مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

(الطويجن): بين الشعر والهندسة..

(أنا شاعر.. والعمارة شعر من الحجر والطين..).
نَصٌ مفتوح، صاحبه كان شاعراً في غرناطة الأندلس، ثم رائداً للعمارة الطينية في غرب أفريقيا بحيث أشرف وصمم مساجد (كاوا) والمسجد الكبير في تمبكتو وقصر سلطان مالي منسي موسى.

نقل خبرته في بناء الكلمة الشاعرة إلى بناء البيوت والقصور من الحجر والطين.
هناك بناء معنوي، وهنا بناء حسي..
الحس والذوق يتقابلان، بل يلتقيان..
هناك خبير بالشعر، وهنا خبير بالبنيان..
قال في مديحة له مدح بها الأمير أبا الحسن علي المريني ملك المغرب:
ها فانظري (لي) عن حنان مرة
أو فاجهزي بالله إن لم تنظري
فلقد تجهمني نوى ضاقت لها
عرض الفلا، وذرى الجياد الضمر
ورمت بناصيتي ركابي في مدى
ذعر الحسام له، وريع السمهري
جاريت آمالي.. فقصر دونها
جود المقل لها، وشحُّ المكثر
وقدحت زنداً للرجاء فلم يكن
لولا ندى كفي أبي حسن يري
مأوى الطريد وروض ملتف الندى
وموارد الصادي، وكنز المعسر
فإذا صدرت، صدرت غير محلأ
وإذا وردت وردت غير مكدر
من أسرةٍ زحفوا بعسكر تبع
وتقلّدوا بعزيمة الإسكندر
الشائمين الصبح من خلل الظبا
والنجم من طرف السنان الأزور
والمطعمين الأسد من أمثالها
أشلاء كل مجدل ومعفر
والخالعين على الزمان ملابساً
نظمت مفاخرهم كنظم الجوهر
ركبوا إلى الهيجاء كل طمرة
من نسل أعوج أو بنات الأبجر
تلك أبيات من نص طويل، ظهرت فيها فخامة العبارة، مع سلاسة وعذوبة وهذا لا يأتي إلا من شاعر متمكن، ولهذا، فقد اختاره (ابن الأحمر) ليكون ضمن كتابه النفيس (نثير فرائد الجمان..) وهو النّص الوحيد لهذا الشاعر الأندلسي في هذا الكتاب، على أن ابن الخطيب قبله قد أورد بيتاً واحداً من هذا النّص، وهو المطلع:
خطرت كمياد القنا المتأطر
ورنت بألحاظ الغزال الأعفر
ثم أتى له بنص في (النسيب) من مثل قوله:
زارت وفي كل لحظ طرف محترس
وحول كل كِناس كف مفترس
يشكو لها الجيد ما بالحلى من هدر
ويشتكي الزِّند ما بالقلب من خرس
متى تلا خدَّها الزاهي الضحى نطقت
سيوف ألحاظها من آية الحرس
في لحظها سحر فرعون ورقتها
آيات موسى وقلبي موضع القبس
تخفي النَّمومين من حلى ومبتسم
تحت الكتومين من شعر ومن غلس
وترسل اللحظ نحوي ثم تهزأ بي
تقول بعد نفوذ الزّمية احترس
أشكو إليها فؤاداً واجلاً أبداً
في النَّازعات وما تنفك من عبس
يا شقة النفس إن النفس قد تلِفت
إلا بقية رجع الصوت والنّفس
هذا فؤادي وجفني فيك قد جمعا
ضدَّين فاعتبري إن شئت واقتبسي
وهو نص طويل، وقد ختمه (ابن الخطيب) بقوله:
وإحسانه كثير، ومقداره كبير. وقد أورد صاحب النفح له نصاً في المدح، منه:
قفا مورداً عيناً جرت بعدكم دما
أناضي أسفارٍ طوينَ على ظمأ
غدون أهلّات تناقل أنجماً
ورحن حنيات تفوق أسهما
يجشمها الحادي الأمرين حُسَّراً
ويوطئها الحادي الأحرين هُيّما
على منسميها للشقائق منبتٌ
وفي فمويها للشقاشق مرتمى
ومنها:
فيا كفّه هل أنت أم غيثُ ديمةٍ
أسالت عُباباً في ثرى الجود عيلما
ويا سعيه يهنيك أجرٌ ثنى به
على معطفي علياه بُرداً مُسَهَّما
قضى بمنى أوطار نفس كريمة
وروّى صداها حين حلّ بزمزما
وناداه داعي الحق حيَّ على الهدى
فأسرج طوعاً في رضاه وألجما
فلله ما أهدى وأرشد واهتدى
ولله ما أعطى وأوفى وأنعما
وقد ختمه بقوله: وهو نص طويل.
إنه وعلى الرغم من جودة هذه الأبيات إلا أن صاحبها لم يُكشف عنه مثلما كُشف عن مجايليه في عصره، ربما لأن (ابن الخطيب) قد أخذ الصيت كله، وربما القلق الذي أصاب الأندلس في فترته، وربما لموقف بعض رجال الدين منه، ولذا فهو يعد في نظري من الشعراء المغمورين، حيث لم يأخذ حقه من البحث الجاد في شاعريته وعنها، خصوصاً لدى الباحثين في هذا العصر، أما في عصره وبعد وفاته، فقد قال عنه (ابن الخطيب) إنه نسيج وحده في الأدب نظماً ونثراً، لا يشق فيهما غباره، يجمع شعره بين الجزالة والرقة، على أن له مشاركات في (الفنون الأخرى). وقال عنه (ابن الأحمر) في نثير فرائد الجمان: إنه شاعر أطال في حوك الكلام، حامل العلوم، محسن الآداب ومطيبها.
وقال عنه صاحب النفح: إنه الإمام الفاضل الأديب العالم المشهور، الصالح المشكور، والشاعر المذكور.
أما عن شهرته في العمارة وبنائها، فكان قد قال عن نفسه:
(أنا شاعر، والعمارة هي شعر من الحجر والطين، ولهذا سأشعر وأردد يوماً ما سأشيّد لكم قصوراً ومساجد..)، وفي التعريف به في الموسوعة الحرة (ويكبيديا) إنه شاعر ودبلوماسي ومهندس معماري. كما نشرت عنه (مقالة) في مجلة (روز اليوسف 2022م) بقلم الدكتور إسماعيل حامد أنه رائد العمارة الطينية في غرب أفريقيا، ونشرت عنه مقالة علمية في مجلة جامعة الإمام بالرياض، وقد تحدثت عنه أنه المعماري الأندلسي الذي امتد أثره العمراني والأسري في السودان الغربي.
كما قيل عنه إنه الشاعر الفقيه والمهندس المعماري والمستشار الملكي أبو إسحاق إبراهيم الساحلي الأوسي الأنصاري الغرناطي الملقب (بابن الطويجن) الذي أشرف وصمم مساجد كاوا والمسجد الكبير في تمبكتو وقصر سلطان مالي. توفي نحو 747هـ يرحمه الله.

ذو صلة