثقافتها، فكانوا بمثابة معابر متنقلة لتلك الفنون، ونقلوها كذلك من الشرق إلى الغرب. انتقلت طرز الشرق وبعض خصائصه وسماته عائدة مرة أخرى ومن جديد إلى بلاد الرافدين والشام ومصر، فعلى سبيل المثال، تبنت مصر هذا الطراز الوافد القائم على الصحن والأواوين ووجدت فيه ميزات عدة تلائم طبيعتها الجغرافية وتلبي احتياجات مجتمعاتها. فظهرت المدارس المملوكية ذات الإيوانين والمساجد المبنية وفقاً لتخطيط الصحن الأوسط وتتعامد عليه الأواوين الأربعة مذكرة إيانا بمسجد الجامع في أصفهان وزوارة وأردستان بصفتهم النماذج المبكرة لهذا التخطيط المعماري.
وعلى الرغم من توتر العلاقات بين سلاطين فارس وسلاطين المماليك في مصر والشام في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي إلا أن هذا لم يمنع التبادل الفني والمعماري بين البلدين سواء في فترات السلم المؤقت أو حتى الصراع الدامي والحروب بين البلدين. فها هو معماري من تبريز يصل القاهرة في عام 730هـ ويذكره المقريزي في المواعظ والاعتبار في سياق حديثه عن بناء وعمارة جامع الأمير قوصون خارج باب زويله قائلاً: (كان قد حضر من بلاد توريز بناء فبنى مئذنتي هذا الجامع على مثال المئذنة التي عملها خواجه عليشاه وزير السلطان أبي سعيد في جامعه في بمدينه توريز). وهو الوقت نفسه الذي فر فيه أحد أمراء المماليك الأمير قراسنقر المنصوري فاراً من السلطان الناصر محمد ومستقراً في مدينة مراغة في أذربيجان الشرقية، وبنى فيها قبة ضريحية تحمل شاراته وألقابه الوظيفية والفخرية التي اتخذها من مجتمع المماليك ونظمه السياسية والعسكرية والتي لا شك تسقط بمجرد خروجه من دائرة هذا النظام السياسي وتفقد قيمتها. إلا أن قراسنقر حرص على تضمين ألقابه وإضافة رنك الجوكندار إلى قبته وسط مجتمع معماري وفني لا يرى في ذلك إلا موروثاً وافداً مع ذلك الأمير.
وخلاصة القول.. إن العمارة الإسلامية بشكل عام وعمارة المساجد بشكل خاص، كانت بوتقة تنصهر بداخلها النظم السياسية والاجتماعية والموروثات المحلية المختلفة فأنتجت طرزاً معمارية متنوعة تميزت بـ (الوحدة والتنوع)، وحدة الوظيفة والتخطيط أحياناً وتنوع العناصر والوحدات والزخارف. فصبغت كل منطقة تلك الروافد بصبغتها الخاصة وأنتجت ما يميزها بل ونقلته إلى بلدان أخرى.

ذو صلة