مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

دار الوثائق المركزية بالخرطوم.. تاريخ مهدد بالفناء

يُعد الأرشيف الصحفي أحد أفضل المصادر اللازمة لفهم الماضي ومعرفة تاريخ الأوطان، فهو بمثابة آلة زمن قادرة على استدعاء قصص وتفاصيل ربما قد دخلت في طي النسيان. وعلى الرغم من أهميته في الحفاظ على ذاكرة الأمم، وتوثيق حياة شعوبها اليومية؛ يعاني أرشيف بعض الصحف من الإهمال الشديد بسبب ضعف البنيان المؤسسي وهشاشة التنظيم، الأمر الذي أدى إلى فقدان تلك المؤسسات العديد من موادها حتى وصل الأمر إلى أنها صارت تشتري موادّ كانت تمتلكها في فترة من الفترات.
تجارب عديدة خضتها في دار الوثائق في عملي الصحفي، لكأن الأبواب المشرعة والقلوب المفتوحة من العالمين بالدار تشير إلى أول لبنة في معرفة كيفية الأرشفة، وعلم المخطوطات والمكتبات.
ظل سؤال أرشفة دار الوثائق إلكترونياً مطروحاً منذ ثمانينات القرن العشرين لما تحتويه من كنوز قل مثيلها في مكان آخر، كل أرشيف الإدارة البريطانية ومحفوظاتها ووثائقها وخرائطها. ذات يوم حلت بعثة مصرية برئاسة المؤرخ المصري الراحل يونان رزق لبيب ضيفة على دار الوثائق المركزية بالعاصمة السودانية الخرطوم لتبحث عما يثبت مصرية منطقة طابا وقضية التنازع حولها مع إسرائيل، وكانت دار الوثائق السودانية قد حفظت كل أرشيف الإدارة البريطانية، بما فيها خارطة مصر الجغرافية، وقد أوضح المؤرخ المصري الراحل يونان رزق لبيب ما قدمته دار الوثائق المركزية بالخرطوم من خدمة جليلة تمثلت في خارطة تثبت مصرية طابا.
تحوي دار الوثائق المركزية في داخلها كل تاريخ الشعب السوداني، ممثلاً في تغطية الصحف لقرن من الزمان بكل نتاجات العقل السياسي والفكري السوداني وتاريخ كل أحداث البلد من بداية القرن، وتأثير هذا الأرشيف الكبير في حفظ ذاكرة شعب وإبداعاته. ولعل سؤال التاريخ والموروث المحفوظ في تلك الدار العريقة يحيلنا إلى سؤال المصير لهذا الأرشيف الوطني المهم وحفظ تراث ضخم، لا يمكن بأي حال من الأحوال نسيان أهوال الحرب وأن الدار في مرمى النيران، وقد تحول سؤال أرشفتها إلكترونياً الآن إلى سؤال كيفية المحافظة على هذا الكم الهائل من المعرفة التي لا تقدر بثمن.
كل قوانين السودان ومداولات البرلمان وبيانات بداية العهود الوطنية والانتقال من مرحلة زمنية إلى أخرى موثقة في ذلك الأرشيف، إذ تمثل دار الوثائق المركزية البوابة الأولى والأخيرة على امتداد تاريخ الكتابة التاريخية في السودان. كما أن الأرشيف الثقافي المتمثل في الصفحات والملفات الثقافية، هو الرافد لكل الدراسات، والبحوث الثقافية وارتباط أسماء كبيرة في تاريخ الثقافة السودانية بالملفات الثقافية، مثل الدكتور محمد عبدالحي، والدكتور علي المك، ويوسف عيدابي، وعيسى الحلو، ومجذوب عيدروس. في أرشيف الملفات الثقافية ابتدأت قصيدة النثر ونثرت البدايات الأولى لمعاركها في سبيل التعريف بها، ودارت معارك نقدية حول الشعر والرواية والقصة القصيرة والبنيوية والشكلانيين الروس والشعر الحر ومدارسه الغربية وحضورها في الساحة الثقافية.
الصورة
أرشيف وزارة الثقافة السودانية، وريثة هيئة الاستعلامات، احتوى على صور فوتوغرافية مثلت حقباً سياسية منذ عشرات السنين، بل إن هذا الأرشيف الضخم قبل أن تحيط به عاديات الزمان يعد من الأراشيف النادرة في العالم الثالث، ومع البيروقراطية والإهمال تسربت الصور إلى مواقع أجنبية احتكرت الصور بدون معرفة كيفية خروج البرنامج للتوثيق للصورة التاريخية، وهو سؤال عن ضياع أرشيف كان متاحاً للصحافي تماماً، مثل دار الوثائق المركزية.
حفظ الكنوز
أرشفة الصحف السودانية في السنوات الأخيرة تطورت كثيراً بفضل التكنولوجيا، وأصبحت المقالات والدراسات والحوارات محفوظة من قبل الكاتب أو المحرر أو من خلال نشر الصحف في الشبكة العنكبوتية، وتحولت الأرشفة من أبواب الإهمال العام من الدولة إلى الفرد وكيفية حفاظه على أرشيفه الصحفي، وما بين إهمال وضياع الذواكر الشخصية يأتي التذكير بأهمية الحفاظ على أرشيف الصحافة من خلال تغيير الآليات القديمة، وزيادة على ذلك طبع المخزون الوافر والإرث الطيب في كتب تأخذ سمة (الحوليات)، وتتخذ من المقالات والتقارير والحوارات ميداناً واسعاً لإعادة الذاكرة الجمعية، وتوطين ثقافة وفن وفكر الأوطان في أفئدة الأجيال الجديدة.
ثمة ما هو جدير بالذكر وهو تجربة دور صحف سودانية بنشر ما تم نشره على صفحاتها من قبل وإتاحته للباحثين، وتجربة مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي بأمدرمان وإعادة نشره لكل ما كتبه الراحل الطيب صالح من مقالات في مجلة المجلة وصحف أخرى، وقد كان من الأمنيات أن نرى كل ما كتب المرء في نصف قرن وقد احتوته كتب وحفظته للأبناء والأحفاد زاداً ثقافياً ومعرفياً تقرأ في ثناياه محطات العمر.
ولا بد فى الخاتمة من الإشارة للدور الذى يقوم به أرشيف الشارخ للمجلات الأدبية والثقافية العربية من حفظ وتوثيق للتراث المدون، وأيضاً إلى الدور الذي تقوم به دار الوثائق فى إمارة الشارقة والتى تتبع المعايير العلمية العالمية فى حفظ الوثائق وأرشفتها لحفظ التاريخ وتوفير ما يلزم للباحثين والدارسين فى شتى المجالات. وتجلت محاولة رقمنة الصحف السودانية المحفوظة بدار الوثائق في عهد البروفسير كبشور كوكو وكان مشروعاً محفزاً لبقية المؤسسات الحكومية لتحويل مقتنياتها من ورقية إلى إلكترونية متاحة للجميع، ولكن لم يكتمل المشروع بسبب الإمكانيات ولكنها كانت بادرة جيدة تستحق الثناء.
وتبقى الأمنيات ألا تدمر الحرب الدائرة الآن في السودان كل ما تحتويه دار الوثائق المركزية بالخرطوم من مخطوطات وتراث تراكمي هائل على مدى سنوات طويلة. خصوصاً وكما سبق أن ذكرت أن موقع الدار في المنطقة المشتعلة.

ذو صلة