مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

المجلة العربية وعقود التنوير

ليس من السهل أن نجد الكلمات التي تعبر عن قدر المناسبة، وتفيها حقها؛ ونحن نحتفي بخمسين عاماً من التنوير للمجلة العربية، فالأمر أكبر بكثير، ولا يمكن أن ننظر إليه كاحتفالية لا تختلف عن مناسبة، نتقاطع معها في سياقات ومجالات أخرى، فالحديث لا يقودنا للتذكر، بقدر ما يجعلنا أمام ذاكرة عقود من الزمن، حملت كماً هائلاً من الفكر والثقافة والمعرفة، وذلك على مر عقود، شهدت تحولات كبيرة على الأصعدة السياسة والاقتصادية والاجتماعية، رافقت جيلاً مضى وهي تواكب جيلاً آخر على مدارج التنوير والتثقيف، بإرادة ثابتة وببصمة واثقة مميزة ومتميزة ومتفردة، المسافة بين البداية ومفاصل الاستمرارية ليس بتحصيل عددي لسنوات تتابعت، بقدر ما هي أفكار تلاقحت في العقول، وصور تراقصت في الأخيلة، وتجارب صقلتها الأيام، ومعارف تناقلتها الأجيال، وتطلعات للطامحين، ورؤى للحالمين، وأطباق للفكر والمعرفة بين أيادي المتلقين.
إستراتيجية البداية
لا شك أن الأمم التي طرقت سبل النجاح، وتربعت على هامات الرقي؛ لم تنطلق في بناء الإنسان والأوطان من عتبات المزاج أو الارتجال أو العناد والتقليد الأعمى؛ بل من أرضيات صلبة ومنطلقات سليمة، ولا شك أن (المجلة العربية) انطلقت من هذا المبدأ دون غيره، فرحلة الخمسين عاماً دون شك تبرز رؤية بعيدة الأمد، وإستراتيجية مدروسة، حكيمة في تراتبية للأولويات والغايات، بانضباط وإصرار. وحين يلتزم القطار سكته، فإن كل محطة هي وقفة وحلقة وغاية، تميز الطريق، لكنها لا توقف هذا القطار نحو محطات وغايات أخرى، ففي رحلة المجلة محطات كثيرة متشابهة ومتباينة، موازاة مع اختلاف أو تشابه مراحل بعينها وسمت خمسين سنة، لكنها ظلت تحافظ على وجاهتها وخصوصيتها ورسالتها التنويرية، ولم تتغير بتغير الرجال والأحقاب إلا بالقدر المسطر لها والهدف المنوط بها والدور الذي تضطلع به فكرياً وثقافياً وحضارياً واجتماعياً.
إستراتيجية إدارة المعرفة
المتتبع لمسيرة (المجلة العربية)، سيكتشف لا محالة تلك الهالة غير المرئية التي تظل تصاحب المحتوى بكل مواضيعه وأشكاله وأذواقه، وإجراءات كثيرة تستند على منهجية ترتكز على مؤشرات ودلائل تهدف إلى توجيه صناعة المحتوى، واستشراف مخرجاته، وتطويره بما يتناسب وقدرته على التأثير داخل البيئة المستهدفة في المجتمع السعودي والمجتمعات العربية على الصعيد الفكري والمعرفي والثقافي والاجتماعي، ولا يتأتى هذا إلا من خلال إستراتيجيات تنظيمة في منظومة متكاملة لصناعة المحتوى وتوجيهه وتسخير الأدوات والأفكار والموارد البشرية في تشكيل أنساق الوعي، وخلق منصات مؤثرة لتوجيه الأفراد والجماعات وضبط مواقعهم الفكرية والثقافية والاجتماعية.
إرث متجذر وتجربة إعلامية راسخة
تظل (المجلة العربية) بلا منازع من أبرز المجلات العربية تموقعاً وحضوراً وتفرداً طيلة عقود، تخوض في تناول قضايا الساعة في السياسة والاقتصاد والثقافة ومجالات أخرى متعددة من علوم وغيرها، بمحتوى ثري عميق، تعرض وجبات متنوعة للمتخصصين، وغير المتخصصين، حيث يبلور محتواها التحريري تناغماً هادئاً مع اهتمامات صناع القرار، مما أهلها لأن تتبوأ الصدارة باستحقاق، زادها في ذلك رهانها على نخبة من الكتاب والصحافيين والباحثين، كما فتحت المجال أمام مساهمات جادة وواثقة لكثير من المتعاونين في مختلف القضايا، لتشكل خلية نشطة لفريق متمرس بسقف عالٍ من الاحترافية، لتبرز على صفحاتها أبحاث وتحقيقات ومقالات ودراسات تتميز بالثراء والعمق والدقة والمصداقية.
رهان التجديد والتطوير
لا شك أن التحول الحاصل في عالم الإعلام بشكل متسارع، مع بروز المنصات الرقمية المتعددة والوسائط المختلفة؛ لم يؤخر المجلة العربية عن الركب في إثبات أحقيتها في الاستمرار وتصدر المشهد الإعلامي في مجالها، محافظة على إرثها الكبير، من خلال إستراتيجية جديدة تضمن لها الاضطلاع بمسؤوليتها في المحافظة على استمراريتها واستمرار تأثيرها في الحقل الإعلامي وصناعة المحتوى المطلوب والمتفرد والمساير للراهن بكل توصيفاته، بجهد إعلامي موثوق مؤثر بامتياز في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، بتماثلات الوعي ومقتضيات توجيهه لتكون مرجعية في المصداقية والدقة والاحترافية على المستوى الإقليمي خليجياً وشرق أوسطياً.
رعاية سامية وريادة مستحقة
أن يستمر هذا الصرح الإعلامي لنصف قرن من الزمن، وهو يتسم بقدر عالٍ من الحماس، وبنفس متجدد متحفز، في عالم أصبح يستيقظ على متغير ويمسي على نقيضه؛ دلالة أن وراء هذا الصرح حكمة تلهمه السبيل، وإرادة سياسة حكيمة تدرك أهمية الإعلام والتنوير ونشر المعرفة وتشكيل الوعي والمواكبة الحضارية لمتطلبات العصر، بما يعكس قيم الإعلام بين أفراد المجتمع والحق في المعلومة، وتسخيره في التعريف بثقافة وعادات وتقاليد المجتمع وقيمه وتطلعاته الاقتصادية والسياسية، فكانت (المجلة العربية) صورة ساطعة للمجتمع السعودي المتفتح على الآخر ومرآة عاكسة للمجتمع العربي، وعيناً على العالم كله بما تضعه بين يدي القارئ بكل موضوعية واحترافية والعاقبة لمئة سنة.


* روائي، ورئيس تحرير جريدة كواليس

ذو صلة