يقيس الناس أعمارهم بعدد السنوات التي عاشوها، وأقيس عمري بعدد الكتب والمجلات التي طالعتها.
فلقد قضيت 45 سنة من عمري إلى حد الآن في عشق (المجلة العربية).
وأعترف أني وقعت في هواها من أول نظرة ومن أول مرة.
وما زلت أذكر تفاصيل أول لقاء بمجلتي المفضلة، وكأن اللقاء حدث بالأمس القريب.
كان عمري وقتها 13 سنة، وكنت أدرس بالسنة الأولى تعليم ثانوي في مدينتي (قصر هلال) بولاية المنستير من الساحل التونسي، وكنت أطالع كل ما يقع تحت يدي من جرائد تونسية ومجلات عربية، وأذكر فيما أذكر أن أمي -أطال الله في عمرها وحفظها من كل سوء ومكروه- أعطتني ذات يوم ديناراً كاملاً هو مصروفي اليومي قبل الذهاب إلى المعهد، ولقد مثل لي ذلك الدينار ثروة كبيرة، فعرجت سعيداً وأنا في طريقي إلى المعهد على مكتبة المدينة، فاشتريت جريدتين تونسيتين هما البيان التونسية والأنوار التونسية، ثم وقعت عيني على (المجلة العربية) ومجلة (الفيصل) السعوديتين، وكان ثمنهما في متناول ما تبقى في جيبي من نقود، وخرجت من المكتبة فرحاً مسروراً وبين يدي صيد ثمين من الجرائد والمجلات، وكان سؤال يلح في خاطري ومفاده: كيف تصل المجلات السعودية إلى تونس، وتحديداً إلى مدينتي الجميلة؟
ولم أبحث كثيراً بعد ذلك عن إجابة لسؤالي، بل لقد أصبحت أتمنى لاحقاً ألا ينقطع حبل الوصل بيني وبين المجلة العربية.
وعدت إلى البيت في المساء، وكنت أشعر بجوع شديد لمطالعة ما اشتريت، ولم أفكر وقتها في الطعام، لقد انهمكت في سد رمقي بمطالعة عناوين الجرائد والمجلات التي بين يدي، وشبعت، ثم مال قلبي دون رفض مني إلى (المجلة العربية)، وإذا أنا في جنة روح وريحان.
ولقد حرصت بعد ذلك وعلى مدى سنوات طويلة على انتظار حبيبتي (المجلة العربية) بلهفة العاشق واحتراق المعجب وتأمل الولهان.
فماذا وجدت في هذه الحبيبة الملهمة حتى أصاب بحالة عشق أفلاطوني؟
طبعاً، لقد عرفت السر بعد أن كبرت، ونضجت ملكة التقييم لدي، وصرت أفهم ما معنى كتابة؟ وما معنى صحافة؟ وما معنى مكاشفة أعماق القارئ؟
لقد عرفت ذلك بعد أن أصبحت طالباً في الجامعة، وتوجت مسيرتي بعشق خرافي للصحافة وللحرف وللكتابة، ثم انخرطت في أسرة تحرير دار الأنوار التونسية، وشغلت بعد ذلك مناصب متعددة، ومررت بكل مراحل العمل الصحفي، من محرر إلى سكرتير تحرير إلى رئيس تحرير. بلى، لقد عرفت أن (المجلة العربية) متفردة في أركانها، ومتميزة في إخراجها، وعميقة في حرفها وجميلة في صورها وأنيقة في مقالاتها وثرية في ملفاتها ودراساتها وتحقيقاتها، وأنها واحدة منذ لحظة انبعاثها من أروع وأرقى المجلات في العالم العربي، وكما أراها أنا طبعاً، و(خوذوا عيني شوفوا بيها) - تقول الأغنية التونسية.
وأذكر على سبيل الذكر من الأركان التي كنت أحرص على قراءتها قبل غيرها من الأركان الكثيرة الأخرى في المجلة، وكانت تعجبني أيضاً؛ ركن (رحلة في أعماق)، وسأطلب من قلمي أن يمهلني دقائق هنا- بعد إذنكم- لأحكي عن عفوية الأسئلة التي كانت تطرح على ضيف الركن، كانت أسئلة بسيطة خفيفة ولكنها عذبة وعميقة، ولم تكن الإجابات أقل عفوية من الأسئلة، ولقد كان الحوار في مجمله رائعاً ويروي فضولي الشخصي.
ثم كنت أنساب مع الأركان الأخرى انسياب المياه في الجداول العذبة، كنت أستعذب أسماء الأركان وعناوين المقالات ومضامين الكتابات، وأنطلق مع (كلمة العدد) ثم مع (حتى نلتقي) ثم مع (سوانح الذكريات) ثم مع (بوح الكلمات) مروراً بـ(سؤال في الكون)، ثم مع (دراسات أدبية) ثم مع (دراسات في الطب) ثم مع (استطلاع ملون)، ثم أذوب مع القصص القصيرة ومع الشعر، ثم أتفرس في (الألوان) كعاشق ولهان.
ثم أنام قرير العين، وأحلم بكتابة مقال في هذه المجلة الحالمة.
ولم تسنح الفرصة بطبيعة الحال، على مدى 45 سنة من العشق؛ لكتابة رسالة محبة لمجلة ثرية ملهمة، ولكنها سنحت الآن ولحكمة لا يعلمها إلا الله.
ولأن حديث العشق لا ينتهي، للمملكة العربية السعودية وللمجلة العربية بالاسم والرسم؛ فلا بد أن أذكر -وفاء واحتراماً وتقديراً- أني قد زرت الرياض بدعوة كريمة من المملكة سنة 2019، وكنت ضمن ألف صحفي من كل أنحاء العالم، وكانت رغبتي كبيرة في زيارة مقر المجلة العربية، ولكن الظروف لم تسمح بحكم زحمة المنتديات واللقاءات.
ولقد عشت 6 أيام في الرياض على صوت خرير الحرف والبهاء والأخوّة، وقد جمعت الرياض وجوهاً إعلامية أنيقة جاءت من كلّ فجّ عميق لتنسج معا بهاء الفعل الإعلامي على درب بناء أسوار الإنسان والسلام ورقي المشاعر في المنتدى الإعلامي السعودي، وكان اللقاء جامعاً لشتّى فنون الإعلام احتفاء بقيم التسامح والسلام والمحبة.
لقد كانت أيام المنتدى ولقاءاته أنيقة بكل مقاييس الأناقة، حيث مدّت جسور الأخوة بين 1000 صحفي من 32 دولة، ولقد تبين لي بالقرينة والأفعال مدى فاعلية العمل الإعلامي في تقريب الشعوب والقلوب وتوحيد الأفئدة على محبّة الإنسان والبلدان، بعيداً عن حديث الدين والعرق واللون والقطر، وعدت إلى تونس، بعد كرم حاتمي، وحفاوة استقبال تجل عن الوصف، وتركت قلبي في الرياض، فعسى أن أعود إليها مرة أخرى، وأحضن قلبي من جديد.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فأنا أستمع كل ليلة تقريباً إلى فناني المفضل محمد عبده فنان العرب (كما أطلق عليه الزعيم الحبيب بورقيبة الرئيس التونسي الراحل هذا اللقب المستحق عن جدارة)، وهو يشدو بأغانيه العذبة، وكثيراً ما كنت أستعذب أغنيته الجميلة الراقية الفخمة (ما أرق الرياض)، ولم أكن أدرك سر عذوبة هذه الأغنية حتى زرت الرياض، ووقفت بأم عيني وبقلبي ووجداني على رقتها ورقيها.
وبالفعل فلقد صرخت في داخلي وأنا أتجول بين شوارع الرياض وأنهج طرقاتها: ما أرق الرياض، أميرة المدن، وما أجملها حين تهفو إليها القلوب وتحن، وما أروعها، وما أطيب أهلها في كل الأوقات، وما أحلى جوها صباحاً، وما أبهر أنوارها المتلألئة ليلاً، كالنجمات.
وهذا قلبي يصافح الجميع راجياً وداعياً وشاكراً ومعتزاً ومعترفاً بالفضل. ولكل أسرة (المجلة العربية) وافر المحبة والاحترام والتقدير، وسوف تظل المجلة العربية في أعماقي درة ثمينة من الأدب الرفيع والصحافة المتطورة، وتاريخاً شامخاً ثرياً من البهاء الإنساني، لا يمكن أن ينسى، وهل ينسى العاشق حبيبته؟!
* رئيس تحرير جريدة الشروق التونسية