مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

فريد

فريد يجتمع في كل يوم من الصباح حتى آخر الليل في أيام العطل الصيفية الطويلة مع رفاقه. كان جيلهم يقهر الفراغ، وكان الفراغ يقهر ساعات شبابهم. لم يكن لديهم مشاريع سياحة صيفية أو ما يُسمى برنامج الترويح السياحي، كما هو عليه الآن مع حياة هذا الجيل، كانوا يصرفون جل ساعات أيامهم سياحة بين الشوارع والعواير، أو في بيوت أحد منهم.
لم يكن الأكل مكلفاً لهم، فهو قوت القناعة، أي زاد يقدم لهم مقبول بدرجة الامتياز، ليس للرفض مكان في جهازهم الهضمي، من حيث التنويع ومن حيث الكميات. هم ثلاثة أصحاب، كل منهم يحب هذا المجموعة، محبة أخوة، محبة صحبة، محبة جوار في الحي الواحد، إنهم متعاهدون فيما بينهم على الوفاء بهذه العلاقة التي نشأت وترعرعت بينهم منذ طفولتهم، كجنين خرج من رحم أمه.
وفي يوم من الأيام، اكتشفوا (خربة) مهجورة، ليست بعيدة عن بيوتهم، هي مغلقة من الخارج، لا تعرف الخُطوات طريقاً لمخدعها، ليس بها أقفال من الخارج، أبوابها مغلقة من الداخل بإحكام، بابها الخشبي ظهرت عليه علامات التآكل، وطغت عليه ملامح الكهولة، فكل مساميره متأكسدة، وعند مدخل الباب من الخارج كومة من التراب تلاعبت بذراته خلايا النمل الأسود، كدليل واضح جداً على عدم اقتحام هذا الباب منذ أمد بعيد.
قرر الثلاثة فيما بينهم اقتحام هذا اللغز والتعرف على هوية هذه الخربة، ولن يتمكنوا من الدخول عن طريق، بل إنهم سيتسلقون الجدار المتساقط بعض أجزائه الهشة، الذي يرتفع دون الثلاثة أمتار عن منسوب الشارع الضيق.
وفعلاً تم لهم ما أرادوا، فتسلقوا الجدار واحداً تلو الآخر، وهبطوا في باحة الخربة، فتصدت لهم قطة ضخمة ظهرت عليها التخمة والرفاهية والترف، انفردت في باحة الخربة وتملكت المنطقة بمفردها، فوضعت صغارها الأربعة بكل حرية.
حاولوا نهرها لتبتعد عن طريقهم، مرات ومرات، لكنها أبت وأصرت على مهاجمتهم والتصدي لهم والدفاع عن مقدساتها الوطنية، فقذفها أحدهم بحجر كبير وقع على ظهرها، فعرفت مصيرها، فسحبت قواتها ذليلة تجر ذيول الهزيمة من أمامهم وتبعها فريقها المكون من أربعة مقاتلين صغار لم يبلغوا الحلم.
شاهدوا حنفية في وسط الباحة ومجموعة من القدور والصحون والملاعق التي امتلأت تراباً وصدأ، تفوح منها رائحة عواصف التاريخ، فجأة هجمت عليهم كلبة مسعورة، فنهشت ثوب أحدهم بعدما رمته على الأرض، فلم يجدوا أمامهم غير قتالها بضراوة فرفع أحدهم أحد القدور المهملة فضربها بقوة، فدارت حرب طاحنة بينهم وبين الكلبة، أدت في نهايتها لقتلها وتيتم صغارها الثلاثة.
الخربة مكونة من باحة ومطبخ وجاخور مهجور خال من الحيوانات ما عدا تلك الكلبة المسعورة التي وضعت صغارها به، وغرفة مغلقة بإحكام من الخارج بقفل وسلسلة صدئة، حاولوا فتح بابها، فلم يتمكنوا من فتحه، حاولوا كسر الباب فلم يتمكنوا من كسره.
أخيراً قرروا العودة في الغد على أن يجلبوا معهم لوازم لفتح الباب، فخرجوا من الخربة بنفس الطريقة التي اقتحموها.
فريد لم ينم طوال الليل، شاهد أشباحاً مجنحة تخرج من تلك الغرفة التي شاهدها في الخربة، وسمع أصواتاً مخيفة تستنجد بهم، تنادي بأسمائهم اسماً اسماً.
في الصباح الباكر أخبر أصدقاءه بمشاهدته ليلة البارحة، فضحكوا منها ومنه كذلك، بل زادتهم رؤية مشاهده إصراراً على الذهاب للخربة مرة أخرى وفتح تلك الغرفة المهجورة، فتسلقوا الجدار للمرة الثانية، فرأتهم (القطة) فلم تعترض طريقهم، لقد استوعبت درس الأمس جيداً، بل أخذوا معهم لها ولصغار الكلبة شيئاً من الطعام وقربة ماء.
وكسروا قفل باب الغرفة بمعداتهم واقتحموا الغرفة المظلمة، لم يتمكنوا من رؤية ما بداخلها لشدة الظلام المتخمر بداخلها ولشدة الروائح الكريهة المنبعثة منها.
حاول أحدهم الدخول، فنهروه وطلبوا منه عدم المجازفة، فعليه ألا يدخل بغير إضاءة، فتبــرع أحدهـم لإحضار سراج من بيتهــم.
وأضاؤوا السراج ودخلوا معاً للغرفة المهجورة، بقدم واحدة، فشاهدوا دولاباً مغلقاً ومجموعة من الثياب المعلقة، وسريراً ومدفأة تعمل بالكيروسين في وسط الغرفة، وصندوقاً في إحدى زوايا الغرفة، وفي أحد أركانها مجموعة من الصناديق الكرتونية المرصوصة بعناية فائقة جداً، والتراب عصفت رائحته فوق كل شيء في الغرفة.
تقاسموا النظرات فيما بينهم بصمت مطبق ينتابه الخوف والشعور بالرهبة.
أحدهم تجرأ ففتح الدولاب، فقفزت فأرة مذعورة سببت لهم ذعراً شديداً، وشاهدوا بداخل هذا الدولاب مجموعة من الثياب، ووجدوا صندوقاً صغيراً به نقود لم يتمكنوا من عدها، كم هي؟
فاتجهوا للثياب المعلقة، فوجدوا بداخل أحدها محفظة وبداخلها نقود كذلك، وذهبوا للسرير فرفعوا غطاءً فوق الفراش فتخرعوا من المنظر وركضوا مسرعين لتسلق جدار الخربة للخروج منها، كل منهم يلهث، كل منهم نسي صاحبه، كل منهم يردد: هيكل عظمي لإنسان! هيكل عظمي لإنسان! كل منهم يصرخ بأعلى صوته: (هل رأيت؟! هل رأيت؟! هل رأيت يا فريد؟!).
يا فريد انهض.. انهض.. لقد تأخرت عن دوام المدرسة، تعوذ من الشيطان من هذه الأحلام المزعجة.. (قالت له أمه).

ذو صلة