مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

حي بن يقظان علـى الجسر

لو ارتحلتُ كما أرجو لما ازدحمت
فيَّ الموانئُ أثناء المغيب، لما
بنيتُ منفايَ من أشياءَ عادية
من كوخ أغنيةٍ مسقوفةٍ سعفاً
أو من مراكبَ لم تبحرْ لوجهتها
لعلني كلما تأتي الجهات على
روائح الصيف إذ تلقي خرائطها
أفضُّ ختم الدروب البكر وهي على
حدِّ السفوح التي فَكّت جدائلَها
ولستُ أدري لعلّ الرحلة ابتدأت
حقاً ولم أنتبهْ إلا مصادفةً
مضيتُ متجهاً من دون بوصلة
أمشي على الجسر لا ريثٌ ولا عجلٌ
لطالما سرتُ وحدي غير مكترثٍ
بأي شيءٍ سوى الإيقاع متجهاً
إلى سواحل لم تولدْ شواطئها
تأتي وتذهب بي أشباحُ أبخرةٍ
تطيل في لحظةٍ حبل التأمُّل في
شكل المدى، سيفُهُ محدودبٌ نقشت
شمسُ الغروب على أمواج فضَّته
ألقابَ من عبروا ليلاً ولم يصلوا
والجسر ملتبسٌ ليست معالمه
إذا وقفتَ به أو سرتَ واضحةً
لعله معنويٌّ لا وجود له
كأنَّه الجسر ما بين المجاز وما
بين العبارة في (جسر الإغاثة) من
أرضٍ تقطِّعها مزْنٌ مبقَّعة
إلى قفارٍ بلا أسماء تحرسها
فإنْ يكنْ واقعاً فالمعنويُّ يرى
في الشكل واللون بالماديّ ملتبسا
فلا وجود لأضلاع السحابة في
جوف المدى، كلها وهميةٌ، مثلا
والوقت كالقشِّ تثنيه استعارته
فينتهي دائرياً دونما عملٍ
محدد واضح في تُرْس آلته

أمضي وأسأل: هل للجسر من لقب
أو كنية كأبي أيوب؟ قد بركت
أعضاؤه وانحنت والريح صارخةً
تعضُّ بالشوك وركيه وتُنشب في
سنامه كالعُرى أظفارَها وإذا
أعودُ أسألُ هل للجسر ذاكرةٌ
تلقي هويتَه في بئر وحشته؟
نظرتُ لم ألقَ إلا الصمت منتظرا
يهزُّ عُصْعصه. ماذا أقول إذن؟
فربما الجسر بين اثنين وحدهما
كلاً على حدةٍ يحكي حكايته:
تلان بينهما وادٍ يلاحقه
سيلٌ فيدفعه دفعاً لهاويةٍ
أو فكرةٌ شطرتْ نصفين والتحمت
كحذوةٍ لا تُرى مما يحيط بها
من الضباب كثيفاً ظلَّ يحرسها
أو ربما اللفظ والمعنى فبينهما
مساحةٌ حرةٌ لنسيء الفهم واسعةً
تفتحتْ لاختلاف الرأي يرفعها
سقفُ البلاغة من قاع السياق، جرى
بها اختبارُ النوايا في جداولها

لكنَّما الجسر لا يفضي لنافذة
تطلُّ منها على بطحاء معرفةٍ
ولا فوانيسَ في كفِّ الفهارس كي
تضيء ليلاً لنا قبواً، كنايتُه
تعرَّقتْ في كفوف السرْد نافرةً
أو مورداً واحداً تسقي به إبلاً
من الشمال على أطراف باديةٍ
لو أنَّه الجسر أو ما كنتُ أحسبه
رأيتُ فيه ابن منظورٍ بمعجمه
يدقُّ بيتاً من الشعر القديم على
إيقاع مفردةٍ في القرب خائفةٍ
أو كنتَ تسمع بوق المفردات وقد
تكدَّست شعراء ينفخون بها
روحاً جديداً من الرسم المعتَّق قد
تشكَّلت من بعيدٍ كل مفردة
قديمةٍ كبيوت الطين نائمة
تحت النخيل على تلٍ ليسكنها
مستشرقٌ في اللسانيات ليس له
في كلّ ما يتبقى من هواجسه
شيئاً سوى الواقع المسعور ينكسهُ
مثل الذبيحةِ من رجليه ثم إذا
ما شاء يسأل: صفْ لي كلَّ منحدرٍ
في هامة التلِّ لا تدري نهايته

وربما الجسر ماديّ وواقعه
في آخر الأمر يبدو من وظيفته
سهلاً، أقل غموضاً، لا يشير إلى
شيء وليس له سرٌّ نفككه
تفوح رائحةُ الماء المملَّح من
حديده الصلب إذ يعلو ومن صدأ
تفوح رائحةُ الموت المؤجَّل من
إبطيه، لم ألتفتْ للواقعية في
حلمٍ يسير على جسرٍ يركِّبه
مهاجرون من الماضي، خرافتهم
تدقُّ أحلامَهم في عظمِ هيكله
بكلِّ مطرقةٍ تهوي بداخلهم،
فقد يكون سؤالُ الحلم أصدق من
فرط الهشاشة في ماضٍ حقيقته
تظلُّ عشبيةً مملوءةً إبراً
والزعفرانُ يرى بين الشقوق كما
لو أنّه انفكَّ من شمسٍ مخبأةٍ
وكلما قلتُ: ما الحلم؟ التقيتُ بلا
قصدٍ بعابرة قالتْ يلاحقني
هذا السؤال كجروٍ فالحقيقة قد
تمضي بلا وجهةٍ تخفي هويتها
تصوَّفتْ في عروق الجدب واتخذت
هدى الطريق الذي اندكَّت معالمه
فلا تسلني سؤالاً لا جواب له
ودعكَ منه ولا تَتْبَعْ سوى الرائحةْ

ذو صلة