مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

حوار مع عمي

لأني بالأمس تفرّجت على فيلم رعب اسمه (The Hell)، كوبستُ في منامي، قُتِلتُ مرتين، وكنت أتحدث مع القاتل بإنجليزية طليقة، وبقيت أنجو من معركة لأدخل خائفاً في أخرى، ولم ينقذني من الكابوس سوى عمي. فعندما سمعته يصرخ: (سافل.. أنت سافل وكذّاب)، استيقظتُ مرعوباً أحسبه يخاطبني، فرأيته يقتعد الفراش الذي تعده له عمتي، وقد أزاح الستارة قليلاً ليسمح بضوء ما قبل الشروق أن يتسلل، فحين فتحتُ عينيّ بصعوبة والضوء يأتي إليهما اكتشفت أنّ المخاطَب شخص ثالث في الغرفة خرج من خيال عمي وبدأ يُضايقه.
بَدَت كلمات الرجل مستفزِّة، جعلت عمي يهدّده بعصاه، ويقسم على قتله، رفعها شاهراً إياها إلى الأمام وعيناه جديتان تؤكدان ترهيبه للشخص الذي بقي يوجه له التُّهم كما أظنُّ. همس له عمي باستياء بأن الشيب سنة الحياة، ولا أحد سيظل في المعمورة طول حياته شباباً، فكل من فيها راحل ولا مجال للعودة إلى مرحلة الشباب أو عيش حياة جديدة، ظل يوجّه المواعظ له حتى ظننت أن هناك شخصاً حقيقياً بالفعل.
ارتعشَتْ يداه منفعلتين، وصار صوته أكثر غضباً وهو يردد: (سأحضر السكّين وأقتلك)، تقول عمتي بأنه أصيب بالصمم قبل خمسة وعشرين سنة، أيْ قبل مَولدي بعامين، على إثر انفجار برميل من المواد المحترقة، حاول فكّه فانفجر ليفقده سمعه، ومن حينها وهو يفكر بصوت عالٍ ليصبح الفرد الوحيد في العائلة الذي لا يملك أسراراً. خجلتُ من نفسي رغم فضولي وهممتُ بالنهوض، لأترك له بعض الخصوصية، فخشيتُ أن يعرف أني كنت أتنصَّت عليه ويفرغ غضبه علي.
سمعته يمتنع عن فعل شيء لا أعرف ما هو، واسترقتُ من تحت البطانية نظرةً في عينيه العسليتين اللتين حوَّلهما الزمن إلى مرهقتين، ثم قلتُ في نفسي ضاحكاً لو كنت أملك عينَيْ عمي لأوقعت العديد من الفتيات في حبي، فهو الذي يملك شخصية جَذَّابة يُشاع عنه عشقه للكثير من النساء. لكن حتى لو ورثتُ عينيه لا يمكن أن أقدر على الكلام مثله، أو آخذ شجاعته، أخبرني أكثر من صديق له أنه كان شجاعاً، ربما هذا الشجاع نفسه من يخاطبه الآن بعد أن تحول جسده إلى شايب خائر القوى. عزمتُ مقاطعته وما إن أوشكتُ التلويح له.. رأيته يبتسم.
حسبما بدا لي كان قد اتفق هو والشاب، وهو يسأل الشاب: هل تتذكر؟! مضى يهز رأسه مسروراً ليروي القصة الجميلة التي حكاها لي من قبل عن الوردة التي أهداها يوماً لإحدى عشيقاته. قالت له يومها إنها تحب الورد الصناعي. وحين سألها لماذا، أجابته: لأنه لا يذبل. فأقنعها بقوله: جمال الورد في ذبوله. ومضى يورد لها الكثير من الأمثلة كغياب الأحبة الذين يزيد الغياب من الشوق لهم، وتكرار رؤية الشيء يفقده جمال الغياب.
دخلتْ عمتي (كَيكَه) إلى الغرفة عابسة الوجه، دون النظارة التي تعتاد ارتداءها، فأنزل عمي عصاه وفز كأنه شعر بوخزة. طَرَحت له الأكل، بيض مقلي يفضّله عمي أن يوضع كما هو على النار دون خلط الصفار مع البياض ويُسمِّي هذه الوجبة: (بيض سادة)، لمحتني عمتي بعينيَّ الذاعنتين، ثم ابتسَمتْ لي بِحب وأخبرتني ما إن كنتُ أريد إفطاراً فأجبُتها بالنفي. التفتنا إلى عمي حين صرخ: أين البُنّ يا حُرمة؟!
أشارت عمتي باستياء تجاه المطبخ، وفَهم أنه ما زال على النّار. ورد لها غاضباً: استعجلي.
حين مضت، استرسلَ عمي مجدداً مع الشاب وفتح عينيه المرعوبتين أمامه، وضرب بعصاه في الهواء. أزاح بيده الفطور جانباً وقال غاضباً: لا أريد أكل، خذه أنت واشبع به. ثم ألقى جسده على الفراش واضعاً ظهر ساعده على جبهته. السَّاعد الذي قال لي عنه كيف أمضى معه أكثر من ثلاثين سنة في مهنة الطَّبخ، وحين يتحدث عن المطاعم يدعوني إلى النظر في ترهل هذا الساعد وكيف غيَّر الزمن جلده إلى أعجوبة. مضت خمس دقائق قبل أن يستيقظ، ليعاود حواره مع الشاب مجدداً ولكن بهدوء.
حين لاحظ أن القهوة تأخرت نهض بصعوبة متكئاً على الجدار ومضى على هذا الحال إلى المطبخ، سمعتُ ضجيج الصحون، وصخبها وإناء زجاجي يتحطّم وأيضاً صراخ عمتي، وبعد دقائق عاد ومعه البُنّ. جلس على حافة الفراش ورائحة عطره (العُوْد) تتسلل إلى أنفي وتملأ الغرفة لتحولها إلى معبد هندي، يضعه على ثوبه يوم الجمعة وتظل الرائحة أسبوعاً كاملاً، نهضتُ جالساً، ومضيت أحدق به بهدوء، راقبته، لكنه لم يحرك ساكناً، مضى يرتشف قهوته بكل راحة، وهو يحدق فيّ، رفع الراديو إلى أذنه اليسرى التي يسمع بها قليلاً، رفع الصوت إلى درجة جميع من في الحارة يسمعون إذاعة بي بي سي الصباحية، (هنا لندن)، شتم المذيعة التي ابتدأت بأخبار عن انهيار اقتصادي حيث تلك الأخبار لا تعجبه، ثم نظر إلى الرواق الذي يؤدي إلى المطبخ ونظرتُ معه متسائلاً: أين أختفى الشاب الذي أوشكت أن أقتنع بوجوده؟ هل قَتَلهُ في المطبخ؟!

ذو صلة