مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

القاصة شريفة التوبي.. وحكايات من لم تذكرهم كتب التاريخ العماني

بينما تعمل الكاتبة والقاصة شريفة التوبي حالياً على كتابة الجزء الثالث من ثلاثيتها الروائية (البيرق)؛ أطلعتنا على ما تضمنه الجزءان الأول والثاني منها، حيث تناولت حكايات من لم تذكرهم كتب التاريخ العماني، فهي لم تكن معنيّة بالتاريخ السياسي في سرد تلك الحكايا، بقدر ما كانت بحاجة إلى تسليط الضوء على زاوية معتمة أخرى، ألا وهو التاريخ الاجتماعي، ذلك الجانب الخفي في تلك الفترة الزمنية الصعبة من تاريخ هذا البلد العظيم. وأخبرتنا برأيها فيما يخص النزعة التمردية التي انتشرت مؤخّراً روائياً وأدبياً، حيث تعتبر الأدب حالة من حالات الرفض على السائد والمألوف، ورغم أنها قاصة في الأساس، إلا أنها بعدما بدأت كتابة الرواية أصبح من الصعب عليها العودة إلى كتابة القصة القصيرة، وفي حوار خصت به المجلة العربية تحدثت الراوية شريفة التوبي عن روايتها (سجين الزرقة)، التي تناولت فيها قضية حساسة بالنسبة للمجتمع العماني، وهي قضية مجهولي النسب. وفي مجموعتها القصصية (عين السواد) كتبت عن الحارات والأماكن التي لفتت انتباهها.
استلهمت التوبي مشروع روايتها (سجين الزرقة)، بمشاهدتها طفلاً مجهول الأبوين في دار الأيتام يتأرجح على أرجوحة، فتأثّرت بمنظره، وتخيّلت حياته بعد أن يخرج من دار الأيتام، فكان خيالاً باهتاً، وتساءلت كيف سيستقبله المجتمع وكيف سيتعامل معه؟ وبينما كانت تتوارد الأسئلة والأفكار وتلحّ عليها للكتابة عن هذه الفئة، خطرت ببالها فكرة الأم كشخصية موازية لشخصية راشد بطل الرواية، فخرجت في نهاية المطاف الرواية بالشكل الذي رآه القارئ. وتعترف التوبي بأنها حينما كتبت رواية (سجين الزُرقة): (راشد كان يقودني وأنا أكتب، كنت أسمع صوته وكأنه يخبرني حكايته، وكنت أعلم أنني أغامر حين أكتب، ولكنني لا بد أن أكتب ما كتبت).
ترى التوبي أن السبب الكامن وراء كتابتها للرواية هو الشعور الذي قد يسبق الفكرة، كما قد يسبق الإيمان بالفكرة الكتابة عنها، بل إن ذلك الإيمان هو ما يلحّ على الكاتب ليحوّل تلك الفكرة إلى عمل أدبي، شعراً كان أم نثراً، تقول التوبي: (يعتقد البعض أن الكاتب حين يكتب فهو يكتب بناء على تجربة عاشها، وتلك مغالطة البعيد عن الأدب، أو غير المدرك لماهية الكتابة الأدبية، لأن أي نص أدبي وإن انبثق من واقع تجربة أو ملاحظة لا يمكن أن يكون نصاً أدبياً ناجحاً ما لم يكن العمل من وحي الخيال، فعالم الأدب هو عالم متخيّل، تدور أحداثه وحبكته في مخيّلة الكاتب فقط، حتى الشخوص هم من خلق الكاتب، هو من يشكّلهم، ويرسم شخصياتهم وعوالمهم). لدى التوبي قناعة راسخة بأنه لا يمكن للكاتب أن يكون بعيداً كل البعد عن نصّه، لأنه ينفخ فيه من روحه، يشكّله بمشاعره وقناعاته، ولكن ذلك لا يعني أن يكتب نفسه، بل إنه يكتب الحكاية كما تراها عين المبدع، ليخلق عملاً أدبياً إبداعياً، وهذا العمل له شروطه وقواعده.
قضية شائكة
تتناول رواية (سجين الزرقة) قضية اجتماعية شائكة وحساسة، وهي قضية مجهولي النسب، تقول التوبي عن مشاعرها وهي تقترب من هذه الفكرة: (إن الفكرة كانت بحد ذاتها مخيفة، فالاقتراب من سياج هذه الفكرة مرعب، ولكنها كانت مغامرة، وكان عليّ خوضها، وغماراً وجب عليّ اقتحامه، سمحت لخوفي بالرحيل لأكتب هذه الرواية). تعتبر أيضاً أن كل عمل أدبي تكتبه يمثل رسالة، وعليها أن تكون أول المؤمنين بها، لا سيما وأن الكاتب حيث يؤمن فإن القارئ أيضاً، ولعل من أسباب نجاح تلك الرواية إيمانها ككاتبة بالقضية التي تناولتها، قضية مجهولي النسب وما ارتبط بها من قضايا النساء، باعتبار أن المرأة هي المسؤول الأول عن ذلك في عرف المجتمع وقوانينه، وكأن الرجل لم يكن له دور، ولم يكن سبباً لتلك البذرة المحرمة.
تقول التوبي إنها أثناء الكتابة لم تفكر بالمجتمع أو القارئ أو الناقد وردة فعل أي واحد منهم، بل إنها كانت تكتب فقط، كانت الأحداث والمشاهد تتدفق على مخيلتها بلا قيد أو شرط، وأيضاً بلا خوف، تقول إنها كتبتها بمتعة وألم، وحينما تشكّلت أمامها كعمل أدبي مكتمل، شعرت حينها كأنها خرجت بكائن محرّم، تصف تلك اللحظة قائلةً: (كنت أشعر كأنني أحمل بين يدي ذنباً أو بذرة محرمة، فكيف بي أواجه قومي بما أحمل من عارٍ ولو كان كلمة، وكيف أقدّمه لهم، كان يقلقني الرفض، الانتقاد، الاستنكار، إذ كيف بي تجاوزت الخطوط الحمراء، وكيف بي كشفت الستار عن المستور، ونبشت المغيب؟ كنت مترددة وما توقعّت أن يتقبّل القارئ بل المجتمع بكل أطيافه هذه الرواية قبولاً حسناً)، لكن المجتمع تقبّلها وقرأها، وفازت الرواية بجائزة الإبداع الثقافي في سلطنة عمان في عام 2021م، واستطاعت التوبي قبل ذلك وبعده أن تُوصل صوت راشد وصوت شمسة إلى الجميع، ربما لم تُحل المشكلة، ولكن يكفي مؤلفة الرواية فخراً أنها ساهمت في إيصال صوت راشد ومن مثله.
بين الواقع والخيال
تمزج التوبي ببراعة بين الواقع والخيال، وقد كان هذا واضحاً في ثلاثيتها الأخيرة التي حملت عنوان (البيرق)، والتي رصدت فيها تحولات المجتمع العماني في خمسينات القرن المنصرم من خلال جزئها الأول (حارة الوادي)، وقد ذكرت ملاحظة في الصفحة الأولى من الرواية توضح فيها أن الرواية تستند إلى وقائع تاريخية، ولكن كل ما ورد فيها من خيال المؤلفة، تبرر ذلك بأنها كانت بحاجة لأن تكتب عن تلك الفترة الزمنية من تاريخ عمان في الخمسينات والستينات، ولكن برؤية كاتب أو بخيال روائي، فما كُتب في كتب التاريخ لا يشبه ما كتبته هي في الرواية، رغم أنها بحثت وقرأت وسألت، ولكنها في النهاية كتبت ما تخيّلته، وما أرادت كتابته، فهناك عوالم وحيوات لا يعرفها القارئ، خصوصاً في تلك المرحلة بظروفها الصعبة في المجتمع العماني، كما أجابت عن عدة أسئلة من خلال السرد: ماذا فعلت المرأة في تلك الفترة؟ وماذا فعل الرجل، الطفل، البيدار؟ كيف واجهوا الأزمة؟ وكيف عاشوا تلك الحقبة بما فيها من عذابات وألم وجوع وغربة؟ وكان من اللافت أن دور المرأة واضحاً في الرواية بجزءيها الأول والثاني، وما كانت المرأة أقل شأناً عن الرجل وعلى كافة المستويات.
بين محكي ومسكوتٍ عنه
تحتشد الحارات العمانية بالكثير والكثير مما هو محكي ومسكوت عنه، وقد نجحت التوبي في مجموعتها القصصية التي تحمل عنوان (عين السواد)، وهو اسم إحدى الحارات العمانية في الأساس؛ استعادة وتدوين ما أطلقت عليه (ذاكرة الأماكن)، لا سيما وأنها ترى أن (للأماكن ذاكرة أوفى من ذاكرة الإنسان، وإن نسي الإنسان فالمكان لا ينسى أبداً، سيتذكّرك المكان بمن كانوا فيه وبمن عبروا إليه، فالأماكن تحكي حكاياتها لكل من اقترب منها، وأراد أن يعرف أو يسمع، فما أن تقترب وتلمس جدران البيوت القديمة التي تئن تحت سطوة الزمن حتى تستطيع سماع أنينها، وما أن تزور مرابع الآباء والأجداد، وتسير في دروب الحارات القديمة، وتدخل إلى المزارع، وتسير تحت النخيل، وتتأمل الجبل، والوادي، الفرضة، الفلج، حتى يبدأ كل منهم يحكي لك آلاف الحكايات، فما بالك بكاتب يزور المكان ويستنطق الحجر ليخرج منه بحكاية؟).
في هذه المجموعة خمسة عشر نصاً قصصياً، ثمانية نصوص منها تدور أحداثها في حارة العين وحارة السواد، وهما حارتان أثريتان في قرية إمطي بولاية إزكي، والتي هي بلدها الأم التي خرجت منها باكراً، ولم تحظ بالعيش فيها، ولكنها بالرغم من ذلك اعتمدت على ذاكرة جدها وجدتها، فأضفت إلى ذلك الجمال شيئاً مما تخيّلته، وقد جاء العنوان مدمجاً وكأنه مكان واحد (عين السواد)، لأنهما بالنسبة للتوبي مكان واحد، فهذه المنطقة بالذات شهدت أحداثاً كثيرة تستحق الكتابة عنها أدباً أو تاريخاً، ومن يقرأ لشريفة التوبي سيلاحظ مدى شغفها بالمكان والتاريخ، وسيكتشف أنها ما زلت شغوفة بالتراث العماني الاجتماعي على وجه الخصوص، حيث تغريها البيوت القديمة، ويغريها الفضول لمعرفة ما كان يدور داخلها، وأي حياة كانت خلف تلك الجدران الطينية، ربما لأن روحها متعلّقة بالمكان، ولأنها تشعر بالانتماء إلى ذلك المكان أكثر من أي مكان آخر، لذلك أتت أغلب أحداث حكايات هذه المجموعة تدور في حارة العين والسواد.
عودة صعبة
رغم أنها تقول إن (صغر حجم القصة، يزيد أهمية كل كلمة فيها)، إلا أنها لا تكتب القصة القصيرة جداً (ق. ق. ج)، وتعلل ذلك بأنها بعدما بدأت كتابة الرواية أصبح من الصعب عليها العودة إلى كتابة القصة القصيرة، وبالتالي كان من الصعوبة بمكان أن تكتب القصة القصيرة جداً، لا سيما وأن ذلك يتطلب مهارة خاصة في القدرة على التكثيف، والقدرة على اختصار الحدث في سطرين أو ثلاثة، وتضيف قائلةً: (أنا لا أملك هذه المهارة الآن، فأنا مأخوذة بلغة الرواية، أجدها أقرب إلى نفسي، ولا أقصد بذلك اللغة في حروفها وكلماتها، ولكن طريقة الكتابة، تشدّني عوالم الرواية المفتوحة ومشاهدها الكثيرة، وشخوصها، ولكن في القصة القصيرة عليك أن تختصر كل ذلك في لغة مكثّفة وذكية جداً، القصة القصيرة جداً أشبه بلغة الشعر إذا صح لي التعبير بذلك، ولا أجد في نفسي شاعرة بقدر ما أجدني سارده أو روائية، وأجد في السرد متعة، ويكفيني من كل ذلك، المتعة التي أعيشها أثناء الكتابة).
ترى التوبي أن الرواية جنس أدبي مستبدّ، ولا تسمح لكاتبها أن يشاركها بجنس أدبي آخر إلا في حالة التخلّي عنها، لأن الرواية تستهلك الوقت، المزاج، التفكير، وبالتالي فعلى كاتب الرواية ما أن يشرع بالكتابة أن يغلق كل الملفات الأخرى في عقله وحياته، وعليه أن يخرج من عالمه ويدخل عالم الرواية، وتعلل أن ما يمنعها من العودة إلى كتابة القصة، هو أنها لم تعد تملك الوقت أو القدرة على ترك الرواية.
تأثير الكلمة
تصف التوبي الأدب بأنه (فعل مقاومة)، فهو بمثابة حالة من حالات الرفض على السائد والمألوف، ولا يمكن أن يكون الأديب أديباً حقيقياً ما لم يستطع قول كلمة (لا) من خلال كتاباته ونصوصه، وتؤمن بأن الكتابة وسيلة من وسائل التغيير والإصلاح في المجتمعات، وتقول: (ما يفعله الأدب لا تفعله الخُطب، لأن الأدب تأثيره أقوى، وقدرته على التغيير أكبر، فالأديب حين يكتب فهو مدفوع بعاطفة صادقة تجاه موقف معين، ولا يجد وسيلة للتعبير عنها إلا بالكتابة، لأنها سلاحه الذي يملك ويعرف تأثيره وقوته)، ولا تعتبر التوبي أن النزعة التمردية التي يشهدها الأدب حديثة العهد، فهي لا تقتصر على الجيل الجديد، فمنذ قديم الأزل والشعراء والأدباء يكتبون ليتجاوزوا الواقع الذي يعيشونه، والأديب بما وهبه الله من مخيّلة وقدرة على التعبير بالكتابة هو الأقدر على التغيير، فهو لسان حال المجتمع، إذن على الكاتب أن يكون متمرداً وجريئاً في طرح أفكاره، وقادراً على كشف المستور وإظهار المغيّب والمسكوت عنه، ولكن بلغة غير مستفّزة، بل بلغة يستطيع من خلالها أن يوصل رسالته.
تأسف التوبي لأن بعض الشعراء والأدباء دفعوا ثمن الكلمة، ولكن الحياة كما ترى تسير نحو الحرية أكثر من قبل، فما عاد للرقيب سلطته ولم يعد مقصه قاطعاً حاداً كما كان، لأن الحياة غدت مفتوحة والفضاء الأزرق الممتد إلى ما لا نهاية، يُغري بالإبحار فيه والتحليق، وتتساءل (فأي طائر هذا يُفتح له القفص ولا يطير؟)، وتؤكد على أن الكاتب لم يعدّ ينتظر تصريحاً لإصدار كتاب، ولا ينتظر محرراً كي يتكرّم عليه بمساحة في صحيفة بعمود ثابت أو حتى مؤقت كي ينشر نصّاً أو مقالاً، فحتى الصحف اليومية التي كان الكاتب يعوّل عليها لنشر نصوصه، لم تعد مقروءة كما كانت، ولم يعد الكاتب يعتمد عليها في نشر ما يريد، لأن وسائل النشر متاحة ومباحة، وأصبح كثير من الكتاب يمتلكون مدوناتهم الخاصة، ودور النشر كثيرة، ومع هذه المساحة الواسعة من الحرية، أصبح الأديب أكثر جرأة، في كسر الثوابت وطرح موضوعات ربما كانت مرفوضة في السابق، وتضيف: (إننا في النهاية نحن بعض من كل، فإذا لم نساير الحياة في تقدّمها سنظل على ما نحن عليه من خوف، وسنظل ندور في نفس طاحونة الأفكار القديمة). وتختتم حديثها مؤكدةً على أن (كل كاتب عليه أن يؤمن بفكرته ويكتبها ويدافع عنها، فإيمانه هو مرهون بإيمان المجتمع، الأدب هو وسيلتنا للتغيير فإذا لم نكسر الحاجز والثابت فكأننا لم نفعل شيئاً).

ذو صلة