مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

أرشيف الصحافة حكايات وأسرار

يقترب عمر الصحافة الآن من ثلاثة قرون ونصف، وقبل ذلك كانت هناك الكتب والمخطوطات والوثائق وغيرها، تاريخ طويل من الكلمة المكتوبة قد يعود إلى إنسان الكهف، ولكن ما الدافع وراء إصدار الصحف والمجلات ومن ثم أرشفتها، ولماذا انتشرت مهنة أرشفة الصحف والمجلات في القرون الثلاثة الأخيرة، وما أهمية هذا الأرشيف لعامة الناس وللكتاب والإعلاميين وطلاب البحث العلمي والتاريخ والأدب؟ وما أبرز الأرشيفات العربية، وأين توجد؟ وما أهم أرشيفات الصحف التي ضاعت؟ وما أهم الصحف العربية التي لديها أرشيف يضارع أرشيفات الصحف الأجنبية؟ وما أدوار دور المحفوظات والأرشيفات الوطنية وكذلك المكتبات في حفظ الأرشيف؟ وأخيراً: ماذا فعلت الإنترنت بالصحافة الورقية؟
للدلالة على قيمة الأرشيفات الصحفية وأهميتها؛ ستجدون أن كل كتب التاريخ الموثقة اعتمدت على الأرشيفات الصحفية، وبين 1700 وعام 2000 هناك أكثر من 300 صحفي كتبوا أعمالاً أدبية اعتمدوا في الكثير منها على الأرشيف الصحفي وفقاً لدوج أندروود، ومثال ذلك إذا فتحتم كتاباً لمحمد حسنين هيكل ستكتشفون أن هيكل يعتمد اعتماداً كلياً على الأرشيفات الغربية خصوصاً من إنجلترا والولايات المتحدة في كتابة أعماله السياسة الوثائقية، كذلك جمع عبدالرحمن منيف وحنا مينه بين الصحافة وكتابة الرواية، وأكبر كتاب الرواية في العالم أيضاً اعتمدوا على الأرشيفات العامة والمكتبات الوطنية في الحصول على مادة إخبارية من الصحف والمجلات المؤرشفة لديهم من أجل كتابة أعمالهم.
تاريخ الأرشيف من تاريخ البشرية
ثمة فكرة خيالية تقف وراء اختراع الأرشيف باعتباره (آلة زمن) Time Machine يمكنها العودة دائماً إلى الماضي، ومن المؤكد أن الأرشيف ليس فكرة حديثة إطلاقاً، فربما كانت حضارات بلاد ما بين النهرين هم أول من اخترع الأرشيف، يقول الباحث إرنست بوسنر إن المحفوظات الأولى أنشأها السومريون في منتصف الألفية الرابعة قبل الميلاد. أخذت هذه السجلات شكل ألواح طينية مكتوب عليها الحروف المسمارية، كما احتفظت المجتمعات القديمة اللاحقة، مثل الحيثيين والآشوريين وبلاد ما بين النهرين، بأرشيفات، على الرغم من أنه لا يمكن للمرء إلا أن يتكهن اليوم بمدى إضفاء الطابع المؤسسي على هذه الأرشيفات في بعض هذه المجتمعات على الأقل، وتم الاحتفاظ بأرشيفات في المعابد والمحاكم لأغراض دينية وغيرها.
ليس ذلك فقط، فقد عرف الأرشيف في كل الحضارات القديمة، وفي مصر القديمة مثلاً تحصي الباحثة البولندية كاتارينا زين اثني عشر اسما للأرشيف والمحفوظات، والغريب أنهم كانوا مدركين بشكل مدهش لكل وظائف الأرشيف، كما عثر على أرشيف في كل من الصين وفارس وأثينا وروما، حيث اكتظت هذه الحضارات بمئات الآلاف من قطع الأرشيف، ولعل ما يثبت قدم مصطلح الأرشيف هو أنه استخلص من البادئة (archae-) والتي أتت بدورها من الكلمة اللاتينية (archium) أو (archivum)، والتي اشتقت من الاسم اليوناني (archeion)، والاسم اليوناني بدوره مشتق من كلمة (arch) بمعنى (القوس)، ويعني أيضاً البداية أو المبدأ. ومع ذلك فإن علماء الأرشيف منقسمون حول معنى الكلمة.
الصحافة والأرشيف
يمكن القول أيضاً إن فكرة الصحيفة وإصدارها كانت تبدو إلى عهد قريب فكرة واعدة وملهمة، فمع ظهور الطباعة على يد يوحنا جوتنبرج عام 1423، وعلى الرغم من أن الاعتماد كان على النسخ المتكرر للأحداث والأخبار، إلا إن ظهور الطباعة دفع للتفكير في إنتاج الصحف بعد استقرار أمرها، وظهور مطابع متعددة بدأت تتناثر في أوروبا في القرن الخامس عشر والسادس عشر، ومن ثم بدأت الصحف في الانتشار بعد ذلك بقليل، كما يمكن القول بأن الصحف هي ابنة المجلات، فلم تكن تصدر الصحف يومياً، بل كانت تسمى (صحيفة أسبوعية) إلى أن بدأت تتضح ملامح المجلات وملامح الصحف والفارق الجوهري بينهما، فــأول مجلة أسبوعية هي مجلة A current of General News التي كانت أول مجلة تنشر وتوزع في إنجلترا في عام 1622. وشهد القرن السابع عشر بروز توزيع المنشورات السياسية التي كانت تغذيها فترات النزاع السياسي، وهو ما أدى لتوزيع الكتيبات وقصاصات الأخبار في المقاهي التي كان يجتمع الناس بها. وقد طبعت صحيفة أوكسفورد (Oxford Gazette) في عام 1665 على يد موديمان في وسط معمعة طاعون لندن العظيم، وكانت بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، أول دورية تتضمن جميع مؤهلات الصحيفة الحقيقية. وكانت هذه الصحيفة تُطبع مرتين أسبوعياً من قبل السلطة الملكية، وسرعان ما أعيدت تسميتها لتصبح صحيفة لندن. وكانت المجلات أيضاً محلاً للدعاية الأخلاقية تهاجم الانحطاط الأخلاقي، ولا سيما مجلة (Mercurius Britannicus).
كانت المرحلة الأخيرة من قانون طلب ترخيص المجلات والصحف عام 1643 الذي تم وضعه حيز التنفيذ من جانب ملوك أسرة ستيوارت، وبصدور أول قانون للرقابة على الصحف عام 1694 تم وضع حد للرقابة الخرقاء وسُمح للكتاب بحرية التعبير والنقد.
أرشيفات الصحف العربية
تعود أول صحيفة أنشئت في العالم العربي إلى دخول نابليون بونابرت مصر، حيث أنشأ صحيفتين هما (بريد مصر) Courier de l’egypte الصادرة عام 1798 والتي اختصت بنشر أخبار مصر في القاهرة والأقاليم للجنود الفرنسيين والجالية الفرنسية، والصحيفة الثانية هي (العقد المصري) La Decade Egyptienne وهي صحيفة علمية تختص برصد شؤون مصر في كافة النواحي الاجتماعية والأدبية والاقتصادية، وتسجيل إسهامات الحملة العلمية، وتوقف صدور الصحيفتين برحيل الحملة الفرنسية عن مصر. والصحيفتان متاحتان في أرشيف المكتبة الوطنية الفرنسية.
في المملكة العربية السعودية تعد صحيفة (الحجاز) هي أول صحيفة بمكة المكرمة التي صدرت في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1908، وكانت أسبوعية، وصدرت باللغتين العربية والتركية، وذلك بحسب موسوعة أوائل الصحف في المملكة العربية السعودية، كما تحتوي مكتبة الملك فهد الوطنية على (الكشاف الوطني للدوريات السعودية) للصحف والمجلات التي صدرت بالمملكة منذ عام 1990 وفقاً لما هو مكتوب على الموقع.
أفضل الأرشيفات الصحفية في العالم
تتبوأ مكتبة الكونجرس بلا منافس المرتبة الأولى بعدد صحف بلغت 7517 صحيفة تم أرشفة 2.977.090 عدد منها وبصفحات كاملة بلغت 22.097.672 مليون صفحة كاملة، وهي تغطي الفترة من 1600 حتى عام 2024، وعلى سبيل المثال ففي الفترة من 1600 حتى 1649 تغطي 46 صفحة ثم يتصاعد عدد الصحف والأعداد بمرور الزمن، كما أنها تغطي صحفاً من 27 دولة، من بينها: في أفريقيا كينيا ونيجيريا، ويمكن الوصول إلى هذه الصحف عبر موقع المكتبة.
أما أكبر مشروع في العالم لاقتناء وإتاحة النسخ من أرشيف الصحف فهو موجود في الولايات المتحدة في شبكة المكتبات البحثية، وهو تجمع من المكتبات الجامعية (حوالي 200 جامعة) أنشئ عام 1949، والهدف منه اقتناء كل نسخ الصحف في العالم وإتاحتها للباحثين في الجامعات المشاركة بكل اللغات المختلفة، ولها بوابة على الإنترنت.
بينما تمتلك المكتبة البريطانية أرشيفاً صحفياً ضخماً يربو على ما يزيد عن 80 مليون قصاصة صحفية من الصحف البريطانية ومجموعة الدول التي احتلتها بريطانيا منذ بداية القرن السابع عشر، وهي متاحة مباشرة في موقع المكتبة.
أرشيفات الصحف والمكتبات الوطنية
تحتوي المكتبات الوطنية في العالم العربي الآلاف من صفحات الصحف التي صدرت في العالم العربي بين 1800م حتى الآن، ولعل دار الكتب المصرية تعد واحدة من حائزي الصحف والمجلات التي صدرت منذ حملة نابليون بونابرت عام 1798 وحتى اللحظة الراهنة، إضافة إلى أول صحيفة عربية، وكانت في عهد محمد علي، وهي جريدة الوقائع المصرية عام 1825، وكانت باللغتين العربية والتركية، كما تحتفظ الأهرام والهلال بأرشيف ضخم لصحيفتيهما، وتتنوع أرشيفات المكتبات الوطنية في حيازتها لأرشيفات الصحف العربية. وفي العراق جريدة (زوراء) عام 1869 مع اختلاف المؤرخين حول التاريخ الحقيقي، كما تعد صحيفة خليل الخوري أول صحيفة سياسية غير رسمية، وظهرت في لبنان عام 1859، وفي فلسطين ظهرت أول صحيفة عام 1911 على يد عيسى العيسى. بينما تضم مكتبة الأسد الوطنية أرشيف للصحف يزيد عن 3000 آلاف صحيفة ومجلة سورية وعربية، وفي المكتبة الوطنية التونسية هناك أرشيف 16 ألف عدد من صحف صدرت في تونس.
أبرز نماذج ضياع أرشيفات الصحف في العالم العربي
تعرضت العديد من مقتنيات المكتبات الوطنية وبعض المكتبات المتخصصة إلى فقد مجموعات من أرشيفها الصحفي، كما بيع بعضها لدول أجنبية، وربما تكون العراق والسودان أسوأ من تعرض لذلك، لكن تركزت أغلب الحالات في مصر، فقد احترقت مكتبتان عام 2011 هما مكتبة مقر المجلس الأعلى للصحافة والتي احتوت على أرشيف ضخم نادر للصحف والمجلات التي ترجع لعصر الخديوي إسماعيل وبقية حكام مصر، كما احترقت أيضاً مكتبة المجمع العلمي وفقدت مجموعة من الكتب والصحف والدوريات والخرائط، في كارثة دامية لمصر في هذا التوقيت، كما انتشرت معلومات عن بيع أرشيف الأهرام للعديد من المواقع والدول.
لا يقتصر الأمر على التدمير أو البيع المادي لأرشيف الصحف، إذ إنه أيضاً في العالم الرقمي تتعرض الصحف للقرصنة ومحو أرشيفات رقمية منها، وبخاصة في الدول التي تعاني من اضطرابات سياسية، فقد تم محو الكثير من الأرشيف الصحفي في بعض مناطق من آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، مثلما حدث لمجموعة من رؤساء التحرير الذين لم يجدوا مقالاتهم التي كتبوها في صحف محددة قد تم محوها من على الإنترنت.
لا يقتصر الأمر على الأسباب السياسية أو المادية، فهناك بعض الجرائم ارتكبت في الولايات المتحدة كان الهدف منها تدمير أرشيف صحيفة محلية، حيث اختفت مجموعة كبيرة من أعداد الصحف المتعلقة بتاريخ شارلوتسفيل من الإنترنت. وآلاف القصص التي نشرتها صحيفة هوك المحلية لم تعد موجودة، ومع ذلك استمرت أرشيفاتها على الإنترنت في إعلام المؤرخين والسكان والمسؤولين العموميين. وأي شخص يحاول قراءة القصص القديمة عن ملاحم المدينة الجامعية وفضائحها وجرائمها المتنوعة، يُستقبل برسالة الخطأ نفسها على الإنترنت: (آسف.. الصفحة لم تعد موجودة!)
من نواحٍ عديدة، فإن محو الصحيفة الأسبوعية البديلة، التي تضمنت صحافتها المطبوعة والإلكترونية أموراً مثل قوائم الحياة الليلية بالإضافة إلى العمل الاستقصائي العميق، ليس أمراً غير معتاد. لقد حذر المؤرخون منذ فترة طويلة من تدهور أرشيفات الأخبار الرقمية، التي تقع بشكل متزايد ضحية لسوء التعامل، واللامبالاة، والإفلاس، والأعطال الفنية. لكن بعض الصحفيين المؤسسين لـ(هوك) يشكون في أن الأرشيف لم تنتهي صلاحيته ببساطة، يعتقدون أن شخصاً ما دفع ثمن محوه.
أرشيف الإنترنت
منذ عدة سنوات استبدل أغلب الناس الصحف بمواقع الإنترنت الإخبارية، فيما تحاول الصحف بشكلها القديم جاهدة أن تبقى في ميدان الأخبار، لكن الإيجابي في الأمر أن الإنترنت أصبحت أرشيفاً لكل شيء، لكن من يريد الأرشيف، الحقيقة أن اختراع الأرشيف يشبه ما طرحناه منذ قليل حول فكرة العودة في الزمن إلى الوراء للتعرف على الحياة والأشخاص والأحداث التي تمت في زمن معين، و (آلة الزمن) التي تسمى (أرشيف الإنترنت) يمكن الوصول إليه في موقع مكتبة الإسكندرية للتعرف على كل ما نشر على الإنترنت من مواقع وصفحات منذ عام 1996 وحتى الآن، وقد تم استلهام هذا الاسم من عنوان رواية (آلة الزمن)‏، للكاتب ه. ج. ويلز والتي صدرت عام 1895.
المبادرات الفردية الرقمية للحفاظ على الأرشيف الصحفي
ثمة مبادرات لأفراد تتعلق بمجموعة من الأرشيفات العربية المتاحة على الإنترنت كأرشيف الشارخ الذي يؤرخ للصحافة الأدبية في العالم العربي، وهو من أبرز مبادرات الرقمنة العربية. ويقول الموقع عنه إنه المبادرة الأولى والوحيدة التي تركز على محتوى المجلات الأدبية، حيث توفر إمكانية الوصول عبر الإنترنت إلى محتوى 228 مجلة أدبية عربية، من 23 دولة عربية، يعود تاريخها إلى أوائل النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر حتى اللحظة الراهنة. ومن المجلات التي يحتويها أرشيف الشارخ مجلات النهضة العربية مثل المقتطف والمقتبس والهلال والأديب والأستاذ والمشرق والجامعة.. وغيرها. ومن بين مؤلفي المقالات الصحفية كتاب عرب بارزون مثل جرجي زيدان، وطه حسين، ويعقوب صروف، وحافظ إبراهيم، وألبرت أديب.. وغيرهم الكثير. وبصفة عامة يعد موقع أرشيف الشارخ سهل الاستخدام والتنقل. ويمكن للمستخدمين تصفح إصدارات المجلة أو البحث في فهارس البيانات الوصفية للمقالات. يتم عرض مقالات الدوريات كصور ولم يتم تحويلها إلى نصوص رقمية بسبب الصعوبات في التعرف الضوئي على الحروف باللغة العربية.
ومن المثير للغاية أن هناك أفراداً يحتفظون بأرشيفات صحف قديمة، مما دفع بعضهم لوضعها على الإنترنت مثل مدونة (التاريخ) التي تقدم الأعداد الأولى للأهرام وصحيفة كاملة صدرت في بداية القرن العشرين باسم كوكب أمريكا، وكذلك صحف من الدولة العثمانية هي (الاتحاد العثماني) و(العصر الجديد) و(البلاغ) و(جبل عامل) و(المقتبس).. وغيرها.

ذو صلة