كنت طالباً في كلية الهندسة بالقاهرة عندما وقعت عيناي لأول مرة على (المجلة العربية)، فداومت عليها، وإن لم تخني الذاكرة نشرت لي تعليقاً قصيراً في أحد أبوابها آنئذ. كنت أرى فيها صحافة مختلفة المحتوى والطرح، تهتم بالرصانة دون استعلاء، والفكر الموضوعي دون تطرف.
دوائر الوعي العربي خلال سبعينات القرن الماضي -حينما وُلدت المجلة العربية- كانت تتشكل على ضفتين متقابلتين من الثنائيات، بعبارة أخرى، أن تنشأ الفكرة دائماً في مقابل أخرى، أو رد فعل عليها، فيدور الجدل بين فسطاطين بينهما برزخ لا يلتقيان، ولا يهتمان كثيراً بالحقائق والمنطق بقدر البحث عن إحراز النقاط في الآخر.
وهذا المسلك أدى في النهاية لنمو الاستقطاب الممعن في الضِدّية، وشكل المنصة التي ينشأ عليها ويترعرع فيها التطرف بمختلف أشكاله، في السياسية والدين، بل والأدب والفلسفة والعلوم أيضاً.
وحينما بلغ هذا الاستقطاب مداه أفرغ حمولة ثقيلة على الأجيال التي تفتق وعيها في الثلث الأخير من القرن العشرين، وانعكس على كثير من الأحداث خلال تلك الفترة المضطربة.
في مسيرة (المجلة العربية) كان الوعي منزهاً عن استسهال امتطاء صهوة جواد المعرفة ذات الأنياب الحادة، بل الانسياب بسلاسة لا تتجاهل مطلوبات التشويق وجاذبية الطرح.
حاولت استعادة أرشيف من ذاكرتي لما اطلعت عليه قبل سنوات طويلة في (المجلة العربية)، ثم البحث في الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) لما قد يكون فاتني من كنوز معرفية نشرت خلال سنوات ماضية.
لفت نظري أمران:
الأول: الملفات التي تطرقت إليها (المجلة العربية) عبر مسيرتها، والنهج الاستقصائي المزدحم بالمعلومات بعضها يصعب الحصول عليه أو تجميعه من مصادر متفرقة.
هذه الملفات تحفر بعمق في قضايا أو موضوعات محددة، وتمنح القارئ القدرة على تكوين رأيه بمنتهى الأريحية. بل أحياناً يبدو العرض حافلاً بلوحة من الآراء تتيح مساحة أوسع للتنوع والطرح الفكري الحصيف.
مثالاً لذلك، الملف الذي تناول الأمثال الشعبية، لا من زاوية معانيها ومدلولاتها، وهو الطرح المعهود، بل من زاوية انحسار استخدامها في مقابل أقوال الفلاسفة والمفكرين والعلماء. وهل لذلك دلالات لغوية أم فكرية أم ثقافية ترتبط بتعاقب الأجيال المعرفية في عالمنا العربي.
الملف لا يُرِغم القارئ على تبني إجابات بعينها، بقدر ما يستثير شهية الأسئلة التي تفتح آفاقاً لا حدود لها في البحث والخلاصات.
أثار في نفسي هذا الملف أسئلة كثيرة حول بعض الأمثال الشعبية السودانية، التي تبدو في ظاهرها تنميطاً سالباً للمسلك العام، لكنها حقيقة تمنح الصورة -لا المعنى- الذي يرفض هذا المسلك. هذه الأمثال تعرضت لتجريف مع الزمن فباتت باهتة في عقول الأجيال الحديثة، تراجعت لصالح مقولات توفرها ماكينات البحث في شبكة الإنترنت، قد تفتقد لحساسية المكان والزمان.
الثاني: الكتاب المرفق مع عدد (المجلة العربية). في تجربتي الخاصة أجد كثيراً من الكتب التي أحياناً تحتاج لما يعضد حيثيات تكبد قراءتها. الشروع في قراءة الكتاب أحياناً تبدو أقرب إلى عملية دراسة جدوى تحدد قابلية تنفيذ المشروعات، وتتطلب حافزاً معنوياً فيما يتوقعه القارئ من الكتاب.
خلال تجوالي في معارض الكتب التي أزورها باستمرار -وما أكثرها- يخامرني إحساس التملك لكل ما تقع عليه عيني من عناوين، أشبه بمن يرى مائدة ممتدة من ألوان الطعام الشهي و(فاكهة وأبا) فيأكل بعينيه أضعاف ما يطيقه فمه. وغالباً أشتري أكثر مما يوفره لي زمني وظرفي من قدرة على الاطلاع، فيظل الكتاب في مكتبي حيناً من الدهر، إلى أن يفتح الله لي بفرصة لأطالعه.
بعض الكتب قد لا يكون مهماً أن تقرأه من الغلاف إلى الغلاف، إما لأن بعض الفصول خارج دائرة الاهتمام الشخصي، أو لأن بعض المعلومات معروفة سلفاً، فيبقى في النهاية البحث عن خلاصات أو التنقيب في الصفحات عن الجديد، ولو بالتصفح العاجل، ربما من جدول الموضوعات (الفهرست).
في كل الأحوال الكتاب المرفق مع أعداد (المجلة العربية) يحوز على تزكية من كونه اختير من بين مئات الآلاف، بواسطة أعين وعقول خبيرة، فكأنما تميز بنجوم -أشبه بما تتمايز به الفنادق الفاخرة- فتنشأ دافعية وجاذبية للقراءة تجعل العين تلتهمه بيسر ويهضم العقل ما فيه من معارف ومعلومات بسرعة دون مجهود.
قدمت (المجلة العربية) للمكتبة أرشيفاً ماسياً يستحق الاحتفاء به.
* كاتب صحفي ومحلل سياسي، رئيس تحرير جريدة التيار السودانية