مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

تأصيل المفهوم في الحفاظ على الهوية الثقافية في الفنون والعمارة

إن المصطلحات هي منظومة قيم تحدد هوية المجتمعات، لذا لم تكتف الحضارة الغربية الحديثة بالهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على مجتمعاتنا، بل عملت على تصدير قيمها ومصطلحاتها وفرضها في كثير من الأحيان أبعد ما تكون عن التفاعل والتأثير المتبادل بين الثقافات، بل إنها تستهدف إجبار هذه المجتمعات على نسيان أو تغييب أو تزييف إدراكها لمعاني وقيم مصطلحات هي من صميم هويتها الثقافية، ولعل من هذه المواقف إشكاليات فهم وتحديد ماهية مصطلحات متواترة في حياتنا الثقافية حول ثنائيات ظاهرها حضاري براق وتحمل في باطنها تبعية ثقافية وتغريباً، وبالأحرى تغييباً للعقل العربي، ومنها الأصالة والمعاصرة. ولعلنا في أمس الحاجة إلى الخروج من هذا المأزق الحضاري وأن نقف لنعيد فهمنا لتلك المصطلحات من منطلق ثقافتنا وحضارتنا وزماننا بهدف الحفاظ على هويتنا الثقافية وانتمائنا الحضاري في كافة المجالات وبخاصة العمارة.
ارتبط ظهور مصطلح الأصالة بمستجدات ثقافية واجتماعية وتدليلاً على موقف محدد تجاهها أو تقويم لها، ومن الصعوبة أن نحدد نقطة تاريخية بعينها، وبرز مصطلح الأصالة كمفهوم في الثقافة العربية الحديثة بوصفه إشكالية خصوصية بالوجود العربي، ومن ثم بوصفه قيمة في حد ذاته، وهناك كثير من اللبس في التوافق حول المفاهيم، فالبعض يعتقد أن الأصالة تعني القوالب الجامدة لأبنية المجتمع سواء فكرياً أو مادياً ودون أن تمتد إليها يد التطوير تبديلاً أو تعديلاً، لأنها في الأصل في فهمهم تتسم بالثبات والجمود نشأت من بطن التاريخ وتوارثتها الأجيال، ومن ثم فهي تعد نقلاً جامداً.
تذكر معاجم اللغة العربية عدة معاني لمصطلح الأصالة وعلينا اكتشاف ما يجمع تلك المعاني ويتفرع منها وهو ما يضفي عليها صفة قيمية بالمعنى الاجتماعي والثقافي ومنها وفي مقدمتها الفنون والعمارة. معنى أصيل في اللغة: الراسخ الثابت، وأصل الشيء: أساسه الذي يقوم عليه، ومنشؤه الذي ينبت منه. ونحدد تعريف الأصالة في ثقافتنا العربية: الأصالة لغة أصالة مصدر أصل، والأصل: أسفل كل شيء، ومعنى أصل، أي المبدأ والقاعدة العامة، وجاء في المعجم الوسيط الأصالة في الرأي جودته وفي الأسلوب ابتكاره وفي النسب عراقته، ويقصد بالأصالة التجديد أو الانفراد بالأفكار، أو الابتداع وهو امتياز الشيء أو الشخص على غيره بصفات جديدة صادرة عنه، فالأصالة في الإنسان إبداعه، وعليه تشير الأصالة إلى القدرة على إنتاج أفكار أصيلة أي قليلة التكرار بالمفهوم الإحصائي، أي كلما قلت درجة شيوع الفكرة زادت أصالتها، ولذلك يوصف المبدع بأنه الذي يستطيع أن يبتعد عن المألوف أو الشائع من الأفكار. وجاء منها مصطلح تأصيل وتأصيل الشيء جعله ذا أصل ثابت أو تبيان أصله وأصالته.
وجاء تمثيل الله عز وجل في كتابه الكريم: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25) ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار (26) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (27)}(سورة إبراهيم). من هذا نستخلص أن الوصف بالأصالة صالح لكل زمان ومكان وليس وصفاً خاصاً بزمن نشأتها وعصر تأسيسها كما قد يتوهم كثيرون، ويقترب من لفظ الأصالة بل ويتطابق معها لفظ التراث، لكن لا تعني الأصالة العودة إلى القديم والفخر والاعتزاز بالموروث وكأن الماضي يحتوي على قيمة في ذاته، وكأن العودة إليه تكون غاية في ذاتها وليس وسيلة لتعميق الجذور واكتشاف معوقات الحاضر أو الدوافع على التقدم في المستقبل، ولا تعني الأصالة أيضاً التقوقع على الذات ورفض الغير والنفور من الغريب باعتباره دخيلاً تفقد الذات هويتها فيه، فالأصالة بهذا المعنى عزلة وفراغ وتجمد وتقلص ثم ضمور واضمحلال وفناء. فالذات لا تقوى إلا بالغير في صراعها معه أو تمثلها له، الذات قدرة على الخصوبة والنماء، وطاقة على الحركة والحياة.
أما المعاصرة في ثقافاتنا العربية: لغة على وزن مفاعلة من عاصر يعاصر، وفي المعجم الوسيط: عاصر فلان فلاناً، إذا عاش معه في عصر واحد ومن هذا يمكننا تعريف معاصرة الفعل في الاصطلاح بأنه يكافئ الفعل مع العصر الذي يعيش فيه بحيث يعالج واقعه ويلبي متطلباته، لا تعني فقط نقل أحدث وسائل العلم والتقنيات من مجتمع إلى مجتمع، فلا يمكن أن يُنقل نتاج العلوم والمعارف في مجتمعات تحركها الخرافة ولا تأخذ بالأسباب ولا تربط بين العلل والمعلولات، ولا تعني المعاصرة مجرد نقل مظاهر وصيحات حضارة العصر في أساليب الحياة في الفن والعمارة والتمتع بما قد تقدمه تلك الحضارة من وسائل رفاهية العيش، فتصبح المعاصرة بهذا المعنى مجرد مظهر خارجي لحضارة، ونقل لأسلوب حياة مجتمع الوفرة إلى مجتمع الندرة، مع إغفال المجتمع لما يعتز به من تراث حضاري. المعاصرة لا تعني أيضاً قطع الصلة بالماضي واقتلاع الجذور واعتبار الماضي أحد المعوقات عن المعاصرة، وعندها تتحول المعاصرة كأنها نوع من احتقار الذات والوقوع في التغريب.
والمعاصرة مجابهة مشكلات الحاضر الحادثة والدخول فيها ومواجهتها مواجهة مباشرة، فالمعاصرة تعني رؤية الحاضر والإحساس به، والنظر إلى ما تحت الأقدام. وتعني أن يعيش الإنسان أحداث الزمن، وأن يعرف روح العصر، وأن يرفض جميع أشكال الزيف لتغييب الوعي القومي وتعميته ودفعه نحو الغربة والاغتراب، كما تعني عدم إغفال أي من مكونات الحاضر أو ابتسار جزء منه وقبول مكوناته. فالتراث جزء من الحاضر يفعل فيه ويؤثر عليه من خلال سلوك أفراد المجتمع وإبداعيتهم ورؤيتهم الجمعية. وتعني المعاصرة البحث عن الحاضر الحادث في أساسه وليس في فروعه، والبحث عن الحلول الجذرية لقضاياه الأساسية وليس عن الحلول المؤقتة التي سرعان ما تتبدد وتبقى القضايا قائمة بعد أن ينقضي أثر الحل الوقتي. وبهذا المعنى لا تكون المعاصرة استسلاماً للأمور الحادثة، بل هي بحث في جذوره التاريخية وأبنيته الحاضرة ومتغيراته المستقبلية، بهذا المعنى لا تعني السير وفقاً لمنطق الأحداث تمشياً مع التيار السائد دونما تبصر وفهم واع للمعاصرة.
هكذا الأصالة البحث عن الجذور والتأسيس في الأعماق، وهو كان أحد مطالب الحكماء القدماء والمحدثين في تراثنا في حركات العودة إلى الأصول. فكل تغيير بلا أساس يكون حدثاً أهوج في التاريخ، لا يبقى ولا يستمر، قشرة خارجية سرعان ما تتكسر إذا ما تحركت الأعماق ونبتت الجذور. الأصالة بهذا المعنى شرط المعاصرة وسبب استمرارها والمحافظ عليها والضامن لها، وتعني التجانس في الزمان والتواصل في حياة المجتمعات، وأن يكون حاضرها استمراراً لماضيها، ومستقبلها استمراراً لحاضرها، فلا يقع الانفصام في شخصيتها ولا تحدث الازدواجية في ثقافتها بين أنصار الأصالة وأنصار المعاصرة، بين دعاة القديم ودعاة التجديد، فيحدث تعارض مصطنع بين الأصالة والمعاصرة، وكثيراً ما يتحول إلى تيارين متصارعين وينتهي الأمر إلى ضياع الوحدة الوطنية ممثلة أولاً في وحدة الثقافة ووحدة الرؤية ووحدة المنهج ووحدة الهدف والغاية. الأصالة لا تحمل جموداً بقدر اعتمادها بشكل أساسي على التطوير الذي يساير متطلبات العصر في اتساق ويتعايش مع أعراف وتقاليد الأجداد، ولهذا كانت المعاصرة نابعة من الأصالة، ومن هنا يتم تعريف المعاصرة بأنها لفظة تعني مواكبة العصر ومعايشته، والحداثة أو العصرية تعني عملية التغيير التي بمقتضاها تحصل المجتمعات على الصفات المشتركة التي تتميز بها المجتمعات المتقدمة. العصرية تطلق على المجتمع إذا اتصف بها، وتعني مجموعة الخصائص البنائية التي تميز المجتمع المتحضر عن المجتمع المتخلف. أما بالنسبة للفرد فإنها تعني مجموعة الاتجاهات والقيم وأساليب التفكير التي تتطلبها المشاركة الفعالة في المجتمع. المعاصرة لا تكون واقعاً فعلياً إلا بمواكبة العصر فكراً وعملاً وإبداعاً، فقد يكون المجتمع عصرياً في المظاهر المعيشية ومع ذلك يعد هذا المجتمع متخلفاً عن عصره وإن عاشه، فما أسهل اقتباس تلك المظاهر لمن استطاع إليها سبيلاً. والمعاصرة تختلف عن مجرد امتلاك وسائل المعرفة بفهم منقوص للتحديث، حقاً كل أمة في حاجة إلى التحديث ولا يتحقق لها مرادها إلا بإرادة قوية ونظام قادر وصالح لتعبئة هذه الإرادة وتوجيهها في طريق الحداثة والمعاصرة. الأمر بحاجة إلى أكثر من وقفة وجهد فردي، بل إلى جهد جمعي متوافق لاستنباط المصطلح العربي المتوائم مع المعطيات الإبداعية الحالية، بل وأيضاً يخولنا هذا المصطلح المغيب الدخول إلى العصر. إن من مظاهر المشكلة أو المأزق اليوم نمط من التفكير يدور في الغالب الأعم حول إمكانية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، والمخرج أن نقف ضد هذه النزعة التوفيقية في مقاربة تلك الثنائية منهجياً ومعرفياً وتاريخياً.
وإزاء هذا الاضطراب في الفكر والواقع، من الطبيعي أن يعيش الإنسان العربي والمعماري خاصة اليوم اغتراباً معرفياً وزمنياً إزاء تاريخ وتراث يراد بعثه دون استقراء وفهم، وفي ظروف مغايرة، إن عجز هذا الفهم الواعي عن الإجابة عن أسئلة الإنسان الراهنة وقضاياه الشائكة والمتداخلة، يؤكد على أنهم خارج المكان والزمان يعيشون حاضرهم في ماضيهم، أو مستقبلهم بحاضر غيرهم. نكرر ونؤكد أن الحداثة لا تعني رفض ماضينا وتاريخنا والتنكر له، بل هي تستلهم نسق الابتكار والإبداع في تراثنا الحافل بالمفكرين والفلاسفة الذين ساهموا في إنتاج الحلول لمشاكل عصرهم، لأن الحلول الأصيلة تستمد من واقع المجتمع الحادث والتغيرات والتطورات التي اختلفت عن مجتمعات الماضي. بالمحصلة الأصالة الحقيقية تكمن في قلب الحداثة فتراثنا يحيا فينا ولا نحيا نحن فيه، هكذا يسقط التضاد وتسقط الحاجة والمحاولات للتوفيق بين ثنائية، فالأصالة والمعاصرة تتجلى وتكتمل في مجتمع يعيش عصره وقيمه.
تضيع الأصالة في مجتمع لا يعرف كيف يعيش عصره إلا بمحاكاة ماضيه فيعيش مأساة تدهوره.
تغيب المعاصرة في مجتمع لا يعرف جذور ماضيه إلا بمحاكاة غيره فيعيش حالة تخلفه.
لولا الأصالة لما كان ثمة معاصرة.
ولولا المعاصرة لفقدت الأصالة معناها.

ذو صلة