مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

50 عـاماً لنْ تكونَ وحيداً

العونُ الأكثر أبديَّة هو ما قدَّمه لنا مبتكرُ المجلات الثقافيَّة، حين لمعت بعينيه الفكرة، وتعاظمت في قلبه شفقة استرضائيَّة، فإذا كنتَ كاتباً جديداً فسترى نفسك في مطبوعٍ بين الأسماء الكبيرة، وإذا كنتَ تتوكأ على سنواتٍ من الاجتهاد الثقافي فها أنتَ في مرتبة عليا مع الصفوة. بكل الأحوال، وهذا ما قاله لنفسه ذلك المبتكر: لنْ تكونَ وحيداً فتنسى.
المجلات الثقافيَّة على عكس زميلاتها العلميَّة تكتسبُ رهافة ناعمة مع التقدم في الزمن، فملكة الإبداع تبقى متوهجة، حتى إذا تعتقت الأساليب وتعاقبت العقول على التجربة الإنسانيَّة وأخذت الوسائل التكنولوجيَّة تسهل لها ما كان صعباً للأخيار الأوائل. ثمة علاقات حسيَّة تجمع المجلات الثقافيَّة مع بعضها، أهمُّها أنَّها طويلة الأمد وسرعان ما تتحول إلى وثيقة تاريخيَّة. كثيرون من المتذوقين يرون في الملمس والحجم ورائحة الورق وجماليات التصميم سبباً لاستمراريَّة التعلق وذريعة للاحتفاظ، وهذا يعزز القيمة الإبداعيَّة ويزيدها قداسة، لذلك من غير المنطقي أنْ تموتَ المجلات الثقافيَّة مبكراً.
خمسون عاماً مرت على المجلة العربيَّة، إنّه عمرٌ يتناسب تماماً مع القيمة الفكريَّة والإبداعيَّة، ويجعل هذه المجلة الشهريَّة ناضجة التطلعات ومكللة بالنجاحات ومفعمة بالإخلاص للثقافة البناءة. إنَّ أهم ما يميز المجلة العربيَّة أنَّها مرت بتوسعاتٍ كثيرة رسخت من أثرها في جموع المثقفين العرب والقراء، فعندما تبنى الفكرة على هدفٍ بعيدٍ فإنَّ ذلك يجعلنا نتوقع المزيد من التكاتف مع إصرارٍ مستمرٍ على الجديَّة، كما أنَّ هذا التراكم في التجربة والعمل الثقافي يتيحُ لنا التطلعَ إلى الجديد وتوقع المزيد من النقلات التي تعملُ على جعل الأجواء الثقافيَّة أكثر تداولاً وأشدَّ صدقاً.
التحول الكبير في الأثر جرى سنة 1997 عندما ظهر مع المجلة كتاب العدد، وهذه الخطوة لم تقطعها سوى مجلات ثقافيَّة عربيَّة قليلة. وكانت المجلة العربيَّة رائدة في هذا، من حيث جودة المطبوع وقيمته الفكريَّة وتعدديَّة مجالاته. وعلى غير ما جرت عليه العادة، لم تكن المجلة العربيَّة نتاج البذخ المادي أو الرفاهيَّة الشكليَّة؛ وإنما هي ابنة الحاجة المعرفيَّة، ما جعلها تتميز بتنوعها ومسيرتها التقدميَّة.
إنَّ ما يثير الانتباه بهذه المجلة أنها ذكيَّة في اختياراتها، وشجاعة في ملفاتها، ومتوازنة في بناء العدد الشهري، فنحن جميعاً نتوقُ لخطابيَّة محنكة وتغطية تقرأ الواقع وتتجه نحو المستقبل. ومع شيءٍ من التدقيق فإنَّ ما جرى نشره من سنة التأسيس 1974 وإلى منتصف تسعينات القرن الماضي يضعنا أمام تحديثاتٍ كثيرة، وهذا نادراً ما نلمسه في المجلات الشقيقة، فالطفرات لم تكن طباعيَّة شكليَّة وتلويناتٍ باذخة، وإنما مواكبة دقيقة للمعايير الثقافيَّة الجديدة التي يدورُ بها العالم في توسعاته المتسارعة. كما أنَّ هذه المجلة باتت حجر الأساس لكثيرٍ من الطموحات الثقافيَّة التي تجعل العقل العربي أكثر تحرراً وأقدر على الابتكار والتجدد.
من السمات الأساسيَّة لوجود المجلات الثقافيَّة هو التخصص والاشتغال النخبوي الذي تحتاجه المؤسسات التعليميَّة والعلميَّة والفروع اللاحقة مثل التراث والمسرح والآداب والدراسات الأكرولوجيَّة.. وغيرها، وهذا الأمر يساعد على النمطيَّة أو إنَّه يحدُّ من الانتشار ويجلب الصدفيَّة، وبالتالي فإنَّ الحاجة تكون ماسَّة لفرز توجهاتٍ جديدة تعتمدُ على مزج الخبرات في مطبوعٍ جامعٍ يشتغل بحرفيَّة لتحقيق الأهداف. في كثيرٍ من المجلات العربيَّة تسودُ الفكرة الجاهزة أو الذائقة الآمنة، لذلك كثرة المجلات قد لا تكون مؤثرة ما دامت تُبْنى على المستطاع لا على الجرأة، والقراءة المنفتحة، والنبش في المسكوت عنه، والنقد البنائي.
بعد مرور نصف قرنٍ على صدور المجلة العربيَّة يمكن بسهولة تقييم المسار التثقيفي والأفكار المتلاحقة التي طبقت على المجلة ورفدتها بالتحديث. إنَّ أهمَّ مسببات النجاح هو الانفتاح الذكي الذي يعي دورَ الثقافة في بناء المجتمعات السويَّة والعمل على قبول الآخر بشتى وسائل المعرفة.
إنَّ ما قامت به المجلة العربيَّة كان محفزاً للكثيرين على الاتباع التنويري الذي تدرج على مدى نصف قرنٍ، وبات يجلب الاحترام والتوقير، الأمر الذي جعل المجلة تكون نافذة للكثير من الكتاب العرب، فضلاً عن تفعيل المجهود الثقافي في تنوعاته المختلفة.
ثمة همومٌ كثيرة تعتري الخطاب الثقافي العربي، أهمها السطحيَّة والدائرة المغلقة، وفي أحيانٍ أخرى الجمود الذهني والتخوف من الأثر؛ ومع التقدم التكنولوجي الحاصل ثبت لنا أنَّ كلَّ تلك التحسبات الانغلاقيَّة لم تعد مجدية، وأنَّ العمل السليم يكمنُ في بث جماليات نزيهة تعمرُ الحسَّ الإنساني وتفضي إلى النظافة، فالفن وعناصره العميقة يتيح لنا صقل أرواحنا وتفتيح مساماتنا العقليَّة. لقد عملت الشعوب على مدى التاريخ على منح الحريَّة الثقافيَّة واستعمال معيار التقبل الفطري الإنساني، وهذا يجلب الكثير من المحاسن إذا ما كنَّا على همتنا الإيجابيَّة بقصد نشر الثقافة وتحسين قدراتنا في التعبير الوجودي. لقد كانت المجلة العربيَّة على مدى نصف قرنٍ تدرك حاجتها إلى التدرج الملتزم وإحداث تراكم خبرة لاستقطاب العقول الخلاقة التي تؤمن بالإنسان والعيش المشترك للبشريَّة وفق جماليات الفن. القائمون على المجلة يدركون، بعد مسيرة طويلة من التجربة الخلاقة، أنَّ الأدوات الصحيحة للاستدراج الثقافي هي الجديَّة وإيجاد الزوايا المناسبة للرؤية المختلفة، فالاتجاه الأمامي لمسقط البصر هو خللٌ كبيرٌ، وعلى المتصدي للعمل الثقافي إدراك قوة التنوع من خلال تعدد زوايا النظر، فالمعالجات الفعالة تأتي من التوازن في الطرح من دون إغفال النيَّة الحسنة.
في العام 2010 أخذت المجلة العربيَّة على عاتقها تنفيذ خطة تطويريَّة كي تتحول إلى مركزٍ ثقافي واسع الطيف، من خلال التعاون مع مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية لدعم مشاريع التأليف والترجمة والعناية بأدب الطفل لخلق توازنٍ معرفي وعلمي للخروج بمظهرٍ ثقافي عامٍ وجذابٍ، وهذا الأمر حقَّقَ للمجلة مكانة مهمَّة وساعدها في بلورة خطابها الجديد وتحقيق رفعة مرموقة. اليوم هذا المشروع اكتسب مكانة عالية، وبات تجربة يمكن تعميمها والأخذ بها، لا سيما أنَّ هذا الجهد جاء وفق نتائج جليَّة من خلال الحركة الدؤوبة لفعاليات الترجمة، وما نتج عنه من مكتبة ثريَّة بالمعارف المنقولة، فضلاً عن المديات الواسعة التي وصلت إليها العناية بثقافة الطفل. هذه الخطة التطويريَّة أثمرت شكلاً معنوياً أضاف الكثير للمكتبة العربيَّة وسرّعَ من النمو المعرفي الذي نحن بأمسّ الحاجة إليه.
المشكلات التي نعاني منها في ثقافتنا العربيَّة تحتاج الى الكثير من العمل والجهد، لكنْ ما يشجع على استمراريَّة العطاء هو العزيمة الجمعيَّة وإيجاد المنابر الصالحة للتعبير، لذلك نحن بحاجة ماسَّة الى المجلة العربيَّة لكي نتشبث بجذعها ونمضي قدماً في تحقيق أحلامنا.


* روائي وصحفي عراقي

ذو صلة