عاش كثير من المؤسسات الصحفية العربية في كنف الرعاية المتعددة من قبل المؤسسات الرسمية أو المنظمات أو الأحزاب، ولم يكن من ضمن إستراتيجياتها الاستثمار أو الاحتراف المهني بمعايير مستمرة وعالية تحقق الاستدامة واحترام القارئ وإفادته بمحتوى لا يستغني عنه في الراهن أو المستقبل، ولم تكن الثقة بين الطرفين قائمة على أصولها. وحين تراجعت المؤسسات الصحفية أمام سطوة وسائل التواصل الاجتماعي تنازل القارئ عن الوسائط التقليدية، أو تناساها عند أول منعطف.
في زمن حضور العمل الإعلامي المؤسسي كانت الدعوة دائماً إلى بناء مراكز المعلومات وتطويرها، فهي السند الحقيقي للعاملين قبل وأثناء بناء موادهم الإعلامية لتنأى عن الإنشائية وتتعمق صلتها بواقعها ويستفيد منها القارئ والباحث وصانع القرار أيضاً.
حرصت مؤسسات على إيجاد مراكز المعلومات، لكن الناجح منها محدود جداً، لأنها ركزت على حفظ وأرشفة محتوى وسائلها، وكانت أرشفة تقليدية لم تستثمر وسائل الحفظ الحديثة على مستوى تداول المعلومات داخل المؤسسة، سواء نقل الوثائق أو الصور.
كان الحفظ التقليدي سيد الموقف، فترى أكواماً من المجلدات، ثم وصل الأمر إلى الحفظ بصيغة pdf وهي صيغة مصمتة مغلقة لم تعضد بالنصوص المفتوحة والببليوجرافيات، ورؤوس الموضوعات والمداخل والكشافات.
استثمرت مؤسسات جزءاً من أرشيفها قبل بزوغ الإنترنت ومحركات البحث، لكن تسويقها كان ضعيفاً لأسباب كثيرة، منها: توافر موارد شتى تغني عن ارتياد مناطق جديدة، وضعف عناية مؤسسات صناعة المحتوى بالجانب المعلوماتي، وعدم اهتمام القطاعات التعليمية والأكاديمية بتعليم أبنائها أصول البحث عن المعلومة واستثمارها.
مع الأيام انتقلت هذه الملفات الشائكة وتفاقمت في المؤسسات الصحفية وما جاورها، حين وجدت نفسها أمام أرشيف ضخم وموارد تتراجع ومطالبات برعاية هذا الأرشيف وحمايته وتقنين الوسائط والممارسات التي يتطلبها، فلا يتعرض للتلف والضياع ويخضع لعمليات تسويق وترويج تحقق الفائدة منه، فهو كنز تاريخي ومعرفي ووثيقة أصيلة من وثائق كل مجتمع يحترم مساراته ومنجزاته.
وليس الأرشيف الصحفي وحده الذي تعرض للنسيان والإهمال وسوء الإدارة؛ إذ تشاركه أرشيفات أخرى، مثل: الفني، والاقتصادي، والرياضي، والتعليمي، والثقافي، والأدبي بشكل خاص. وبضياع أرشيفات كثيرة أو توزع أجزائها في مواقع شتى، وبأيدي غير المختصين أحياناً؛ أصبحت عمليات التدوين صعبة أو عرضة للتشويش والتزوير أيضاً.
على الصعيد المحلي لا نجد مؤسسة صحفية واحدة استطاعت حفظ أرشيفها بشكل منهجي، ثم أتاحته للجمهور ضمن أوعية معلوماتية موثوقة ومستدامة يعود عليها بالنفع المالي، حتى المؤسسات التي انتمت إلى الشكل الدولي، أرشيفها المتاح ضعيف ويثير التساؤلات. والصحف والمجلات التي توقفت ذهب أرشيفها أدراج الرياح مثل صحيفة (الحياة) و(الشرق) و(المنهل)، ومجلات متخصصة كانت وزارات وجهات حكومية ومؤسسات مدنية تقدمها توقفت، ومع توقفها اختفى أرشيفها الورقي، ولم يبادر ناشروها إلى حفظ وأرشفة وإتاحة المحتوى على الرغم من قدرتهم المالية، مثل: مجلة (الحج والعمرة)، ومجلة (المعرفة)، ومجلة (النقل والمواصلات)، ومجلات الغرف التجارية، والمجلات الثقافية للأندية الأدبية. وهناك تجربة مميزة لمجلة (العرب) المتخصصة تحتاج التطوير.
وفي الساحة الثقافية والإعلامية المحلية يتذكر الجميع الدور الريادي الذي قدمته مجلة (القافلة) الصادرة عن شركة أرامكو وتصدر حتى يومنا هذا، لكن أرشيفها ضعيف وتقليدي بصيغة pdf لا يمكن البحث فيه!
أما التجربة التي تستحق الإشادة فقد قدمتها دارة الملك عبدالعزيز بأرشفة صحيفة (أم القرى) في أعدادها الأولى وصحيفة (صوت الحجاز). وتجربة مكتبة الملك فهد الوطنية في حفظ أرشيف الصور وإتاحة بعض قواعد البيانات والببليوجرافيات السنوية والراجعة.
وأظن الدور الريادي في هذا المجال قاده مركز الوثائق والمحفوظات التابع لهيئة الخبراء بمجلس الوزراء الذي حفظ الأرشيف الإداري الوطني بامتياز، إضافة إلى حفظه أرشيف صحيفة أم القرى الرسمية، وعلى بقية الجهات الاستفادة من تجربته أو التعاون معه لتكوين أرشيف وطني شامل.
على صعيد المؤسسات الصحفية تجدر الإشارة إلى تجربة مؤسسة اليمامة للصحافة التي قدمت نموذجاً للنشر يعتد بالأرشيف، ويعتمد عليه، يتمثل في سلسلة (كنوز اليمامة)، حيث نشرت خلاله مختارات مما قدمته صحيفة الرياض ومجلة اليمامة طيلة مشوارها.
ومن أهم الكتب التي أصدرتها مؤسسة اليمامة معتمدة على أرشيفها (بداية مشوار)، (مأثورات شعبية)، (نجوم الأمس)، (فنجان قهوة في خيمة القصيبي)، (سطور المشاهير)، (أماكن في الذاكرة).
هذا الاستثمار جاء في وسائط تقليدية ورقية. وبقي على المؤسسة قيادة مشروع أكثر شمولية واستدامة وتحقيقاً للعوائد المادية؛ يتمثل في الأرشيف الإلكتروني الشامل مدفوع الثمن الذي يمكّن المستفيد في كل مكان من الرجوع إليه والاقتناء لما يريده من وثائق تخضع للتصنيف والفهرسة وخصائص البحث بعدة مداخل.
النموذج المشار إليه قدمته مجلة (ماجد) الصادرة عن هيئة أبوظبي للإعلام، حيث يدفع القارئ مبلغاً محدداً لفترة زمنية يسمح له بتصفح الأعداد والبحث والحفظ، ويبدو أن المشرع توقف!
ويبقى مشروع شركة (صخر) متمثلاً في أرشيف المجلات الثقافية؛ الرائد في هذا المجال، فهو شامل يغطي عدة دول عربية، وتتوافر له قواعد بيانات، والإتاحة له مجانية، ولا مثيل له حتى اليوم.
وفي نهاية العام الفائت استحوذت وزارة الثقافة على (معجم صخر العصري) اللغوي، وكنت أتمنى أن تستحوذ على الأرشيف الثقافي لأنه إضافة نوعية ويحتاج الدعم والرعاية الرسمية، وبخاصة بعد رحيل مؤسسه.
الظاهرة، كما يبدو، ليست محلية، بل تشترك فيها مجتمعات كثيرة، الأمر الذي دفع منظمة اليونسكو لاختيار التاسع من يونيو يوماً عالمياً للأرشيف، إلى جانب أيام أخرى لعل الاحتفال السنوي بها يعيد إليها أهميتها، ويذكر المجتمعات بأدوارهم ومسؤولياتهم، وكما تمر أيام أخرى يمر اليوم العالمي للأرشيف وقد طوته ملفات في غرف منسية، وتناله جناية لا تختلف عن بقية الأرشيفات وملفاتها.