مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

المجلة العربية في يوبيلها الذهبي

تحتفي دنيا الثقافة العربية هذا العام بالمجلة العربية في عيد ميلاها الخمسين.. أي بيوبيلها الذهبي، إذ قبل خمسين سنة وبالتحديد سنة 1974 أمر المغفور له الملك فيصل بتأسيسها ليظهر أول أعدادها في السنة الموالية، ولتنطلق مسيرة موفّقة أشرفت عليها وتعهّدتها بالرعاية أقلام نيّرة منذ كانت مجرد فسيلة حتى غدت نخلة سحوقاً لا يمكن تجاوزها وعدم الانتباه إليها في دنيا المنشورات العربية.. كما وجد هذا الغرس الزكيّ تربة صالحة للزراعة، مساعدة على النمو وبيئة حاضنة تعوّدت منذ غابر الأزمان أن تحتفي بثمرات القرائح فتُعلي من شأنها وتُجلّها وتنوّه بها وتجعلها في أجلّ مكان وتعلّقها على أستار أقدس موضع عندها حتى تلقّبت بالمعلّقات.. فلا غرابة إذن أن تنمو أزاهير الفكر وتترعرع في بيئة هذا ماضيها وإنها لظاهرة جديرة بكثير من التأمّل والتوقّف عندها..
لقد عزّزت المجلّة العربية الثقافة العربية ودعمتها وساهمت في نشرها وتجذيرها وإبرازها بوجه مشرق، وساهمت في حمايتها من الذوبان في عالم انتفت فيه الحدود وضيّقت وسائل التواصل المسافات وقرّبتها حتى وُصف العالم في ظلّ التطوّر التكنولوجي الاتّصالي الهائل بأنه أصبح مجرّد قرية كونية.. وقد تنبّهت قوى كثيرة إلى هذه الظاهرة واستشرفتها وانطلقت في التنظير لها وبرز إلى السطح مصطلح جديد يختزل آثار هذا التطور في مختلف المجتمعات، ونعني بذلك مصطلح العولمة.. ولئن يسّر هذا التطوّر تدفّق السلع وتبادلها بين أقصى أصقاع المعمورة وأقصاها، أيْ تدفّقَ الأفكار باعتبار أن كل سلعة مهما علا شأنها أو صغُر فهي قاطرة أفكار، فقد أثار المخاوف من هيمنة ثقافة على ثقافات أخرى وابتلاعها وهضمها بل واندثارها ومثّل ذلك تهديداً جدّياً للهويات المحلية ذاتها التي أصبحت معرّضة لعصف الرياح من مختلف الاتجاهات واشتدت الحاجة إلى منتجات فكرية تكون مصدّات لهذه الرياح فلا يسلك منها إلا النافع وما يلقّح الغروس وتسْلَم شجرة الثقافة المحلية من تعرّي الأغصان واقتلاع الجذور.. إذن حماية وانفتاح في آنٍ، فلا هي بالعزلة والانغلاق المقيتين ولا هو بالانبتات والذوبان في الآخر، ويكفي استدلالاً على ذلك النظر في الأبواب القارّة للمجلّة: هذا قسم تحت عنوان ثقافات وتقارير يجد فيه القارئ فسحة للاطلاع على ثقافات متنوعة مختلفة من زوايا متعددة ويُعتبر نافذة مفتوحة على العالم بما يعتمل فيه من أفكار وما يزخر به من معالم يحسن الإلمام بها، وهذا قسم يُعنى بالفنون بكل أصنافها، مثل الفنون التشكيلية من الرسم بمدارسه المتعددة إلى التصوير والنحت وفن العمارة والخط وفن السينما والمسرح والموسيقى والغناء يُضاف إلى ذلك قسم تحت عنوان كتب وقراءات وفيه مقالات وفصول تهتم بما يُنشر ويذاعُ في الناس من كتب سواء كانت تتضمّن أعمالاً إبداعيّة أو نقداً وقراءات خاصة لأعمال إبداعية وغيرها وذلك حتى يبقى المثقف العربي على اطلاع ودراية بما يجدّ في دنيا الفكر والإبداع.. إلى جانب ذلك تُعنى المجلّة بالتراث بمعناه الواسع من التراث المحلّي إلى التراث الإنساني.
وفضلاً عن ذلك فقد أتاحت المجلّة الفرصة لكلّ ذي قلم للنشر واحتضنت إبداعات المبدعين شعراً ونثراً وفي كل فنون القول ومجالات الكتابة حتّى غدت بحقّ روضة غنّاء لا غنى عنها لكل مثقّف عربي يرغب في تمتين صلته بدنيا الفكر.
وقد سنّ القائمون على المجلّة سنّة حسنة إذ يحرصون على إرفاق كل عدد بكتاب يختارونه من أي مجال من مجالات المعرفة بما يؤكّد أن الغاية من وراء المجلّة هي في المقام الأول نشر المعرفة وإيقاد مشعل الشغف بها لدى القارئ العربي عسى أن يستعيد مشعل الإسهام في صنع الحضارة كما فعل أجداده من قبل..
أخيراً تحيّاتي ومحبّتي لكل القائمين على هذا الصرح وكل عام وأنتم بخير.


*فنان تونسي

ذو صلة