في زمن أوشكت فيه شمس (الصحافة الورقية) على الأفول، وكادت (الصحافة الإلكترونية) تستأثر بالساحة تظل -هناك- صحف ومجلات ورقية صامدة أمام الزحف الإلكتروني المتصاعد يوماً بعد يوم، وإن كان البعض منها -الصحافة الورقية- قد لجأت إلى تقليص عدد صفحاتها، واختصار موادها العلمية والثقافية، إلا أن استثناءات عديدة قد حافظت على التمسك بحيويتها وهويتها، وبذلت جهوداً جبارة للوقوف في وجه الموجة الإلكترونية التي تحاول التربع على عرش صاحبة الجلالة، متخذة من ظاهرة الافتتان، وسهولة الانتشار -في أوساط المهتمين بالمادة الصحفية بصفة عامة- وسيلة لملء كل الفراغات، وجذب كل الاهتمامات، خصوصاً الجيل الجديد الذي انفتحت عيون أبنائه على بريق ووهج معجزات العصر الإلكتروني المتنامي بمستجداته التي تتمخض عنها عقول أبناء هذا الزمن المختال بتسارع ركضه في مختلف الساحات العلمية والفكرية التي وصلت بهم إلى مرحلة الإعجاب الإلكتروني، الذي جعل الاهتمام بالصحافة الورقية يتقلص، وبخاصة في أوساط الأجيال المعاصرة ذات النظرة المدموغة ببصمة التسارع الشديد في كل شؤون الحياة.
بمعنى أن الإنسان في زحمة هذا التسارع، والسباق مع المستجدات أصبح لا يجد الوقت الكافي الذي تتطلبه الصحافة القديمة للتفرغ للقراءة والتمعن في محتويات مضمونها، وتنوع مصادر المعرفة (الجادة) البعيدة عن هامشية ما تحشى به الوسائل الإلكترونية.
من هذا المنطلق حافظت بعض الصحف الورقية على توازنها أمام الهزات الإلكترونية المتخمة بكل ما هب ودب، ومن هذه الثغرة أيضاً وجدت الصحافة القديمة سبيلها إلى البقاء والصمود في وجه تلك الهزات، ووجدت هذه الصحف والقائمون عليها ما يغريهم بالاستمرار، ومعاقرة الصراع اللذيذ لإثبات وجودهم وثباتهم أمام عواصف التحدي الإلكتروني الذي يزعم عشاقه أن زمن الصحافة الورقية انتهى.
من منطلق هذا التحدي كانت (المجلة العربية) في الصف الأمامي لعشاق البقاء والاستمرار، متخذة من تجاربهم الصحفية حافزاً للتجديد، والابتكار، سواء في نوعية (المادة) أو في فنيات (الإخراج) أو (جودة الطباعة) و(عمق مهنية العمل الصحفي) مع مرور الأيام، وتسارع دوران عجلة الزمن التي لا تهدأ، ولا تتوقف، ولا يصيبها الكلل أو الملل والوهن، بل على العكس من ذلك أصبحت خبرتهم (معتقة) -إن جاز التعبير- ومهنتهم تزداد ألقاً وتوهجاً كلما تقادم عمر مطبوعاتهم، كما هو حال هذه المجلة التي تطرق بوابة الخمسين من عمرها المديد.
في ظني، بل في اعتقادي الراسخ أن هذه المجلة قد استطاعت تخطي الصعاب، والمرحلة الشاقة بكل جدارة وتصميم، بل واستطاعت تجاوز العقبات، لتؤسس لنفسها مساراً خاصاً لا يكسبه تقادم العمر، وتعاقب الأيام إلا بصمة متميزة تجعلها تنفرد بنوعية موادها التحريرية، وتستقطب النخب من أصحاب الأقلام المبدعة، ومجددي ألق مرآة العمل الصحفي (الورقي) وتستمر في نهجها نحو الخروج عن الصبغة المحلية لتصبح مجلة (عربية) كما أراد لها مؤسسوها منذ خطواتها الأولى، وعلى الطريق نفسه والمنهج نفسه عمل المتعاقبون على تحريرها -كل في مجال اختصاصه- وهذا ما يلمسه كل المتابعين لمسيرتها، والمهتمين بتجددها، فكراً، وثقافة، ومادة علمية، وفنيات إخراج.
ومما يحسب للمجلة -رئيساً وأسرة تحرير- على مدى تعاقبهم على إدارتها طوال الخمسين عاماً الماضية، حفاظهم على توازن مسارها، واستطاعتهم الابتعاد بها عن التيارات ذات التوجهات المشبوهة، خصوصاً وأنها تتلقى سيلاً جارفاً من الموضوعات التي لا تخلو من الشوائب، ولا تتفق مع منهجها الذي رسمه لها أربابها، إذ استطاعوا أن يعبروا بها من انحراف المنعطفات الشائكة المشحونة برغبات وميول الذين يعيشون في بيئات ومجتمعات تعصف بها النزوات الفكرية على مختلف أهوائها.
ليس بالشيء السهل - على مدى خمسين عاماً - الحفاظ على الاستمرارية المتوازنة التي تهدف إلى نقاء الكلمة ونصاعة الفكرة التي تخدم المعرفة -بكل فروعها- وتطهرها من لغط القول الموبوء بالتوجهات غير البريئة.
في زمن كهذا الذي نعيشه، يعتبر الحفاظ على اتجاه بوصلة الهدف النبيل، والغاية المثلى شيئاً يشبه المستحيل، بل هو المستحيل بكل ما فيه من معنى.
مسألة الحفاظ على التوازن حالة يحسد عليها أصحابها، وفي الوقت نفسه يستحقون عليها التهنئة التي تليق بإنجازاتهم المنتمية إلى أصالة الطرح الموضوعي المتماشي مع المتغيرات ذات النهج القويم البعيد عن التعرجات واعوجاج الطريق.
ولم يقتصر محتوى هذه المجلة على الوضوح النقي للمادة التحريرية الثرية والمتجددة، بل وأتحفت قراءها -مع ولادة كل عدد- بملحقها الذي يخصصه كتابه لسير ومعلومات لشخصيات لهم إسهامهم الفكري، سواء في الأزمنة الماضية أو المعاصرة، والمتتبع لهذه الملاحق يلاحظ ما يبذله أصحاب أقلامها من جهود بحثية مضنية تضيف إلى محتويات المجلة روافد معرفية -غالباً- لا يعرفها الآخرون من المهتمين بالثقافة والمعرفة في إطارهما العام.
بقي أن أقول: عندما كنت أكتب هذه السطور كنت أرفع أكفي إلى الله بأن يجعل العون والتوفيق مصاحبين لهذه المجلة وجميع أفراد أسرتها إنه سميع مجيب.
* أديب وشاعر سعودي