مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

المجلة العربية خمسون عاماً من النور

ما زلت أتذكر الأثر الطاغي لذلك العدد الطازج الذي تلقيه كهدية ثمينة. كان للورق آنذاك سطوة ساحرة، وكان لرائحته وقع لا يتحقق إلا عند من أسرته القراءة على نحو لا عودة منه. كانت (حنينا) آنذاك ما تزال ترفل بروح القرية البكر، وبطريقة أهلها لفهم الكون والحياة، قريتي التي كنت أطل منها على العالم حين كان أكثر براءة، ومحفزّاً، ويختط لمن يريد الحياة على حقيقتها طريقاً آمناً، ومجداً أدبيّاً يمكن أن تتحقق له الكثير من الأيادي التي لها أن ترفعه أمام بروق الأمنيات بزمن عربي أجمل مما يمكن أن تقود إليه الأحلام اليومية. أن أحظى في ذلك العام البعيد بعدد جديد من مجلة لها صيت واسع، وتحقق متعة وفائدة ثقافية كبيرتين، وفي مجتمع قروي حالم، فهذا حدث غير بسيط، إنه واحد من الأحداث التي لا يمكن أن تُمحى من ذاكرتي الأدبية، وقد كانت مقدمة للعبور نحو فضاء الكتابة، ابتداء بالشعر، ومروراً بالقصة، ثم الكتابة الروائية التي يعلو صوتها بين القراء والكتاب في هذه المرحلة.
في تلك السنة كنت ما أزال أتلمس الدرب نحو عالم الأدب، أقرأ كتاباً، وأكتب سطراً، وأنا أُقبل على وسط ثقافي عربي يراوح بين الحداثة بمفهومها، وأسلوبها الغربيين، وبين الكلاسيك، وكنت مثل كثير من أبناء جيلي تتقاسمنا هاتان المحطتان، فجذور الإرث الأدبي العربي بكل أصنافه ضاربة في الروح العربية الأصيلة، وعلى غرار هذا الرسوخ القوي نشأ أدباء وقراء وتوجهات ثقافية عديدة. ومقابل هذا الماضي وهذا المجد الأدبي الذي بنيت عليه حياتنا كانت رياح الحداثة في تلك الأيام على أشدها، تغزو العالم العربي، وتؤدي إلى طروحات، وأساليب، وأصوات جديدة في عالم الأدب. لم يكن السؤال حينها ماذا نكتب، بل كان كيف نكتب، ونحن إزاء تحول امتد أثره أيضاً إلى طروقاتنا في الكتابة، أما طرائقها فهي نتائج طبيعية لحقبة جديدة من التغيير، حقبة أتت جراء ما مضى فيه الآخر نحو آفاق جديدة لا بد منها، وبالتالي بتنا نحلم بحداثة عربية، لا تنفصل عن الأفق العالمي، وفي الآن نفسه لها ما يميزها عن غيرها، فتصبح قادرة على إعلان خصوصيتها، وتفردها.
في تلك السنين الفاصلة في تحولات شكل ومضمون الأدب العربي ساهمت العديد من المجلات، والدوريات الثقافية العربية فيما يشبه الفصل في هذا الأمر الذي كان بطبيعة الحال نخبوياً. ومن أهم تلك المنابر الثقافية التي التزمت بدورها المعرفي (المجلة العربية)، وقد كان لقائي بها في العام 1988 لقاء فاصلاً، إذ وجدتني أمام منبر ثقافي عينه على الماضي، وفي الآن نفسه عينه الأخرى على المستقبل، فلا يمكن لأي مسعى معرفي أن ينجح إذا تم تجاوز ما بُني من تراكمات ثقافية، ومعرفية، وعلمية، حينها ستكون أرض ذلك المنطلق هشة، ومعرضة لأي اهتزاز، وما فعلته هذه المجلة أنها كانت وما تزال تمضي بطروحاتها بتأنٍ مدروس، ورؤية مهمة. وانطلاقاً من ذلك العدد في تلك السنة نشأت علاقتي بالمجلة العربية، وأخذتُ أنتظر صدور أعدادها الغنية بالنصوص الإبداعية الحديثة، وبالآراء التي لها قيمة ووزن كبيران في الساحة الثقافية العربية، وبالدراسات التي كانت تقدم للقراء الشغوفين إضاءات في غاية الأهمية على كل ما هو جديد. ومن أهم الزوايا الإبداعية والفكرية التي كنت أحرص على متابعتها، زاوية الأديب السعودي الراحل (غازي القصيبي) والتي كانت تحمل عنوان (صوت من الخليج) فهي زاوية لشاعر، وروائي، ومفكر، وإنسان يسعى مثله مثل غيره من المُطلين على الشأن الثقافي العربي والعالمي إلى الأفضل.
لم تتوقف هذه المجلة، ولم تتراجع، ولم تغير بوصلتها أمام ما حدث من تغيرات عالمية على صعيد النشر، فقد انتقلت كثير من المجلات، والدوريات، والصحف من خانة الورقي إلى خانة الإلكتروني، وفوق ذلك كله، قلصت مساحاتها في النشر، والتعاطي مع الكتاب، والشأن الثقافي. في المقابل أبقت المجلة العربية على سبيل وصولها الورقي للقراء كما هو، لكنها من الجهة الأخرى تعاطت مع التبدلات الحديثة، واستوعبتها بحرفية، بحيث صارت تصدر إلكترونياً، إضافة إلى طابعها الورقي، ولم تختزل مساحة الكتابة، ولم تخفض من عدد الكتاب الذين يدفعون بأصواتهم إليها. إن استمرار الفعل الثقافي في زمن باتت الثقافة فيه خارج سلَّم الأولويات لهو إيمان عميق بالإنسان، ومقدراته، وما يفكر، وما يسعى إليه.
إن علاقتي بالمجلة العربية، علاقة وطيدة جداً، امتدت من عام 1988 إلى هذه السنة 2024، وعبر هذه المسافة الزمنية التي تبلغ 36 سنة قرأت الكثير مما كتب فيها، وتابعت العديد من تطوراتها، ورؤاها، وسعيها إلى أعلى المراتب بين المجلات الثقافية ذائعة الصيت، ومن هنا فإن الاحتفاء بمرور 50 سنة على صدور أول أعدادها، لهو احتفاء القراء، والكتاب، وطواقم المجلة بالثقافة العربية، فهذه المجلة لم تقتصر في رؤيتها على الشأن الثقافي في المملكة العربية السعودية فقط، بل امتدت جهودها إلى الفضاء الثقافي العربي، والعالمي، وقد عبرت خلال هذه الرؤية السديدة عن عمق انتمائها العربي والإنساني، بحيث كانت وما تزال شريكة أساسية في حماية الثقافة، وتنميتها، وخلق جيل له الكثير من الوعي الذي ساهم ببناء مجتمعنا العربي.
نحتفي معاً بمجلتنا العربية، وبثقافتنا، ونتمنى، ونسعى إلى عمر ثقافي مديد لهذا المنبر الحضاري المهم. ومادامت الكلمة حاضرة فإن النور حاضر، وله أن يطرد كل أشكال الظلمة.


*روائي أردني، حاصل على (البوكر) للرواية العربية

ذو صلة