مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

سمسار الخلاص

شعور غريب خالجني لحظة دخولي إلى غرفتها. كانت مرتبة جيداً بستائر مفتوحة ورائحة عطر صباحي يكاد لا يشم. قلت لنفسي: لابد أن تكون سيدة في عقدها الرابع، توقفت عن انتظار رجل يشبه والدها وقررت وأن تمنح نفسها إجازة أخيرة من كل شيء إلا من البحر والرمل والسماء.
جُلْت في غرفتها طويلاً متفحصاً كل شيء ومحاولاً أن أتخيل كيف قضت ليلتها الفائتة. طرف واحد مستعمل من السرير بقدر ما يدل على وحدتها، يوحي بأنها تأخذ من حياتها قدر حاجتها فقط. تملُك الأشياء لهذا النوع من السيدات لا يستدعي استعماله بالضرورة كما لا يستدعي أيضاً مشاركته مع الآخرين. يتركونه مساحات غير مستغلة يشعرهن بالأمان والوفرة.
غمرت رأسي في مخدتها وبنفس عميق أخذ أنفي يبحث في رائحتها عما يسفر عن كنهها. كان واضحاً لدي أن لها رقبة طويلة وشعراً قصيراً وأنها تنام على جنبها حاضنة مخدة أخرى. فرائحة الرقبة عادة ما تكون أشد درجة أو درجتين من رائحة الوجه. أما الشعر فغالباً ما تكون رائحته مختلفة عن بقية الجسد.
- هممم، وخبير بروائح النساء أيضاً!
لأجساد النساء - يا سيادة المحقق - روائح أساسية لا تخطئها أنف رجل. بعضهن يأتين برائحة زهر الفاكهة تحرك لديك الشهية والنهم، وبعضهن يأتين برائحة قلب الخس تشعرك بالارتواء، بعضهن يأتين برائحة الخبز المعجون بالحليب والسكر، أما هذه فرائحتها كرائحة المطر على حشائش الأودية. رائحة تحرض على أخذ نفس طويل. تجعلك من طزاجة رائحتها، تتحسس مفارش السرير بحثاً عن أثر للمطر.
لم يكن هناك شواهد كثيرة لوجودها في هذه الغرفة أكثر من حذاء أنيق بمقاس حوافر ظبية رشيقة لا تعاف الأرض خفيف خطوها وفستانين فضفاضين بألوان نهارية تعلن بها قطيعتها الناعمة لليل والسهر.
فتشت طويلاً عن أثر للسجائر والشراب، عن أثر لابتذال الأجساد وإشعال الرغبات، عن أثر للكآبة ورغبة الموت، عن خبيئة نتنة تستدعي الخلاص، عن رواية قاتمة كتلك التي يصحبها الذئاب المنفردة والوحوش الجريحة، روايات ودواوين شعر يسيل حبرها على الطاولات عفناً وحقداً ويأساً، عن رسالة انتحار غير مكتملة تعاقب فيها الرحم الذي أتى بها والصلب الذي دفعها للوجود دفعاً غير آبه.
لقد فتشت يا سيادة المحقق غرفاً بعدد سنين عمري ولم أخطئ مرة في قراءة زبوني الذي يريد الخلاص من هذه الحياة بطريقة مسرحية تطبع ذاكرة أهله وأحبائه وأعدائه برسالة لا تنسى وكوابيس لا تغيب.
لعلك لا تنسى قضية انتحار العمدة شنقاً من عليّة البنك على ناصية الطريق المؤدي إلى شاطئ السمّاكين في ثياب تفوح منها رائحة السمك الفاسد. لقد كان أمامكم يمارس قمع الصيادين الفقراء ويشاركهم لقمة عيشهم وسرر نسائهم. عاش ثلاثة عقود من العربدة والظلم والجبروت تحت جناحكم ومباركتكم. من كان يصدق أنه كان ثمرة فاسدة لاغتصاب صبية مشردة من حي الدراويش في القرية المجاورة. لم ينجه جبروته وماله وجاهه من قلب مكسور يعصف به كلما أغلق باب وحدة على نفسه أو لمح طفلة مشردة في زقاق السماكين.
كنت أراقب غرفته ليلة بعد أخرى يخرج منها فتيات وصبية، لم يكتف العالم ببؤس تشريدهم حتى يجعلهم سلعة لمتعة نزق ودّ لو أن القدر قاصر مشردة يغتصبها على ناصية في وضح النهار. كانت غرفته تفوح بالرذيلة والفوضى ورخيص الشراب الذي اعتاد عليه رغم ثرائه. يكيفك عقاباً أن تنظف غرفته في صبيحة اليوم التالي.
وعندما فتحت خزنته - كما هو معروف لدى زبائني - وجدت رسالته التي لا تكاد تقرأ من رداءة خطه وإملائه. كانت تقطر باللعن والشتيمة لوالديه والبحر وجادة الدراويش. لعن الصيادين والسماكين والمشردين. ود لو قتلهم واحداً واحداً وتبول على جثثهم. لقد طلب ميتة تزرع الشؤم على شاطئ السماكين وتقض منام الصبية المشردين في الشوارع.
- وقد نلت أنت شرف سمسرة الخلاص هذا.
- لي - يا سيادة المحقق - أن أرتب المسرح فحسب، ولهم أن يقوموا بدور البطولة.
- لا شيء أبشع من فلسفة حقيرة لضمير عفن. ما الذي يجعلهم يلجؤون إلى شخص نكرة مثلك؟
- كما قلتَ تماماً، لأنني نكرة. أما هم فأستطيع أن أضعهم لك في خمسة أصناف، ظالم لم يهتد إلى العدل يوماً، ومظلوم لم ينسه الدهر قهر الرجال، ويائس لم تُنر له جادّة، ووحيد عصف بروحه صمت المكان، ومحب لم يرفق به نوم. أما الأخير فهو أنا يا سيدي.
- كل ذلك بسبب رائحتها؟
- وغرفتها أيضاً. كانت غرفتها تسرقني مني. كلما دخلتها توقف الزمن واستيقظت الحياة في داخلي كما يستيقظ الربيع في المرج، وهبت النسائم من خلالي كما لو كنت طيفاً أو ستارة معلقة. لقد أعادتني طفلاً يجيد أحلام اليقظة ويجرؤ على الضحك دون سبب.
- وهل كانت مظلومة أم؟
- بل وحيدة يا سيدي. والوحيدون هم أعقد زبائني على الإطلاق. فالظالم والمظلوم يعاقبون العالم في أنفسهم وأجسادهم. أما الوحيدون فإنهم الأجدر على فهم ذواتهم والأقدر على استنطاق ذوات الآخرين.
أراهن أنك تتذكر جيداً الراعية التي أحرقت نفسها وقد ربطت ثدييها بجرار اللبن صبيحة سوق المزارعين في الوادي المجاور. أخذوا منها طفليها عنوة ولم تذر باباً دون أن تسقه دمعاً ولا نافذة دون أن تملأها شكوى. إنه القهر الذي لم يُبق لوجودها سبباً ولا لحظتها ذاكرة.
وعندما قرأتُ رسالتها في الخزنة علمت أن أحداً آخر كتبها لها. وأكاد أجزم أنه يائس طلب خدماتي مرة ثم اختفى. هكذا هم اليائسون كثيرو التردد دائماً.
كتب عنها قائلاً: (راعية أُمية قبلت بالحمل والرضاع مقابل أجر دون أن تعي أن مخلوقات صغيرة واسعة العينين ستخرج من خلالها تخطف ما تبقى لها من حياة وأرب. لقد حاولتُ مساعدتها دون جدوى. إنني أتألم كل يوم. لقد دفعتُ أجرة ليلتين فقط. أرجو أن تكون أسرع هذه المرة وهي أمامك الآن بثديين ينبجسان لبناً وقلب ينفطر دماً).
- ألم تتردد هي في إشعال النار في جسدها؟
- بتاتاً يا سيدي، كما لو كانت قد تمرست حرق نفسها كل يوم. يبدو أن القهر يا سيدي نارٌ لا ترى، والمقهورون شعل لا ترمد.
- واليائس الذي كتب رسالتها إليك؟ هل عرفته؟
- لست متأكداً، كم تمنيت أن يكون أول من يصغي إلى توبتي. لقد كان نبيلاً حتى في يأسه. لقد طلب خلاصاً مختلفاً. أراد أن يموت خلسة من الناس فلا يُعرف له قبر.
- وما الذي يجعل يائساً مثله ينبري لمساعدة مسكينة ويتردد في طلب خلاص نفسه؟
- لا أعلم حقاً. كل ما أعرفه أن اليائسين لديهم كل شيء إلا الأمل والفرصة ربما.
هل عرفته أنت يا سيدي؟
أشعل المحقق سيجارة أخرى وأخذ منها نفساً عميقاً ثم أطلق دخانها إلى السقف في هدوء غامر.
- أنا كما ترى محقق جنايات، والجرائم التي تحدثني عنها هي خبزي الذي أطعمه ومائي الذي أشربه. الفرق بيني وبينك أننا نطرق الواقعة من طرفين متقابلين كما لو كان أحدنا غد للآخر.
قل لي، ما الذي جعل سيدتك هذه مختلفة عن غيرها؟
- اسمها ورسالتها يا سيدي.
- أكمل.
- كعادتي مستخدما الأرقام التي تقابل أول أربعة أحرف من اسم النزيل أفتح الخزنة لأجد رسالة فقط هكذا ينتفي الشك وأتأكد أن هذا النزيل طالب للخلاص من حياة أعدل ما يقال عنها إنها فقدت لونها ورائحتها. وبما أنني لا أتقاضى أجراً فإنني أقرأ الرسالة جيداً لأختار زبائني بعناية فائقة. ولأنني انتقائي جداً يوشك الناس أن يعتبرونني خرافة غير موجودة.
لقد جمع اسمها حروفاً فريدة كفردية أرقامه التي أحبها. لقد أصابني الرقم بالفأل صدفة.
- كيف ذلك؟
- تكرار الرقم واحد يدل على القدَر المنتظر، والرقم ثلاثة لطالما رمز إلى الاتزان، أما الرقم سبعة فدلالة الوفرة والسرمدية. وفي مجموعها تدل على حركة الكون المنضبطة واتساعه. ألم أقل لك يا سيدي إنه أصابني بالفأل صدفة.
- وهل هناك من أرقام مميزة أخرى أصابتك بدهشة كهذه؟
- كهذه؟ لا. لكن رقم الرجل اليائس والذي أكاد أجزم أنه من كتب رسالة الراعية المسكينة كان غريباً. لقد أوحى إلي مباشرة بأنه رقم مستعار لرجل يعرفني تماماً ولم أكن أعرفه حينها مثلك تماماً يا سيادة المحقق.
- هممم، وماذا وجدت عندما فتحت خزنة الفأل تلك؟
- لم أجد ورقة، بل منديل قماش مطرز. تفضل:
- (يا صاحب القصد النبيل والفعل البشع، لم أجد نبلاً يدفعني لغد أرقبه ولا بشاعة أكثر من صمت أموت فيه كل يوم. لن يخلصك الاختباء طويلاً. إذا نويت التوبة فلأكن آخر لوحاتك الباذخة).
- لابد أن روحها كانت تعرفني جيداً. لقد كانت ترش عطرها في الأماكن التي تعرف جيداً أنني أتفحصها كل يوم. لم أسترق النظر إلى نزيل ولم أشتر في حياتي ورداً ولا علب حلوى قبلها. كنت أزين غرفتها كل مرة تخرج فيها. أملؤها ورداً وقطع حلوى وبعض حبات من الخوخ.
- خوخ؟
- ولم لا يا سيدي؟ إن له قلب رجل وبضاضة أنثى ورداء مخملياً تفوح منه في الصيف رائحة قُبَل الربيع، لقد كان تماماً في موسمه يا سيادة المحقق.
لقد كانت تأخذ قضمتين أو ثلاث وتغطي الخوخ بمنديل قماش قبل أن تغادر غرفتها.
- وكنت آتي أُقبِّل موضع قضمها ثم أكملها وأترك قلب الفاكهة كرجل عار قد ضم ركبتيه إلى صدره وسط ساحة منديلها. وعندما أعود إلى البيت كنت أنام تماماً كبذر الخوخ.
لم أجرؤ مرة أن أكتب لها رداً حتى اختفت دون أثر.
ورحت أتفحص وجوه النساء في كل القرى المجاورة والبعيدة. لقد تركتني كشارد ضال قليل الحيلة عاثر الحظ.
أغلقتُ داري على نفسي أشهراً أفكر في خلاص يشبهني. يكفيني إن سمعت بي أن تصلي علي. خلاصٌ يليق بنبل مقصدي وبشاعة فعلي ويليق بجبني الذي منعني أن أكتب رداً أو أن ألقي عليها سلاماً عابراً.
فكرت أن أتدحرج من فوق الجبل في كيس مملوء شوكاً يطبع بالدم كل صخرة يرتطم بها بعدد زبائني، أو أن أضرم النار في جسدي ممسكاً ركبتي إلى صدري كبذر الخوخ في ذات غرفتها التي لطالما أضرمت الوجد في قلبي، أو أن أقفز من قارب بِعِرقٍ مسفوحٍ فينهشني القرش أمام كل الصيادين.
كل الأفكار التي نسجتها لزبائني كانت حاضرة في وحدتي حتى تلك الأقل شناعة كعيار ناري في رأسي مثلاً.
وكل فكرة تمر بخاطري كنت أراها أقل شجاعة ونبلاً من أن أرسلها إليها.
بالأمس فقط يا سيادة المحقق تلقيت صفعة من الرقم سبعة على قميص طفل صغير يلعب الكرة في الطرقة أمام شباكي الوحيد. كان يسعى فرحاً واثقاً أنه سينتزع الكرة مرة أخرى. أحسست أنه مُرسل منها. وبعد نهار طويل التأمل لم أجد خلاصاً أكثر شجاعة من التوبة ومجابهة الحياة ثانية.
فها أنا ذا يا سيادة المحقق بين يديك أعترف وأقرُّ بكل ما فعلت علّني آخذ جزاء يطهر روحي أو يمنحها حياة دون سر أخاف كشفه أو حب أخشى علانيته.
أطرق المحقق طويلاً قبل أن يأخذ بيدي إلى خارج المخفر قائلاً: (لقد نلت ما طلبت، لقد أتلفتُ أوراق قضيتك كاملة. عِدْني ألا ترجع وأعدك ألا تراني ثانية).
خطوتان أو ثلاث ثم دوى صوت عيار ناري من مكتب سيادة المحقق.

ذو صلة