إن المتأمل لأوضاع العالم العربي عليه أن يدرك أن المجتمعات العربية في حاجة إلى إعادة النظر في البيئة الثقافية والاجتماعية السائدة، لتنشئ عزيمة جديّة لتحسين حياتها وبناء منظوماتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على النحو الذي يحسن حياتها ويحقق كرامتها.
ولعل تعزيز المناعة الفكرية في العالم العربي، هو السبيل لتحقيق الارتقاء الثقافي والاجتماعي بالمنطقة العربية. ويبدو بديهياً القول إنَّ المناعة الفكريَّة تحمي الأفراد والمجتمعات من التطرُّف والتعصُّب والكراهية، ولكنَّ ذلك يقتضي بطبيعة الحال تشكّلات فكريَّة شاملة لا تقتصر على الحماية من التطرف، وإنَّما تعني أفراداً فاعلين ومستقلين يصعب خداعهم وقيادتهم دون إدراك.
وبطبيعة الحال فإنَّ تعزيز المناعة الفكريَّة يعني تزويد الأفراد والمجتمعات بالمهارات والمعارف التي تمكنهم من التفكير الصحيح وتجنُّب الخطأ والانحراف والتطرُّف ونقص المعرفة والمهارات.
وهنا يأتي دور المجلات الثقافية التي لها بصمة في تكوين الإنسان العربي ومداركه، وكذلك تكوين إنسان مثقف، ولا يمكن لباحث أن يتناول المشهد الثقافي العربي، دون أن يتوقف عند دور المجلة العربية طيلة خمسين عاماً في تكوين الثقافة العربية وحمل راية استمرارية مدرسة التنوير الثقافي العربي.
فالمجلة العربية (السعودية) أثبتت خلال نصف قرن بأنها رافدٌ مهم من روافد الثقافة، وقامت بدور محوري في نقل الأدب والإبداع الكتابي والقضايا الثقافية، والأعمال الفنية، وغيرها من أشكال المعرفة وصور الجمال. وهذه من الأشياء التي تتركها الحضارة وراءها للأجيال للتعرّف عليها والإضافة إليها، وكل ما تركه رواد الأدب والثقافة تجلّى في أعداد المجلة العربية، إذ هي واحدة من أهم المجلات الثقافية العربية.
وتعد المجلة العربية من المجلات الثقافية العربية الأطول عمراً من حيث الاستمرارية والنجاح، لتمثل دوراً رائداً في تحديث الفكر العربي، وتفتح آفاقاً جديدة لثقافة التطور.
وقد تأسست المجلة العربية مجلةً ثقافية شهرية، في عام 1975م، في عهد الملك فيصل رحمه الله، وقد رأس تحريرها آنذاك الدكتور منير العجلاني. وصدر العدد الأول في يونيو - يوليو 1975م.
هدفت المجلة العربية منذ صدور عددها الأول بأن تكون مجلة كل العرب، وإلى تعزيز الثقافة العربية ومواكبة الأعمال الأدبية، وتُشارك بقوة في نشر ثقافة عربية رفيعة بين أبناء العالم العربي، لتكون منبراً لأقلام عربية لامعة ونابهة.
وقد كانت المجلة العربية على مر تاريخها خلال النصف قرن الماضي مصدراً للإشعاع الفكري من المملكة العربية السعودية وللعرب جميعاً. فقد صدرت المجلة في إحدى اللحظات الدقيقة في التاريخ العربي، في السبعينات من القرن العشرين. وهي فترة كان لا بد من وجود منابر ثقافية وإعلامية عربية في ظل الأزمات والظروف السياسية الإقليمية التي مرت بها العديد من الدول العربية في تلك الفترة.
تشكّلت الملامح التحريرية للمجلة العربية مراعية التنوع في الموضوعات الثقافية الشاملة، لتتناول شؤوناً ثقافية آنية، ومناقشة قضايا ثقافية وأدبية تطرحها المجلة كل عدد، فضلاً عن أبوابها الثابتة، بالإضافة إلى المساحات التي تشجع المشاركة الإبداعية.
ومن الطبيعي أنه كلما مر الزمن اتسعت الآفاق وتنوعت المعارف والموضوعات، لهذا اتسع مجال المجلة العربية وتنوع في كل زمن أتى عليها. فكل عصر بالمقارنة بما يليه يصبح ضيقاً محدوداً. ولتطبيق المجلة العربية لمبدئها دائماً من مواكبة ما يريده القراء والمطلعون عليها فهي تحاول دائماً أن تجدد وتتسع. ولهذا كانت في النهاية أكثر نجاحاً. فقد بدأت المجلة العربية منذ أعدادها التي صدرت عام 2010، بتطبيق خطة تطويرية باستحداث عدد من الوحدات، التي تهدف إلى نقل المجلة لتكون مركزاً ثقافيّاً أكثر شمولية من خلال سلاسل الكتب: مثل سلسلة كتاب العربية (الريادة) وهي سلسلة تعنى بالتراث الثقافي، وسلسلة كتاب العربية التي تعنى بالكتب المؤلفة باللغة العربية، تشمل مؤلفين من مختلف بلدان العالم العربي. وسلسلة كتاب العربية الخاصة بالترجمة، وهي سلسلة تعنى بترجمة أهم الكتب وأحدث الإصدارات من اللغات المختلفة. وسلسلة كتاب العربية التي تعنى بالمفاهيم العالمية الحديثة. وكذلك سلسلة كُتب الأطفال.
وتميزت أعداد المجلة العربية، بمنظور أوسع للثقافة، يهتم بالمراجعات والنقد والأخبار والمقالات حول الفنون والثقافة والإبداع، بما في ذلك قضايا نمط الحياة والحوار المجتمعي، والنقد الثقافي. مما كان له أثر كبير في تطور المشهد الثقافي السعودي بل والعربي المعاصر، لأنها لم تشجع فقط على زيادة الإنتاج الأدبي والثقافي والنقدي فقط، بل إنها كانت ذات دور كبير ومؤثر في الاهتمام بدراسات القضايا الثقافية، ونقل الكتابة الإبداعية الجديدة للجمهور والاهتمام بالثورة الرقمية والمعرفية في ظل العصر الرقمي الجديد. ونذكر منها على سبيل المثال عدداً من أعداد المجلة التي تناولت تلك القضايا والملفات مثل: النشر العربي، جدل الرواية التاريخية، فن الأماكن العامة، الفلسفة العربية، الرحالة الرقميون، رواة العصر الرقمي، الشرق الأوسط الأخضر، الإنسان والفلك، الجامعات العربية والتصنيف العالمي، زمن الملكية الفكرية، ثقافة الحج، ثقافة الرعب، اللهجات المحلية وبريق التنوع المهدد، أدب الوسائط المرتبكة، الخط العربي، فن الهوية والحضارة، ثقافة الترفيه، أجيال العرب في الغرب، الشفاهية الرقمية وتحولاتها، رأسملة الحياة، مستقبل العلم الحديث، الأمن السيبراني.. حروب الأرقام الصماء، اللهو المبرمج، الحروب المخملية، الكاريكاتير.. انطفاء أم تطور؟ الاستغراب والطريق إلى معرفة الآخر، الأوبئة والجوائح وصراع الإنسان للبقاء، الدراما العربية.. قلق الهوية الفنية بين مطالب الجمهور والروح المحافظة، التسامح في المجتمع العربي، التجريب في المسرح، العقل العربي بين تجاذبات وهم الاستشراق والإنشائية والأيديولوجيا، الثقافة العربية في زمن متغير، الكتابة النسوية، المعارك الأدبية في العصر الإلكتروني، معارض الكتب العربية، العلوم الزائفة، العلاقة الملتبسة بين الناقد والأديب، الوعاء المعلوماتي، الصالونات الأدبية، العالم العربي و100 عام على الحرب العالمية الأولى، تحديات المجلات الثقافية، الثقافة العربية في ظل الأزمات، الثقافة في زمن السياسة.
وحيث إن المنتج الثقافي أصبح أحد منتجات الصناعة الثقافية، وحتى الثقافة نفسها وفقاً لمنظمة اليونسكو أصبحت صناعة ليبرز مصطلح الصناعة الثقافية، ووفقاً للتعريف الصادر عن منظمة اليونسكو عام 2006 والتي تعرف الثقافة بأنها (الصناعة التي تجمع بين إنشاء وإنتاج وتسويق المحتويات الإبداعية غير الملموسة والثقافية في طبيعتها)، وتشمل (الطباعة والنشر والوسائط المتعددة والوسائط السمعية والبصرية والإنتاج الصوتي والسينمائي وكذلك الحرف والتصميم). فكانت المجلة العربية في أعدادها الصادرة والتي أدعو الجميع إلى مطالعة الأرشيف الخاص بأعدادها والمتاح إلكترونياً لكي يدرك بأنها حملت راية استمرارية مدرسة التنوير الثقافي العربي ومواجهة التحديات الثقافية في بيئة رقمية جديدة، فيما يتعلق بالتحرير والأعمال المنشورة، والمراجعة الجادة في الجانب النقدي والتحليلي للقضايا الثقافية والفنية، وتفسيرها وعرضها للقضايا المختلفة بما يتماشى مع الثقافة المتغيرة والمشهد الإعلامي المتسارع في ظل التنافس والاحتراف.
ومع كتابة تلك السطور، ومع مطالعة أعداد المجلة العربية، فالحديث عن المجلة ونشأتها وتطورها والأشكال التي اتخذتها على مر 50 عاماً يطول ويحتاج لدراسة شاملة عنه، لذلك فإننا سوف نكتفي عن الحديث عن التطوير الذي شمل أعدادها الجديدة في حلةٍ بهية تواكب المناهج الحديثة للتصميم والإخراج والرقمنة، اتسع معها دورها في المشهد الثقافي. والتأكيد في إصدار أعدادها ونشرها رقميّاً. لتصبح المجلة العربية مجلة ثقافية عربية تحمل بين صفحاتها تحليلات ثقافية ونقدية للصناعات الثقافية، وكذلك التأثير الاجتماعي لثقافة الإعلام المعاصر، والحياة الثقافية الجديدة، والتغيرات الاجتماعية والثقافية.
هذا التنوع لا يؤكد فقط على المهمة الصعبة المتمثلة في الحفاظ على مهنية الصحافة الثقافية من ناحية، ومواكبة التحول الرقمي والانفتاح على قنوات الاتصال الإعلامي الجديد من ناحية أخرى؛ بل أيضاً يؤكد على الدور المهم المنوط بها في المرحلة الثقافية الجديدة.
هكذا، نجحت المجلة العربية في دعم المشهد الثقافي العربي ورصدت تحولاته خلال 50 عاماً مرّت فيها الثقافة العربية بظروف وتحديات كبيرة، حتى وصلت إلى نجاحات وتطورات أسست لتاريخ مهم للمشهد الثقافي العربي، نجحت خلاله في الموازنة بين دور الصحافة الثقافية، والصحافة النقدية، وبين التحديات الرقمية، واتباعها للآليات والإستراتيجيات المتجهة أفقياً، والتي تصبح نتائجها أكثر جدوى وفائدة. وعلينا أن ندرك بأننا في عصر يصعب فيه السيطرة على الأفكار والقناعات، أو إعادة توجيهها، ففي ظلال الثورة الرقمية بات للجميع قدرته على التأثير والتأثير المضاد، وأصبحت العبرة بأن يكون العمل أكثر منهجية واستدامة، وأكثر قدرة على تحديد الأولويات، وأكثر مرونة وشفافية.
* مدير مركز الدراسات الإستراتيجية في مكتبة الإسكندرية، مدرس العلوم السياسية بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري بالإسكندرية وجامعة هال ببريطانيا.