مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

من مظاهر تأثير العمارة الإسلامية في أوروبا

العمارة، كما يقال، هي أم الفنون، لأنها تشمل فن البناء باعتماد النحت والرسم والخط والزخرفة، ونظراً للتفاعل الحضاري الحتمي، نلاحظ أن العمارة الإسلامية في بدايتها استلهمت الفن الهلنستي وهو تجسيد للحضارة التي كانت سائدة قبل الإسلام في غرب أوروبا وحتى في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث هيمنت الإمبراطورية الرومانية، وبعد ذلك تطورت العمارة الإسلامية واتخذت علامة خاصة تعكس جوهر العقل الإسلامي. (الرجوع إلى كتاب الفن والعمارة الإسلامية 1250-1800 لشيلا بلير وجونثان بلوم).
ومع مرور الوقت، تمكنت العمارة الإسلامية من أن تسد ثغرات الحضارات السابقة، وكان للأنماط المعمارية الجديدة تأثير كبير في العصور الوسطى. لقد فتنت الحضارة الإسلامية الحكام والفنانين الغربيين الذين تأثروا بفن العمارة والزخرفة. وهذا النوع من التبادل الفني ليس غريباً، فقد تواصل الشرق الإسلامي مع أوروبا في العصور الوسطى عن طريق الحضارة الإسلامية التي قامت في الأندلس وجزيرة صقلية، وكان لإشعاعها فضل كبير على أوروبا في مختلف جوانب الفن (انظر العمارة الإسلامية في الأندلس وتطورها لمؤلفه عبدالعزيز سالم)، وأيضاً عن طريق التجارة التي مكنت من عبور الحجاج المسيحيين إلى الأراضي المقدسة. ومن زاوية أخرى حصل تفاعل عبر الحروب الصليبية وعبر التواصل الأوروبي مع الدولة العثمانية. (انظر كتاب العمارة الإسلامية في أوروبا العثمانية لمحمد حمزة إسماعيل. المجلد الأول)
وداخل هياكل الفنون الغربية تجسدت العمارة الإسلامية في شتى الجوانب، إذ أخذ الغربيون بعض الأساليب المعمارية من العراق، وفي هذا الصدد نستحضر إرسال الإمبراطور تيوفيلوس مبعوثاً إلى بغداد لدراسة العمارة الإسلامية. وبحلول عام 835 ميلادي، تم بناء قصر بالقرب من بوابات كانستاتيبول على الطراز البغدادي، أضف إلى ذلك الحدائق التي كانت على الطراز الإسلامي.
وفي كنيسة سراكاستا التي بنيت في العصر المدجن (إبان وجود المسلمين الذين عملوا تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الأندلس وسموا بالمدجنين) في القرن السادس عشر، يمكننا أن نرى بوضوح آثار العمارة الإسلامية، وقد بنيت هذه الكنيسة من الطوب وفتحاتها معقودة كما أن برجها (صومعتها) يأخذ شكل مآذن مساجد الأندلس في شرق أفريقيا، وبخاصة مئذنة مسجد القيروان بتونس، وقد استعمل الطوب في زخرفة صومعة الكنيسة المذكورة. (انظر كتاب العمارة الإسلامية في الأندلس لعبدالعزيز سالم)
ويظل الطراز الإسلامي حاضراً بقوة في عدة مناطق من إسبانيا إلى اليوم خصوصاً في الجنوب. وقد أخذ المهندس المعماري غاودي عناصر فنية مختلفة واستعملها في أولى مبانيه خصوصاً في زخرفة الغرف الداخلية. (الرجوع إلى كتاب العمارة الإسلامية في الأندلس عمارة القصور المجلد الثالث باسيليو بابون مالدونادو)
وفي ضوء العمارة الإسلامية يمكن ملاحظة التأثير الإسلامي في الأقواس التي تربط قبة جبل سانت أنجيلو، وكذلك الشأن في قصر روفيللو الذي بني في القرن الحادي عشر الميلادي في مدينة رافيليو. (انظر تاريخ العمارة الإسلامية والفنون التطبيقية بالمغرب الأقصى لمؤلفه عثمان عثمان إسماعيل)
وفي جنوب إيطاليا تظهر بوضوح التأثيرات العربية، فأبراج الأجراس في إيطاليا خلال عصر النهضة، مأخوذة من طراز المآذن المغاربية.
وقد حافظ العصر الإسلامي على تأثيره المعماري في منطقة صقلية، خصوصاً في بعض القصور الصغيرة التي كانت تحتوي على غرف علوية صغيرة مرتبة حول ساحة مركزية مستوحاة من المعمار الإسلامي، ومن بين هذه القصور قصر مشهور جداً، وهو قصر العزيزية في بالي أومو.
وفي القلاع المعدة لإيواء الصقليين، يمكن أن نرى تأثير العمارة العربية في الشام من حيث التصميم والأقواس، وفتحات الأسهم كلها عربية إلى جانب الجدران ذات الشكل الشبكي.
ومن صقلية انتشر هذا النمط العربي من الحصون والقلاع. وقد جلب الملك فريدريك الثاني خلال حملته على القدس هذا الأسلوب إلى الدول الأوروبية. (الرجوع إلى كتاب الفن والعمارة الإسلامية)
ونجد في فرنسا نصباً يدل على التأثير الكبير للفن الإسلامي، خصوصاً المسجد الكبير في قرطبة، وهو مدخل كنيسة القديس ميشيل دي إيجوي في منطقة لوبوي. وتشير الزخارف المتعددة الألوان الموجودة على الجدران الخارجية، إلى ذلك النمط المعماري المنقول من جامع قرطبة الكبير. كما نلاحظ تأثير الفن الإسلامي على القباب الملونة لكنيسة لامادلين في فيسيلييه التي أعيد بناؤها عام 1120 ميلادي، وهي من المباني الجميلة المشيدة على هذا الطراز في فرنسا.
وتأسيساً على ذلك يمكن استحضار قول المختص المعماري الفرنسي باتيسييه عن التأثير العربي في العمارة الأوروبية: (لاشك أن المعماريين الفرنسيين أخذوا من الفن الشرقي العديد من العناصر والزخارف المهمة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين). (الرجوع إلى العمارة الإسلامية في الأندلس وتطورها).
وفي كاتدرائية بوين، وهي بناء مسيحي قديم، نجد باباً عليه كتابة عربية. وفي إربونا شيدت حصون على الطراز العربي كذلك. وفي بريطانيا يظهر مدخل يعود تاريخه إلى عام 1150 ميلادي في بلدة كينيلورث أن مهندسها المعين زار إسبانيا وقام بتصميم قوس على شكل مستطيل. ومن المؤكد أن أصل خزائن تيودوريك الإنجليزية إسلامي. وعموماً يبدو واضحاً أن الإنجليز استخدموا الزخارف الإسلامية في مبانيهم ومنشآتهم.
أما العمارة الروسية فقد استعارت بشكل كبير الفن الإسلامي. وقد تجلى ذلك بوضوح في كنائسها ذات القباب البيضاوية. ويظهر أخيراً أن الأقبية عربية الأصل، نظراً لأن العرب استخدموها في مسجد أحمد بن طولون بمصر قبل خمسة قرون على ظهورها في أوروبا. (انظر كتاب العمارة الإسلامية في مصر لعلياء عكاشة). ويقول بريس المتخصص في العمارة: (أخذ المسيحيون عن العرب الأبراج الرائعة التي استخدمها الغرب حتى نهاية القرن السادس عشر). ولعل الذين تتاح لهم فرصة زيارة الحمراء سيرون بالتأكيد القصور والبيوت على النمط العربي الإسلامي.
إن هذه الأمثلة الخالدة تشير إلى وجود فعلي لتراث معماري يدل على عبقرية مهندسين وفنانين عاشوا في كنف الدولة الإسلامية مشرقاً ومغرباً. وقد أسهمت هذه الدولة العتيدة إلى حد كبير، في تطوير أساليب العمارة والفنون العالمية باختراع نماذج رائعة يفتخر بها كل عربي ومسلم.

ذو صلة