مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

(كبرى).. تحديات إنسان اليوم

كيف تكبر الأوهام حد أن تصبح معتقداً وقناعة لا يمكن المساس بها، كيف ننسى بأنها مجرد وهم في لحظة ما، بل نستميت في الدفاع عنها بشراسة وقوة.
هذا أحد أهم الأسئلة التي يطرحها مسلسل (كبرى).
المسلسل أنتج عام 2024، ومأخوذ عن رواية بالعنوان ذاته للكاتب التركي أفشين كوم، وقد نُشرت أول مرة عام 2020. فمن خلال غوكان (الممثل شاتاي أولوسوي) الذي أسميه ضحية الذكاء الصناعي بامتياز، فمن عامل في ورشة صغيرة للسيارات إلى شخص يعتقد أنه مكلف بحمل رسالة إلى البشر، بل يصل به الحال إلى أن يعتقد بأن الله يكلمه. لم يكن مُلاماً في ذلك؛ فكل ما حدث يؤكد له أنه ذلك الشخص المخلص، والاستثنائي، والذي يجب على الجميع أن يصدقوه. تبدأ قصته عندما تصله دردشة عبر أحد تطبيقات هاتفه، فيبدأ في حياة جديدة، حيث يكتشف قدرة (كبرى)، وهي الشخصية التي تتحدث معه في الدردشة؛ على التكهن، وعلى معرفة كل شيء عنه، بل قدرتها على التنبؤ ببعض الحوادث المستقبلية، وتقنعه بأنه (إنسان مختلف)، وأنه قد اختير ليبلغ الناس الهداية والخير والحق. يرفض غوكان أن ينصاع لها في بداية الأمر، ويدخل في صراع نفسي كبير، لكنها في كل مرة تثبت له أن من يتحدث معها هو شخص قادر على كل شيء، ثم يبدأ في تأكيد ذلك لنفسه أولاً من خلال عدة مواقف، مثل مراهنة (كبرى) على حدوث خطر في وقت محدد، وفي مكان محدد، وتطلب منه أن يحذر الناس من هذا الخطر، يحدث ما أخبرت عنه (كبرى)، وبعد عدة مواقف، يبدأ إيمان الناس يتحرك ويكبر باتجاه غوكان. يذهب مخرج الفيلم (الإخوة تايلان) إلى بانوراما تشير إلى تسلسل تصاعدي في مواقف حاسمة ومهمة في حياة البطل، مثل مواقف الطفولة الصعبة، أو الحدث الأكثر حزناً في حياته، حيث فقد كل رفاق فرقته العسكرية على مرأى منه؛ لقطات تتخلل تفاصيل حكايته الجديدة، تذكره بتلك المواقف، وتجعله يفكر بأن كل تلك الأقدار التي مرت عليه ما هي إلا تأكيد على أنه رجل مختار من الله، هكذا يؤكد لنفسه تلك الفكرة بشكل قطعي، ثم تساهم الظروف في أن يصدقه الكثير من الناس، وكأنهم كانوا في حاجة ماسة إلى معجزات جديدة، حتى بات في نظرهم رجلاً مباركاً، وأن مجرد النظر إليه قد يجلب الخير والحظ، بل يطلقون عليه اسم (سماوي)، بينما تختلف حوله فئات أخرى مثل شيخ الحي ورجال الدين، ورجال السياسة، حيث أتهم تارة بالكفر، وتارة بأنه يعمل ضمن منظمات سياسية، لكن الفكرة تكبر لدى غوكان، ويؤمن تماماً بأنه رجل مختار من الله، ولا يترك الفيلم فرصة غير منطقية في كون غوكان يهذي أو يعاني نفسياً، كما أشارت عائلته وخطيبته، بل كل ما يحدث يبدو حقيقياً، لا يمكن معه أن تلوم غوكان أو ألا تصدقه. وحتى عند انقطاع (كبرى عنه)، وعدم محادثته مجدداً، يدخل في مأزق، ويصرخ بأن الله قد تخلى عنه، مما يجعل محبيه يخترعون قصة له دون علمه، فيتفقون مع شخص أن يطلق عليه النار من سلاح مزيف، سيؤلمه قليلاً، ثم سينهض وكأنه مات وعاد حياً بعد لحظات. لم يكن يعلم غوكان بأن كل هذا من الزيف، وأن رفاقه ومحبيه قد رتبوا كل شيء ليبدو حقيقياً؛ لكن هذه القصة كانت قاصمة الظهر لغوكان، حيث أدت التحريات إلى اكتشاف أن القصة مزيفة، بل في هذه الأثناء يعود بنا المخرج إلى صدمة غوكان وهو يعرف بحقيقة الأمر، وأن (كبرى) ليست سوى شخصية ذكاء اصطناعي قامت بها إحدى الشركات، لتجرب مدى كفاءة شخصياتها الذكية، وأنها تقوم ببراعة بجمع المعلومات المحيطة بأي شخص فيسهل إقناعه بأي فكرة، وكيف صادفت (كبرى) الكثير ممن استجابوا لها وآمنوا بأنهم مختلفين عن بقية البشر، لكن مع غوكان تصاعد الأمر وتفاقم، بل سبب إشكالات اجتماعية وسياسية واقتصادية، عرف غوكان أنه مجرد ضحية لكن بعد فوات الأوان، فقد صدق الأمر، وبات مؤمناً بوهم يتمدد في روحه وتفكيره، وأصيب بما يشبه جنون العظمة، ورفض تصديق أن يكون كل ماحدث له مجرد تقنية حديثة، ليصرخ في وجه صاحب الشركة الذي كشف له الأمر: بأن الله قد سخر له هذا الذكاء الاصطناعي ليكمل رسالته، لكن غوكان ينتهي نفسياً وأمنياً ويزج به في السجن، ثم يأخذنا المخرج إلى لقطة تشير إلى أن ما حدث لغوكان بات لعبة يستغل بها الناس، فيولد الكثير من غوكان، وتولد الكثير من الأسئلة المهمة حول الذكاء الاصطناعي وخطره لو وقع في يد عصابة تتسلى بالبشر، وبأفكارهم، وبكل ما يتصل بثقافتهم ولغتهم، وبهشاشة إنسان اليوم، خصوصاً في مجتمعات عاطفية وشعاراتية أمام تحديات زمن تقني ورقمي مدهش.

ذو صلة