مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

أرشيف الصحف.. لكي لا نكون أمة بلا تاريخ

عندما نزل الملك جبريل عليه السلام، أول مرة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كلمه قائلاً: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني. فقال: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم).
نزَّل الله تعالى على نبيه الكريم أول ما نزَّل أمر القراءة (اقرأ)، فصار الأمر الرباني نهجاً للصحابة والتابعين، يتبعونه بعلم (القلم) تدويناً وحفظاً لآي الذكر الحكيم.
(الأرشيف) يقوم على الكتابة والحفظ، واتخذ الصحابة هذا الفتح الرباني على البشر، منهجاً في جمع وكتابة القرآن، وتبعهم التابعون في تدوين الأحاديث، بدءاً بالإمام مالك في (الموطأ) والشيخين في (صحيح البخاري ومسلم). فصار النموذج الإسلامي يُحتذى به من أهل الأرض أجمعين. كيف لا ورب العزة يقول (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) وفسره ابن كثير أنه (لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب وحافتاه الدر والياقوت ودفتاه ياقوتة حمراء وقلمه نور وكلامه معقود بالعرش وأصله في حجر ملك).
نخلص من هذه المقدمة أن لا دين بلا حفظ، ولا تاريخ بلا حفظ، ولا علم بلا حفظ؛ بالقلم والكتاب.
اليوم نناقش أرشيف الصحافة العربية، التي تعد ذاكرة الشعوب، تحفظ تفاصيل حياتهم الثقافية والفكرية والفنية والأدبية والسياسية، وخلافاتهم وصراعاتهم وحروبهم.
يقول التاريخ إنّ أول صحيفة عربية في الشرق الأوسط كانت صحيفة الوقائع المصرية التي تأسست عام 1828م بأمر من محمد علي باشا في القاهرة. كذلك نجد الجرائد الرسمية للدول، إذ لا تعد قرارات ومراسيم الدولة نافذة قانونياً ما لم تُنشر فيها.
سنة الحياة ودورتها تجعل لكل شيء بداية ونهاية، فطوال القرنين الماضيين ولدت آلاف الصحف وماتت مثلها. بعضها نجد أرشيفها كاملاً غير منقوص، ففي الصحف العالمية نجد أمثلة فريدة لحفظ الأرشيف، مثل: (الغارديان، التايم، الواشنطن بوست، نيويورك تايمز، وول إستريت جورنال، الأوبزرفر واليو إس أيه توداي، ولوس أنجلس تايمز ولوموند وبيلد). ولدى العرب، مثل: (الرسالة المصرية والبلاد السعودية)، وأكثرها اندثر للأسف، لعوامل عديدة، منها إهمال المُلاك وعدم وجود الوعي بقيمتها التاريخية.
مؤخراً، بعد انفجار ثورة التكنولوجيا والمعلومات، أصبح الأرشيف وتبويبه وحفظه أكثر سهولةً، من خلال حفظها على المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي و(السيرفرات) الرقمية.
فنجد نماذج لصحف عربية تهتم بالأرشيف الورقي والإلكتروني مثل (المجلة العربية والشرق الأوسط وعكاظ - السعودية، السوداني والجريدة والتيار - السودانية، والأهرام واليوم السابع والوطن - المصرية، الأنباء - الكويتية، الأخبار - اللبنانية، الخبر - الجزائرية ...إلخ).
يعتمد المُؤرِّخون دوماً في عملية جمع المادة التاريخية على المراجع العامة والخاصة والمطبوعات والمخطوطات، والآثار والمخلفات التي تتعلّق بموضوع بحوثهم. وصار أرشيف الصحف منارةً تضيء طريقهم وتبصرهم بالتفاصيل المهمة للحقب التي شهدت ولادة الصحف.
وبحسب كبار المُؤرِّخين، توجد قاعدة مهمة، وهي أنّ عدم الاستفادة مما كتبه السابقون يعتبر مضيعةً للوقت وإخلالاً بشروط البحث العلمي؛ فينبغي على كل جيل من المُؤرِّخين أن يعرف ما كتبه السابقون، وأن يبدأ حيث انتهوا، وأن يعمل مُؤرِّخ اليوم لكي يُمهِّد لمُؤرِّخ الغد.
تقنيات أرشيف الصحف
تقدم شبكة الصحفيين الدوليين أحدث النصائح والاتجاهات وفرص التدريب للصحفيين، حول أهمية مكتبة الأرشيف. وتقول الشبكة، إن مكتبة الأرشيف هي عبارة عن مجموعة تتضمن كل الأخبار التي كانت قد نشرت عبر صحيفتك، وتعتبر مرجعاً مهماً يمكن العودة إليه وقت الحاجة. إلا أن مكتبة الأخبار المؤرشفة تختلف عن المجموعة المتضمنة كافة الأعداد الصادرة سابقاً عن صحيفة ما. في مكتبة الأرشيف يتم اقتطاع أجزاء من مقالات أو أخبار معينة في الصحيفة وتصنف أبجدياً بحسب اسم كل مقالة وعنوانها في ملفات خاصة، كل ملف من هذه الملفات يتضمن كل المقالات والأخبار التي نشرتها الصحيفة عن شخص أو موضوع محدد.
وتشدد الشبكة على ضرورة أن تحتوي أي صحيفة على مكتبة أرشيف للأخبار التي تم نشرها لديها؛ لأن أغلب هذه الأخبار تكون في الواقع جزءاً من سلسلة أحداث متتابعة ومكملة لنفس الخبر. ومن أجل كتابة الأخبار بشكل جيد في أيامنا هذه ينبغي على كل صحفي أن يفهم كل ما حدث سابقاً وما هي الأحداث التي أودت بالنهاية للوصول إلى الخبر الذي يتعامل معه اليوم، وبالتالي لفهم السبب الذي لأجله حدث هذا الخبر. إن توثيقاً كهذا يعتبر مفيداً بشكل خاص للصحفي الذي يخطط لخبطة صحفية، وهو مفيد أيضاً للصحفي الذي يخطط لإجراء مقابلة مع شخص لم يسبق له أن حاوره من قبل، وهو مفيد عندما يحضر مراسل ما مؤتمراً صحفياً يعالج موضوعاً غير مألوف بالنسبة له أو لها. إن الأرشيف هو مصدر سهل الاستخدام للحصول على المعلومات، وبنفس الوقت يسرع تنفيذ المهمة لكونه يختصر الوقت المستغرق لإيجاد الأخبار الماضية، ويقلل أيضاً من ضرورة التدقيق في كل صفحة وكل إصدار لأسابيع بل ربما لشهور من أجل الوصول إلى معلومة معينة.
مثال حي من أرض الواقع
عندما أتاحت لي الغراء (المجلة العربية) الكتابة حول موضوع أرشيف الصحف، صادف ذلك هماً ينهش أفكار الصحفيين والمثقفين المُؤرِّخين السودانيين، إذ صار مصير دار الوثائق السودانية في علم الغيب، عقب اندلاع الحرب في السودان، فهي الدار التي تحوي تاريخ وثائق السودان ومخطوطاته منذ الثورة المهدية، كما تحوي جميع أرشيف الصحف السودانية منذ ولادتها قبل مئة عام. وتعد الدار قبلةً لأهل الفكر والثقافة والباحثين.
الجميع يتمنّى ألا يكون قد تم استهدافها من قِبل مليشيا الدعم السريع مثلما استهدفت المتاحف في الخرطوم ومختلف الجامعات السودانية.
كذلك القصف الذي دمر وحرق بعض مقار الصحف السودانية، حيث تحتفظ بأرشيفها الورقي و(سيرفراتها) الإلكترونية فيها، يُعد كارثة كُبرى.
هذا الهاجس يفتح أبواباً للنقاش حول ضرورة حفظ هذه الوثائق بأرشيف إلكتروني محفوظ في سيرفرات عالمية عديدة لا يطالها الدمار البشري أو التهكير الإسفيري.
حفظ أرشيف الصحف بصورة آمنة، بات ضرورة ملحة يتطلب دعم الحكومات، فالتاريخ يعتبر هوية لكل الشعب، والأمم التي لا تهتم بتاريخها أمة بلا هوية، والأمة بلا هوية يطمس تاريخها، فهناك العديد من الحضارات سادت ثم بادت، ولا يعلم عنها أحدٌ شيئاً.

ذو صلة