مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

تراث أرشيف الصحف جسر يربط الماضي بالحاضر

الإرث الحضاري الثقافي المتنوع الذي ارتبط بأرشيف الصحافة في عالمنا العربي، والعالم بشكل عام، والذي صار وعاءً وناقلاً لنتاج فكري حضاري؛ لازم عيش الثقافة والمثقفين، ومثّل حالة من الإبداع في فضاء جديد وسماء من الحرية، وفتح الباب أمام الوعي المبكر تجاه كافة القضايا، وتجاوز جغرافية الأوطان ليكون كنزاً معرفياً أصيلاً وجسراً يربط الماضي بالحاضر.
وكان اختراع الطباعة في القرن السادس عشر سبباً في بدء ظهور الصحافة في أوروبا التي أخذت بالانتشار، شيئاً فشيئاً، في دول مثل ألمانيا وبريطانيا.. وغيرهما. ورغم تأخر ظهور الصحافة العربية إلى منتصف القرن التاسع عشر، وبسبب رغبة الغرب في الانفتاح على المنطقة العربية؛ استطاع المثقف العربي والمتعلم الاطلاع على تجارب الصحافة الغربية، وكان لأحداث كبيرة وتحولات، منها: قوانين الطباعة (قانون المطبوعات العثماني)، ودخول المطابع على العالم العربي، خصوصاً في مصر ولبنان بعد نشاطات سابقة محدودة، كمطبعة بولاق؛ ذلك وغيره كان له قيمة أسست إلى انطلاق صحافة امتلأت بالفكر والثقافة والتنوع.
بعد ذلك شهد القرن العشرون نقلات نوعية، وتطوراً كبيراً في عدد الصحف ومضامينها، وكانت القضايا التي تصدّت لها الصحافة والصحفيون سبباً في استمرارها أو تعطيلها، وخضوعها لرقابة شديدة، باعتبارها مصدر قلق للحكومات، الأمر الذي زاد في عدد الصحافة الحكومية والخاصة معاً، وكانت تصدر بشكل منتظم وغير منتظم، صحف يومية وأسبوعية وشهرية. وبوصفها كنزاً ثقافياً كانت الأحداث والنكبات التي عصفت بالمنطقة العربية سبباً في هجرة الصحف والصحفيين، ومنها صحف استمرت بالصدور وأخرى انتهت، وبعضها تغيّر اسمها، ومنها ما كان عمره يوماً واحداً. وباعتبارها سجلّاً وثّق الأحداث والتغيرات والتطورات الثقافية والسياسية والعلمية والفكرية، وواكب تطور صناعة الصحف وازدياد المؤسسات التعليمية وتطور المواصلات والنقل واختلاط الشعوب؛ ظهرت صحافة عربية بلغات أجنبية مثل الفرنسية والإنجليزية والإسبانية، حتى أصبحت معها الصحف تمثل أرشيفاً معرفياً هائلاً.
وبسبب التطور التكنولوجي المتسارع والمرتبط بالإنترنت وثورة المعلومات والاتصالات؛ ظهر ما يسمّى بالصحافة الإلكترونية التي فرضت نفسها، وشكلت تهديداً مباشراً للصحافة الورقية التي استمرت لأكثر من قرنين، فأحدثت تمايزاً معرفيّاً كبيراً بين الشعوب وطبقات الشعب الواحد في فضاء واسع زاد فيه عدد الصحف والصحفيين والمؤثرين والناشرين، وأصبح المحتوى الإعلامي أكثر انتشاراً وأسرع وصولاً وبلا حدود لأكبر عدد من القراء والمهتمين، وكان لهويتها البصرية الإلكترونية سحرها الخاص، وأصبح للخبر الصحفي صناعة مختلفة في البيئة الرقمية أمام فضاءات التعبير عن الرأي الواسع وسقف الحرية غير المقيّد بفعل التكنولوجيا، وظهرت مواقع تمكّن المستخدم من استعراض آلاف المواقع الإخبارية والصحف العربية والعالمية في زمن قياسي وبوابة معرفية واحدة.
ولأهمية ما سبق بدأت الجهود الفردية منذ ستينات القرن الماضي للحفاظ على الأرشيف الصحفي الورقي أولاً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فقد احتفظ روّاد ومريدو الصحافة العربية في كل الأقطار بأعداد كبيرة من الأرشيف المتنوع في مكتباتهم الخاصة حتى آل فيما بعد للأحفاد، ومن ثم كتب له الوصول الآمن للمكتبات ودور الوثائق، في حين أن الدور المؤسسي احتاج وقتاً أكبر لأهمية أرشيف الصحف باعتباره تراثاً غنياً يزخر بالمعلومات والصور الاجتماعية والسياسة والثقافية، ونقل لنا كيف نشأت الأوطان بمؤسساتها وشركاتها، من خلال تجميع الأعداد اليومية والأسبوعية والشهرية في مجلدات ورقية تحفظ في المكتبات العامة والوطنية والخاصة، ثم تطورت فكرة الحفظ باستخدام جهاز تصوير المايكروفيلم الذي ساهم بشكل كبير في حفظ أقدم نماذج الصحف الورقية في العالم الغربي وعالمنا العربي، ففي الغرب لا للحصر تصدت المؤسسات الكبيرة مثل الأرشيف الفيدرالي الألماني والأرشيف الوطني البريطاني والأرشيف الفرنسي ومكتبة الكونجرس الأمريكية، وبجهود وأسس علمية؛ لحفظ أرشيفات متنوعة وكنوز معرفية لدول العالم أجمع، الأمر الذي أسس لظهور مكتبات ودور وثائق عربية في مختلف الدول العربية قامت بأدوار مشابهة واستدعت جزءاً من الأرشيفات المخزنة على المايكروفلم من حواضن الحفظ الغربية.
وفي خطوة إيجابية ظهرت الرقمنة لتمثل أحد الحلول التي عملت على تحويل الأرشيف الورقي والمايكروفيلم إلى أرشيف إلكتروني من خلال الماسحات الضوئية المتنوعة، وأسست لظهور تكنولوجيا الأرشفة الإلكترونية المتقدمة والطموحة، من خلال أنظمة وبرامج أرشفة تسهّل عملية استعراض واسترجاع بيانات الصحف والمقالات والأخبار من خلال الكلمات المفتاحية، ووفرت مستودعات إلكترونية مفهرسة ومصنّفة من الصحف لرفع مستوى التعامل البحثي والاستفادة العلمية وإتاحة الوصول للأرشيف الصحفي.
وكشفت عمليات الحفظ والرقمنة عن ضياع أرشيف صحفي هائل تمثّل بفقدان أعداد كبيرة من صحف معينة وأحياناً صحف بأكملها، وقد سمح تنقل الصحف مع المسافرين ومن خلال التسويق في الدول المجاورة لبقاء عدد من الصحف محفوظة بشكل مجزّأ وغير متكامل، ومن أبرز نماذج الضياع لا للحصر كانت في مصر وفلسطين لكثرة ما أصدرت من صحف ولم يكتب لها الوصول الآمن للحفظ لأسباب كثيرة منها الأحداث السياسية والتحولات الإقليمية، باستثناء عدد قليل وجدت أعداده محفوظة في مكتبات دول مجاورة، ولا تكاد دولة تخلو من ضياع جزء من أرشيفها الصحفي بشكل خاص وأرشيفها الوثائقي بشكل عام، فقد جاءت فكرة التوثيق والأرشفة التقليدية والمتطورة متأخرة في عالمنا العربي.
وتبقى الأرشفة الحقيقية التي تتجاوز العرض الصوري لمحتويات الصحف وأعدادها، وتذهب بنا إلى البحث الدقيق والاستعراض التفصيلي لكل عنوان وخبر وإعلان ومقال وأي محتوى آخر، ونستطيع البحث عن المحتوى بدقة أكبر؛ هي غاية كل مؤمن يهتم بالمصادر الصحيحة للعبور الآمن للماضي وأخباره.
وهنا تصدّرت المكتبات العامة والوطنية ودور الوثائق المشهد، وساهمت بشكل يستحق التقدير والثناء ضمن إمكاناتها في حفظ التراث الوثائقي بكافة أنواعه وأشكاله، إلّا أنّ الأرشيفات بقيت مغلقة لا يطّلع عليها إلّا الباحثون دون ربط محلّي أو عربي موحد، ومن بين هذه المكتبات ودور الوثائق لا للحصر: دار الكتب والوثائق القومية في مصر، ودار الكتب والوثائق العراقية، ومكتبة الأسد في سوريا، والمكتبة الوطنية في الأردن، ومكتبة الملك فهد الوطنية في السعودية، ومكتبة قطر الوطنية، ومكتبات الجامعات الحكومية في الدول العربية، والعديد من المراكز الحديثة، مثل: دارة الملك عبدالعزيز، ومركز التوثيق الملكي الأردني الهاشمي، والتي تحتفظ جميعها بملايين من أرشيف الصحف العالمية والعربية بشكل إلكتروني كبير وورقي محدود، والتي ترجع للفترة من 1870 – 2000م.
وبسب التطور الهائل برزت أدوار كبيرة للمكتبات ارتبطت بمفهوم الإتاحة، مبتعدة عن فكرة الأرشيفات المغلقة، وقدّمت نموذجاً عربياً متطوراً في الاستحواذ من أكبر أماكن الحفظ الدولي والعربي بشكل إلكتروني، إذ أتاحته للباحثين والمهتمين، وعلى رأسها مكتبة قطر الوطنية التي حققت جزءاً من حلم كل باحث في الاطلاع على أكبر قدر من الأرشيفات التاريخية.
وبخطوة أكثر طموحاً قدّم موقع أرشيف الشارخ للمجلات الأدبية والثقافية العربية، الذي يعود الفضل في تأسيسه للراحل الشيخ محمد الشارخ مؤسس شركة صخر، نموذجاً متقدماً في تسهيل البحث والوصول السريع للصفحات والعناوين والأخبار بأسرع وقت، وقدّم نماذج من الصحف والمجلات حتى غير المكتملة العدد إلى فضاءات المعرفة والباحثين، وأظهر الحاجة الماسّة لجهد عربي طموح يربط الحواضن الثقافية من مكتبات ودُورٍ للوثائق وغيرها، ليتم استكمال البيانات المفقودة وإعادة أرشيف الصحف الضائعة والمهاجرة ضمن منصّة أرشيفية متطورة وموحدة تحقق حلم الباحثين، وتمكن الأجيال من البقاء على تواصل حضاري مع الماضي بكل تجلياته.
ففي تجربتنا الخاصة في مركز التوثيق الملكي الأردني الهاشمي، قمنا برقمنة كل عدد وصل إلينا وترميمه وحفظه والبدء بأرشفته، وكانت غالبيتها مجموعات ومقتنيات شخصية من مثقفين ومتخصصين لصحف متنوعة بشكل ورقي، قدّم بعضها إهداءً، وجزءاً آخر للترميم والرقمنة وتمّ إعادتها لأصحابها، وتمكن المركز من الحصول على نسخ إلكترونية لعدد من الصحف التي ظهرت في القرن العشرين، خصوصاً في الأردن وفلسطين، وتتبعنا مسار طباعة بعض الصحف في مطابعها القديمة ولكن لم نوفّق بالحصول على نسخ أصلية أو مسودات، وسنستمر بالدور الوطني والحضاري بكل الإمكانات.

ذو صلة