مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

المجلة العربية.. التثقيف المستدام

الثقافة روح الأمة والعنوان الحقيقي لهويتها، ولكل هوية جوهر أساسي معبر عنها قادر على تشكيل القيم العليا وعلى رأسها العراقة والأصالة والإبداع الإنساني.
والمجلات الثقافية بهذا المعنى أحد أهم بوابات الثقافة؛ لأن لديها القدرة على التثقيف المستدام، بما تقدمه من محتوى نوعي ومواكب، بغض النظر عن القوالب الفنية أو أشكال تدوير المحتوى.
تاريخياً ارتبطت المجلات الثقافية المعاصرة بعصر التنوير، خصوصاً في الثقافة الغربية، ثم في التلقي العربي لها. وإن كنا نستطيع أن نعثر على جذور (التثقيف) الذي تقدمه المجلات في تراثنا العربي والإسلامي في الخلاصات والكناشات والأضابير؛ إلا إن المجلة بمعناها الحديث ارتبطت بمسارات الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي، ودلالة صحية على الثقافة ليس على مستوى الأفكار، وإنما السلوك للمجتمعات وطرائق تجسيدها للقيم واللغة والمبادئ وتفاعلها مع ذاتها.
المجلات الثقافية كانت المنتج الأول في بدايات التنوير على مستوى العالم، حيث بدأت في أوروبا خلال عصر النهضة، فكانت تمثل منبراً للنقاشات الفلسفية والأدبية. ومن أبرزها مجلة The Spectator التي أُسست عام 1711م في إنجلترا، والتي لعبت دوراً كبيراً في تشكيل الرأي العام الثقافي.
في العالم العربي، ظهرت مجلات ثقافية رائدة مثل الهلال في مصر عام 1892م، والتي قدمت منصة للتنوير الفكري والاجتماعي. هذه المجلات ساهمت في رفع مستوى الوعي الثقافي، وشكلت حلقة وصل بين المثقفين والجمهور.
ساهمت المجلات الثقافية في تشكيل الحركات الفكرية والأدبية والفنية، من عصر التنوير إلى العصر الرقمي، ولها تأثير عميق على المجتمعات عبر القرون.
ولم تكن المملكة العربية السعودية بعيدة عن هذا المناخ المعني بفعل التثقيف، من خلال استمرار المجلات الثقافية التي سبقت لحظة التوحيد العظيمة، أو تدشين مشاريع جديدة كان من أهمها (المجلة العربية). وهي مجلة استطاعت منذ نشأتها في منتصف السبعينات أن تتصدر، وفقاً لعدد كبير من الدراسات؛ المراتب الأولى على مستوى أهم المجلات العربية، مع مجلة الهلال المصرية، والعربي الكويتية. وإن كانت الآن تعيش منذ تحولاتها التجديدية تميزاً على مستوى الطرح أو الموضوعات أو الشكل الفني، إضافة إلى أنها عززت مع كتاب مجاني معها استطاع أن يقدم للمكتبة العربية عدداً من أهم الأبحاث والكتب، سواء بالعربية أو ترجمات نوعية في عدد من الموضوعات المهمة الثقافية والعلمية والتاريخية.
وربما كان التميز الذي رافق نشأة المجلة العربية، وصولاً إلى إداراتها الحالية؛ أن ارتباطها كان بشكل مباشر بوزارة الإعلام ثم الثقافة، ورئاسة تحريرها من قبل مثقفين من طراز رفيع في التاريخ والثقافة واللغة، من منير العجلاني مروراً بعثمان الصيني وصولاً لمحمد السيف، وبينهم العديد ممن أثروا المجلة العربية. لكن يمكن اعتبار أن هذه الأسماء الثلاثة شكلت نقلة نوعية كبيرة على مستوى اختيارات الموضوعات، والارتقاء بمستوى المجلة من حيث الاستكتاب والأبواب والموضوعات.
في دراسة محكمة في المجلة المصرية لبحوث الرأي العام، ديسمبر 2022م تحت عنوان: (مستقبل المجلات الثقافية في ظل التغير التكنولوجي والاجتماعي في العالم العربي، دراسة تطبيقية)؛ تم سؤال النخبة وشريحة كبيرة من المهتمين بالثقافة من جيل الشباب؛ جاءت المجلة العربية في المرتبة الثالثة بعد العربي والهلال، وشملت المحاور: دعم قيم الإبداع الثقافي، وتنمية الهوية والذوق الثقافي، والتعريف بالشخصيات الثقافية. وفي تقديري أن المجلة العربية تأتي في الصدارة، لو أخذنا مسألة التثقيف المتزامن مع الراهن من القضايا، واختيار الكتب الأصيلة والمترجمة، إضافة إلى الشريحة الواسعة من الكتاب على مستوى العالم العربي من حيث التخصصات والأعمار.
تعد المجلة العربية واحدة من أهم المنابر الثقافية في العالم العربي، حيث انطلقت رحلتها الأولى في عام 1975م بقيادة رئيس تحريرها الأول، الأديب السعودي منير العجلاني. منذ ذلك الحين، أصبحت المجلة عنواناً للأصالة الثقافية والتجدد الفكري، واستمرت في التطور والتكيف مع متغيرات العصر حتى يومنا هذا تحت إدارة محمد السيف. تحتفل المجلة اليوم بمرور خمسين عاماً على انطلاقتها، وهي مناسبة تلهم التأمل في تاريخ المجلات الثقافية عالمياً، وتحدياتها الراهنة، وأهميتها المستمرة في المجتمع.
صعود المجلة العربية جاء ضمن سياق لظاهرة المجلات الثقافية الممثلة في الدوريات المطبوعة أو الرقمية التي تسعى إلى التثقيف المستدام، عبر تقديم ألوان من الثقافة بمفهومها الشامل ضمن إطار زمني محدد. والأدب بمعناه الاصطلاحي، جزء من المحتوى الذي تقدمه المجلات الثقافية، لكنها أشمل من المجلات الأدبية، حيث تسعى إلى تقديم محتوى يشمل العلوم والفنون والعمران والجغرافيا ومراجعات الكتب.
تميزت المجلة العربية عبر سنواتها بأنها لم تكن مشروعاً سياسياً شمولياً ضمن سياق المنتجات الثقافية المؤدلجة التي شاعت في عدد من التجارب العربية، أو كونها ارتهاناً للملاك كما هو الحال في بعض المجلات الغربية؛ بل إسهام مستقل لنشر الثقافة، وتعميم المعرفة، وإثراء المشهد العربي، دون أن تكون لها ملامح سياسية خاصة أو أجندات محددة.
قصة المجلة العربية جاءت استجابة لفكرة مثقف استشعر أهمية مسألة (التثقيف المستدام) الذي تدعمه الدولة دون الدخول في التفاصيل أو الارتهان لتقلبات القطاع الخاص أو التيارات المؤدلجة، وكان ذلك في 1974م (1394هـ)، حين صدر الأمر السامي من جلالة الملك فيصل رحمه الله بالموافقة على مقترح د.منير العجلاني الذي رفعه الشيخ حسن آل الشيخ بإنشاء وإصدار المجلة العربية.
وحين كان العدد الأول قيد التحضير فجعت الأمة العربية والإسلامية باستشهاد الملك فيصل رحمه الله، لكنها حظيت باهتمام القيادة السياسية من بعده باعتباره امتداداً لرؤيته ووصيته الثقافية.
العقبة الثانية في المجلة كانت في صدورها من لبنان البلد الذي واجه حرباً أهلية شرسة، كان لها دور كبير في التأثير على صدورها المنتظم، لكن إرادة الراحل الملك خالد رحمه الله، ورؤيته بضرورة استدامة هذه المنصة التثقيفية التي شقت طريقها في التأثير الثقافي في السعودية وخارجها؛ ساهمت في دعم المجلة، وحين اقترح البعض إغلاقها قوبل هذا المقترح بالرفض من قبل أعلى سلطة في البلاد، وقال الملك خالد: (المجلة العربية وصية الفيصل، ونحن الذين نحرسها ونرعاها).
الرعاية المباشرة من أعلى سلطة في البلاد كانت سبباً في انتقال المجلة وصدورها في الرياض، وما يعنيه ذلك من خلق قطاع ثقافي محلي قادر على إدارة المحتوى وإنتاجه بكفاءة، إضافة إلى تذليل كل صعوبات النشر عن بعد، واستمرت المجلة برئاسة تحرير منير العجلاني حتى عام 1981م.
على مستوى المحتوى تميزت المجلة منذ أعدادها الأولى، وأخذت ترتقي بين نظيراتها في المجلات الثقافية بشكل سريع، حيث تم التركيز على نوعية المادة من جهة والأسماء التي تم استكتابها، وصولاً إلى تنوع المجالات بين اللغة والأدب والنقد والفلسفة والتاريخ. وحرصت المجلة منذ صدورها وحتى عددها الذي نحظى به اليوم في عيد مولدها الخمسين على أن يكون التنوع هو الثابت الوحيد.
كما حرصت المجلة على استقطاب أسماء بارزة تعكس ركيزتها الأساسية في التنوع على المستوى الفكري والجهوي، من العلايلي إلى نقولا زيادة، وصولاً إلى الزركلي وجميل صليبا والأمير عبدالقادر الجزائري، ومن الأسماء المحلية علامة الجزيرة حمد الجاسر، وأحمد المبارك، وغازي القصيبي، وصولاً إلى الشيخ أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري الذي ظل رغم تمكنه التراثي أحد أكثر المقالات متابعة من خلال (تباريح)، باعتبارها تعكس نمطاً من الكتابات الأدبية التي تمزج بين عمق التراث وحداثة المعاصرة والكثير من التفاصيل المحلية.
وربما كان من أهم ميزات المجلة العربية هو أنها أخذت نهج التواصلية - كما يعرف في علوم الاتصال- وصناعة المحتوى، بمعنى أن الحوار قيمة عليا بين المرسل والمتلقي، ومن هنا دأبت المجلة على تعزيز كل الأشكال الصحفية، ومن ضمنها الحوار مع الشخصيات الاعتبارية، بدءاً من حوارها مع الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز 1977م، مروراً بكبار الأدباء العرب من نجيب محفوظ إلى ميخائيل نعيمة وعمر أبوريشة وزكي نجيب محمود ويوس إدريس وعبدالوهاب البياتي، وصولاً إلى الرموز الثقافية السعودية: عبدالله بن خميس وعبدالفتاح أبومدين وعبدالكريم الجهيمان وحمد الجاسر وعزيز ضياء.. وآخرين.
إصدارات المجلة العربية كانت ولازالت أحد أكثر الأفكار نوعية في رفد المجلة الآنية بإصدار متميز يعزز علاقة القراء بالكتاب، ومن عناوين تلك الإصدارات التي بلغت أكثر من 300 كتاباً: رحلة مع مخطوطة، تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، الأحداث الكبرى في القرن العشرين، المثقفون والمجتمع، تاريخ العلوم وفلسفتها، من الحداثة إلى العولمة، موسوعة العالم القديم.. وغيرها.
المجلة اليوم تطورت بشكل نوعي وكبير، ويمكن القول إنها تحولت إلى مؤسسة ثقافية متكاملة، تشمل ذراعاً للنشر وآخر للإعلام الرقمي، عدا أنها تشارك بشكل فعال في معارض الكتاب، كما أن منصتها الرقمية على شبكة الإنترنت تتيح تصفح المجلة دون الحاجة إلى انتظار النسخة الورقية، فضلاً عن تداول كثير من المثقفين والمهتمين لمخرجاتها على حسابات التواصل الاجتماعي.
ورغم كل التحديات المتصلة بتحولات سلوك القراءة والفعل الثقافي؛ فلا يمكن لمنصف إلا أن يأمل بأن تستمر في رسالتها العظيمة (التثقيف المستدام).


* كاتب وباحث سعودي

ذو صلة