يُعد الأرشيف الصحفي أحد أفضل المصادر اللازمة لفهم الماضي ومعرفة تاريخ الأوطان، فهو بمثابة آلة زمن قادرة على استدعاء قصص وتفاصيل ربما قد دخلت في طي النسيان. وعلى الرغم من أهميته في الحفاظ على ذاكرة الأمم، وتوثيق حياة شعوبها اليومية؛ يعاني أرشيف بعض الصحف من الإهمال الشديد بسبب ضعف البنيان المؤسسي وهشاشة التنظيم، الأمر الذي أدى إلى فقدان تلك المؤسسات العديد من موادها حتى وصل الأمر إلى أنها صارت تشتري موادّ كانت تمتلكها في فترة من الفترات.
تمتلك كل صحيفة أو مجلة مخزوناً هائلاً من المقالات المنشورة في مختلف المجالات كالأدب والشعر والنقد والسيرة وقراءة الكتب والحوارات.. وغيرها، وبالتالي من الأنسب للمؤسسات أن تحسن استغلال أرشيفها، وتستثمر فيه، الأمر الذي يمكِّنها من خلق قيمة مضافة وتحقيق عائد مادي، وهنا تجدر الإشارة إلى مؤسسة الأهرام التي تأتي على رأس المراكز الأرشيفية الموجودة في الشرق الأوسط، حيث يضم أرشيفها مواد صحفية تعود إلى ما يقرب من 150 عاماً، وكذلك أرشيف صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية الذي يغطي الفترة الزمنية الممتدة منذ صدور عددها الأول في 18 سبتمبر عام 1851 وحتى الآن.
الصحفيون والأرشيف
يعاني الأرشيف من إشكالية أعم وأشمل وهي تراجع أهميته لدى قطاع كبير من شباب الصحفيين، الأمر الذي يحتم بذل المزيد من الجهد لرفع درجة الوعي بقيمته والتعامل معه باعتباره مصدراً مهماً للمعلومات، لاسيما وأنه يقدم توثيقاً لحقب تاريخية متنوعة بمختلف جوانبها السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وبالتالي يمكن القول إنه كلما زاد عمر الصحيفة أو المجلة زادت قيمة أرشيفها.
في السياق نفسه، يُعد أرشيف الصحف مصدراً لا غنى عنه لإعداد قصص وموضوعات صحفية تعمل على ربط الماضي بالحاضر، أو تحاول استعادة لحظات تاريخية، أو تروي وتوثق سيراً ذاتية لشخصيات عامة أو رموز سياسية وفنية وثقافية. هذا بالإضافة إلى كونه مصدراً دقيقاً يمكن الاعتماد عليه للتأكد من مدى صحة القصص المفبركة المنتشرة اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي والتي تحتوي على فرقعات إعلامية لا علاقة لها بالسياق العام، وغير مستندة لمنهج بحث تاريخي معين، والجدير بالذكر أن غالبية تلك القصص تدور حول فكرة تشويه الرموز التاريخية، فعلى سبيل المثال، يتم تداول معلومات عبر مواقع التواصل الاجتماعي تفيد بأن هجوم (أحمد عرابي) على (الخديوي توفيق) كان مسرحية وأن ثورته لم تكتمل.
من أبرز الصحفيين الذين ارتبطت أسماؤهم مؤخراً بأرشيف الصحف، السيناريست المصري (محمد الشمَّاع)، الذي يَعتَبِر الأرشيف الصحفي بطلاً أساسيّاً لمعظم مؤلفاته، وعن أهمية الأرشيف الصحفي، يقول (الشمَّاع) في حوار أجرته معه (شبكة الصحفيين الدوليين) IJNET عام 2022: (بفضل الأرشيف عرفت أن مهندس إنشاء ملعب القاهرة الدولي هو نفسه مصمم ملعب ميونخ الأوليمبي، وأن منتج (زمباكولا) كان منافساً مصريّاً حقيقيّاً لمنتجات (بيبسي كولا) و(كوكاكولا)، وأن العديد من المشاهير وافقوا ذات يوم أن تُستخدم صورهم وأسماؤهم في إعلانات الصحف والمجلات القديمة لنوع من أنواع الصابون، ليس لشيء إلا لأنه كان يحمل اسم الملك فاروق).
بفضل الأرشيف الصحفي تمكَّن (الشمَّاع) من التطرق إلى موضوعات وقضايا وشخصيات وقصص تاريخية مثيرة وغير مألوفة، ففي عام 2020 أعد (الشمَّاع) قصة صحفية عن الفنانة (كيتي)، إحدى أبرز نجمات السينما المصرية في خمسينات القرن الماضي، بعنوان (رحلة البحث عن كيتي.. التاريخ المجهول لعفريتة السينما المصرية)، ولاقت استحساناً وتفاعلاً غير مسبوق من قبل الجماهير على مواقع التواصل الاجتماعي.
بالإضافة إلى ذلك، ألَّف (الشمَّاع) مجموعة من الكتب التاريخية مثل: (أيام الحرية) و(الشعب يبدي رأيه في كل ما حدث) و(حكايات من دفتر صلاح عيسى) و(السرايا الصفرا) و(المتمرد.. سيرة حياة عمر خيرت) و(الشوارع الخلفية) و(عبدالناصر.. طريق إلى ليلة الرحيل).
مبادرات ملهمة
إيماناً بقيمة الأرشيف الصحفي ودوره في حفظ التاريخ؛ ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الجهود الإقليمية والدولية -على المستويين الفردي والمؤسسي- في مجال التوثيق، والتي من شأنها أن تساهم في تشجيع المؤسسات الصحفية على أن تخطو خطواتها وتتجه نحو الاعتناء بأرشيفها والاستفادة منه.
ترتكز تلك المبادرات إلى فكرة (الإتاحة عبر الإنترنت) لضمان دقة وسهولة وصول المعلومات إلى المثقفين والباحثين، وكذلك الجمهور العام، وبخاصة أنه مع تطور الصحافة الإلكترونية، لم يعد الأرشيف يقتصر فقط على المادة الصحفية الورقية فحسب إنما امتد ليشمل أرشيفات خاصة بالفيديوهات والصور الفوتوغرافية والوثائق.. وغيرها.
أولاً: على المستوى الإقليمي
1 - أرشيف الصحافة المصرية بمكتبة الإسكندرية:
تم إطلاق هذا المشروع الرقمي في مايو 2015، ويُعد نتاجاً للتعاون بين مكتبة الإسكندرية، ومركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية (CEDEJ)، حيث يقدم للجمهور عبر الإنترنت 800 ألف مقال باللغات: العربية والإنجليزية والفرنسية، مأخوذة من 24 صحيفة (يومية وأسبوعية/ مصرية وعربية)، ويعود تاريخها للفترة الممتدة من سبعينات القرن الماضي وحتى عام 2010. بناءً على الموضوع، صُنفت المقالات 15 تصنيفاً، كما قُسمت الموضوعات إلى موضوعات أخرى فرعية بحيث تتيح للمستخدمين إمكانية متابعة التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري من مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
ذاكرة مصر وتوثيق تاريخ الصحافة
في السياق نفسه، حرصت مكتبة الإسكندرية على توثيق تاريخ الصحافة المصرية، وذلك ضمن موقع (ذاكرة مصر المعاصرة)، الذي تم إطلاقه في أكتوبر 2008 لتوثيق تاريخ مصر خلال الفترة الممتدة من عام 1805 وحتى عام 1981.
احتوى الموقع على أعداد كاملة من أبرز الصحف والمجلات التي صدرت في عهد (محمد علي باشا) وخلفائه، ومن أبرز تلك الإصدارات: صحيفة (الوقائع المصرية)، وصحيفة (أبو نظارة)، ومجلة (روضة المدارس)، ومجلة (يعسوب الطب)، وصحيفة (الأهرام)، وصحيفة (الكوكب الشرقي)، وصحيفة (البلاغ).. وغيرها.
إلى جانب ذلك، أصدرت مكتبة الإسكندرية ثلاثة كتب مصورة استعرضت خلالها تاريخ ثلاث مؤسسات صحفية مهمة، وهذه الكتب هي: (روزاليوسف.. 80 سنة صحافة)، و(أخبار اليوم.. مدرسة صحفية مصرية)، و(دار الهلال.. مدرسة التنوير).
ضمَّت تلك الكتب صوراً ووثائق نُشرت للمرة الأولى لمؤسسي تلك المؤسسات، وهم: السيدة (فاطمة اليوسف) (مؤسسة مجلة روزاليوسف)، و(علي أمين) و(مصطفى أمين) (مؤسسا أخبار اليوم)، و(جرجي زيدان) (مؤسس دار الهلال) وولداه (إيميل زيدان) و(شكري زيدان)، اللذان استكملا مشوار والدهما بعد رحيله.
أيضاً استعرضت الكتب المحطات المهمة في مسيرة عدد من أبرز كتابها وأعلامها أمثال: (محمد التابعي)، و(إحسان عبدالقدوس)، و(يوسف إدريس)، و(محمد حسنين هيكل)، و(كامل الشناوي).. وغيرهم، وذلك خلال ممارستهم لعملهم الصحفي أو أثناء لقاءاتهم مع القادة السياسيين، هذا بالإضافة إلى الأوراق والوثائق الخاصة بالتأسيس وتراخيص الإصدارات الأولى للمؤسسات الثلاث.
تناولت الكتب أبرز الإصدارات الصادرة عن تلك المؤسسات، والتي مازال بعضها يصدر حتى الآن، والبعض الآخر توقف عن الصدور مثل: مجلة (الجيل)، وملحق (أخبار اليوم المصورة)، وصحيفة (آخر لحظة) التي كانت تصدر عن دار أخبار اليوم، وكذلك مجلتي (الاثنين والدنيا)، و(كل شيء والدنيا)، اللتين كانتا تصدران عن دار الهلال.
خصصت الكتب قسماً خاصاً عن فن الكاريكاتير -أحد أبرز السمات المميزة للصحافة المصرية- حيث وثَّقت لتاريخ أبرز رسامي المؤسسات الثلاث، وشخصياتهم الكاريكاتيرية المميزة التي نجحوا من خلالها في تجسيد الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي المصري عبر حقب زمنية مختلفة، ومن أبرز هؤلاء الرسامين: (محمد عبدالمنعم رخا)، والرسام الأرمني (ألكسندر صاروخان)، و(صلاح جاهين)، و(جورج البهجوري)، و(مصطفى حسين)، و(عبدالسميع عبدالله).. وغيرهم.
2 - المكتبة الرقمية للجامعة الأمريكية بالقاهرة:
تمتلك الجامعة الأمريكية بالقاهرة، مكتبة رقمية للكتب النادرة والمجموعات الخاصة، تُطلق عليها اختصاراً اسم (RBSCDL). تم إطلاقها عام 2011، وهي محاولة لرقمنة الدوريات والمجموعات الخاصة التي تمتلكها الجامعة، وتضم مجموعة من أعداد قديمة لصحف ومجلات مصرية ناطقة باللغتين العربية والإنجليزية، من بينها: مجلتا (المصور)، و(بنت النيل). هذا بالإضافة إلى مجموعة ضخمة ونادرة من الصور القيمة التي ترصد أحياء مصر في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
3 - أرشيف الصحف العربية والأجنبية التابع لمكتبة الجامعة الأردنية
يضم مجموعة غنية من الصحف العربية والأجنبية منذ العام 1870وحتى عام 1999، بالإضافة إلى مجموعة من الوثائق والمخطوطات النادرة. تقدم المكتبة خدماتها للطلبة والباحثين والقراء، باستخدام أجهزة القراءة الخاصة بالميكروفيلم والميكروفيش، وتقدم خدمة الاستنساخ الورقي والإلكتروني مقابل دفع التكلفة.
4 - أرشيف (الشارخ):
هو جهد فردي استثنائي بدأه رجل الأعمال الكويتي (محمد الشارخ) عام 2016 لرقمنة المحتوى العربي، ويركز على المجلات الأدبية، حيث يتيح الوصول إلى 228 مجلة أدبية عربية، من بينها عدد كبير من المجلات المصرية المهمة التي تغطي فترات مختلفة، مثل: مجلات (إبداع) و(البيان) و(الأستاذ) و(أبوللو) و(الثقافة).. وغيرها، بالإضافة إلى أكثر من 1300 عدد من مجلة (الهلال)، تغطي الفترة الممتدة من عام 1892، وحتى عام 2007.
5 - مدونة (مجلات وصحف مصرية وعربية قديمة):
هي مدونة تنشر عبر صفحاتها مجموعة ضخمة لعدد من المجلات والصحف المصرية والعربية القديمة، ويمكن الاطلاع على الأعداد المتوافرة عن طريق التحميل، ومن بين المجلات المصرية التي تضمها المدونة: (المصور) و(الكواكب) و(اللطائف المصورة) و(الهلال) و(الاثنين والدنيا).. وغيرها.
6 - أرشيف مدونة (التاريخ):
هو أرشيف متاح على مدونة تحمل اسم (التاريخ)، يضم مجموعة أعداد متفرقة لصحف عربية، مرتبة حسب التاريخ، من بينها صحف مصرية مثل: (الأهرام) و(الأخبار) و(الجمهورية)، ويوجد منها أعداد سنوات كاملة.
7 - أرشيف الأهرام على موقع Archive.org:
يوفر الموقع مجموعة ضخمة من أعداد صحيفة (الأهرام) التي تغطي 35 عاماً كاملة لكنها غير متتالية، بعضها سنوات في القرن التاسع عشر والبعض الآخر في القرن العشرين. وفقاً لبعض المصادر، تعود ملكية النسخة المعروضة على الموقع إلى المكتبة الرقمية لإحدى الجامعات العربية.
8 - أرشيف (دليل الدوريات العربية المجانية):
هو دليل إلكتروني يحصر الدوريات العلمية المحكمة الصادرة في الوطن العربي والمتاحة عبر الإنترنت في مختلف التخصصات العلمية، وهو عبارة عن مبادرة شخصية من الدكتورة (غدير مجدي عبدالوهاب)، تنفيذاً للنتائج التي توصلت إليها خلال رسالة الماجستير الخاصة بها، وللدليل رقم إيداع بدار الكتب والوثائق القومية المصرية.
9 - أرشيف (محمد علي الطاهر):
هو أرشيف صحفي، مملوك لموقع الصحفي الفلسطيني (محمد علي الطاهر)، ويتضمن كامل أعداد الصحف الثلاث التي أصدرها (الطاهر) في مصر، مثل: صحيفة (الشورى) وتتضمن كامل أعداد صدورها من عام 1924 حتى عام 1931، وصحيفة (الشباب) التي صدرت بين عامي 1937 و1939، وأخيراً صحيفة (العَلم) التي صدرت في أبريل 1939، وتوقفت في أغسطس من العام ذاته، بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ثانياً: على المستوى الدولي
لم تقتصر تلك المبادرات على المنطقة العربية فحسب؛ إنما ظهرت جهود أرشيفية لمؤسسات أجنبية ضمت أعداداً ضخمة من الصحف والمجلات المصرية والعربية، منها ما يلي:
1 - أرشيف معهد (الدراسات الشرقية والآسيوية):
هو مشروع خاص بمعهد الدراسات الشرقية والآسيوية في جامعة (بون) الألمانية، ويتضمن عدداً من الدوريات العربية والفارسية والتركية، الصادرة في الفترة بين 1860 و1945. ويحتوي الأرشيف على أعداد مجموعة من الدوريات المصرية مثل: (أبوللو) و(الأهالي) و(البيان).. وغيرها.
2 - أرشيف الصحافة العالمية:
هو أرشيف رقمي ضخم لعدد كبير من الصحف حول العالم، مملوك لشركة أمريكية تحمل اسم (East View). يضم الأرشيف نسخاً رقمية لعدد من الصحف والمجلات الصادرة في أكثر من 30 دولة موزعة على مناطق: روسيا وأوروبا الشرقية وآسيا والشرق الأوسط. ويتيح الأرشيف الاطلاع على المحتوى بشكل مجاني لبعض الصحف، وبشكل مدفوع (شهري أو سنوي) لصحف أخرى نادرة.
يضم الأرشيف أعداداً لأكثر من 80 صحيفة صادرة في الشرق الأوسط، من بينها 9 صحف مصرية، هي: (الأهرام) و(الجمهورية) و(البلاغ) و(المقطم) و(المصري) و(المؤيد) و(الشعب) و(العلم) و(مصر الفتاة) و(الأهالي)، وجميعها متاحة بالمجان باستثناء أرشيفي: (الأهرام) و(الجمهورية). أيضاً يضم الأرشيف أعداداً لصحف عربية أخرى من الجزائر والعراق وفلسطين والأردن ولبنان والمغرب والسعودية وسوريا.
ختاماً وفي ضوء ما سبق ذكره، يمكن القول إن الأرشيف الصحفي هو الوسيلة المثلى لحفظ التاريخ الأمر الذي يحتِّم على المؤسسات الاتجاه قدماً نحو مضاعفة جهود الاعتناء به، والتنسيق فيما بينها لإعداد أرشيف صحفي رقمي شامل قادر على إحياء ذاكرة الأمم وإنقاذها من الفقدان.