إن من أهم المعلومات التي توثق أخبار الأمم وتسجل إنجازاتهم اليومية سواء كانت ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية بما في ذلك النزاعات والحروب وأخبار الحروب أو الظواهر الطبيعية كالفيضانات والهزات الأرضية هي الصحف، وعبر العصور، تشكل الأرشيفات الصحفية في مختلف دول العالم مصادر معلومات مهمة لمعرفة أخبار الماضي وتسجيل أخبار الحاضر في شتى المجالات، والجدير بالذكر أن أقدم الصحف (الجريدة) والتي يزيد عمرها عن 320 عاماً هي (فينزتسايتونغ) وهي صحيفة يومية مقرها فيينا وتملكها الحكومة النمساوية وتم تأسيسها عام 1703م، واتخذ في الآونة الأخيرة إيقاف النسخة المطبوعة بعد إلغاء الالتزام القانوني للشركات بنشر الإعلانات العامة في الطبعة المطبوعة، وهذا أيضاً بدأ تطبيقه في عالمنا العربي مما أدى إلى خسارة في الدخل تصل إلى ملايين الدولارات وتقليص عدد الوظائف.
ما يهمنا هنا الأرشيف الصحفي العربي، ولذلك - وللتذكير أن أول صحيفة عربية وأقدمها هي صحيفة الوقائع المصرية (وقايع مصرية)، وكانت تصدر باللغة التركية، وتم إنشاؤها بأمر من محمد علي باشا عام 1828، مع أنه في مصر مع دخول نابليون بونبرت تم صدور (جريدة بريد مصر)، وكانت باللغة الفرنسية عام 1798، وكانت تدون أهم الحوادث اليومية، وأيضاً بدأت الصحف العربية تظهر وبخاصة بعد دخول المطابع مبكراً إلى لبنان حيث تم إصدار جريدة الأخبار التي أنشأها الصحافي خليل الخوري عام 1858م، وفي تونس أيضاً صحيفة الرائد التونسي عام 1860، وصحيفة فلسطين عام 1911، وصحيفة الحق يعلو في الأردن 1920، وجريدة أم القرى في منطقة الحجاز في السعودية عام 1924.
توالت الصحف بالظهور في كافة أرجاء الوطن العربي مما شكل أرشيفات صحفية عربية ضخمة تدون وتسجل تاريخ الدول العربية وأخبارها وأنشطتها في كافة جوانب الحياة ليتضمن هذا الأرشيف الصحفي العربي الضخم معلومات مهمة ترصد أخبار ووقائع تشخص تاريخنا وعالمنا للتتعظم في هذا الأرشيف الصحفي الضخم القيمة الثانوية للمعلومات كمصدر للباحثين والدراسين وكإرث تراثي وثائقي يسجل أحداث الماضي، ولكن هذه الأرشيف بدأ حفظه في المؤسسات الصحفية في مستودعاتها وتم دفنه وقلة من الذين حاولوا الاهتمام به ونقله من العالم التقليدي أو الشكل المطبوع إلى العالم الرقمي من خلال أرشفته رقمياً حيث إن المؤسسات الصحفية باتت تهتم بالنشر الرقمي دون الرجوع إلى أرشيفها القديم ولا تنظر إليه كتراث ثقافي مهم وذلك لتركيزهم على الجانب المادي وانشغالهم بعالم اليوم ليبقى هذا الكنز دفيناً في المخازن.
هناك العديد من المؤسسات الأكاديمية التي اهتمت بتهجين هذه الأرشيفات وعلى سبيل المثال في الأردن تبنت الجامعة الأردنية أرشفة جميع أعداد صحيفة الرأي منذ أن كانت تستخدم تقنيات التصوير المايكروفيلمي من خلال استخدام المايكروفيلم والمايكروفيش في عملية التخزين، ومع دخول تقنية المعلومات والرقمنة قامت بتحويل الأرشيف من المايكروفيش والمايكروفلم إلى التخزين الرقمي، وبعض الصحف اهتمت بأرشفة رصيدها التقليدي الورقي أو المايكروفيلمي وقامت بتحويله إلى الشكل الرقمي، مع أن حتى الأرشيف الصحفي الهجين والمرقمن بحاجة إلى وضع إستراتيجيات وسياسات لإدارته واستدامته حتى لا يتم فقدانه، وقس على ذلك هناك الكثير من الأرشيفات الصحفية في كثير من المؤسسات الصحفية في الوطن العربي موجودة في المستودعات ولكن مغلق عليها ولا يتم إعادة إحيائها كرصيد ثقافي على الرغم من أهميتها.
لا ينبغي هنا أن ننفي الجهود التي تبذلها وبذلتها الكثير من المراكز الثقافية ومراكز المحفوظات وهيئات المحفوظات والمكتبات الوطنية والأكاديمية في العالم العربي للمحافظة على الأرشيفات الصحفية كأرشيف الصحف المصرية بالتعاون مع مكتبة الأسكندرية والذي تضمن أكثر من 1.795.000 قصاصة صحفية مأخوذة من 300 صحيفة يومية وأسبوعية وأرشيف الدوريات العربية في مكتبة جامعة اليرموك في الأردن، إذ أصبحت مركز إيداع للدوريات العربية وأرشفت إلكترونياً أكثر من 320.191 مقالاً لمحتوى 2316 مجلة، وأرشيف الشارخ والذي أرشف أكثر من 228 مجلة، كذلك الأرشيف الصحفي للمغفور له الملك الحسين بن طلال والذي تم إنجازه من خلال مكتبة جامعة الحسين بن طلال وبتمويل من الدائرة الثقافية في البنك الأهلي ونتج عنه 76 مجلداً بواقع 76.000 مقال، إلا أن كل هذه الجهود لا تشكل إلا جزءاً يسيراً من مخزونات الأرشيف الصحفي العربي.
حتى نحافظ على أرشيفنا الصحفي العربي فإن ذلك يستدعي وجود آلية مشتركة من خلال تعاون مشترك ما بين الدول العربية لاستخراج هذا الكنز التراثي الثقافي المهم وإخراجه من غرفة الإنعاش لتعود الحياة إليه، ولكن كيف يمكن ذلك؟ هناك الكثير من المشاريع الناجحة التي تم إنجازها للمحافظة على التراث الثقافي من خلال مؤسسات أكبر من مستوى المؤسسات الوطنية كجامعة الدول العربية، ومن خلال المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بالتعاون مع النقابات الصحفية يمكن عمل مشروع يعنى بأرشفة ورقمنة كافة الصحف العربية التقليدية الورقية قبل تلفها، من خلال إنشاء مركز أرشيف إقليمي للصحف العربية ويتم فيه التشبيك مع المكتبات الوطنية ومراكز المحفوظات والهيئات الثقافية والمؤسسات الصحفية وإطلاق بادرة المحافظة على هذا الإرث الوثائقي المهم كما هو الحال على سبيل المثال، الفهرس العربي الموحد للتسجيلات البيبليوغرافية لمصادر المعلومات العربية في المملكة العربية السعودية، ومركز إيداع الرسائل الجامعية العربية في الجامعة الأردنية، وهناك تجارب عديدة أخرى ناجحة في هذا المجال، فلنمسح عن هذا الكنز الثقافي الغبار لنخبر بماضينا ونتعلم منه ونحافظ عليه لأجيالنا القادمة.