مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

فن الخط العربي في تونس.. مسيرة ومسار

لقد بدأت فصول حركة الخط العربي في تونس بظهورها على النقوش بين القرن الثاني والثالث للهجرة في عهد الأغالبة بالقيروان، ثم جاءت مرحلة بني زيري وأضافت عديد الكتابات الرائعة منها على الخشب والرق الأزرق والرق الأبيض بخطوط كوفية متنوعة وكذلك في عهد الحفصيين الذين وظفوا أيضاً الخط الكوفي المربع المستورد من المشرق على العمارة في سنة 910 هجري، ثم جاء العهد الأندلسي وبعده العهد العثماني حافلين بأساليب حضارتيهما، فالعثمانيون رسخوا أساليبهم في خطوط الثلث والنسخ التي تعلو أبواب المساجد والمداخل وتربة البايات والتكايا والمدارس.
وكان للأندلس خطوط منها المبسوط الأندلسي، والمجوهر والثلث المغربي وكانت قيد الاستعمال في تونس إلى حين استبعاد التدريس الإسلامي من جامع الزيتونة في أوائل ستينات القرن الماضي وأما الخط التونسي الذي هو أيضاً من مشتقات الخط الأندلسي والمغربي فكان من ضحايا هذا الاستبعاد وتم تعويضه بخطوط مشرقية لسد الحاجات المطبعية والغرافيكية فقط ومنها خط النسخ الذي تم توظيفه في المناهج المدرسية واستبعاد الخط العربي كمادة فنية من مدرسة الفنون الجميلة تسبب في ركود على المستوى الفني والإبداعي امتدّ إلى حدود العشرية الأولى من هذا القرن حيث بدأ الخطاطون التونسيون يستعيدون تراثهم وهويتهم الخطية ابتداء من تعلم كتابات القرن الخامس الهجري إلى كتابات هذه المرحلة التي نعيش مروراً بمخرجات المراحل المذكورة ومواكبة للحركة الفنية العالمية ذات الأسلوبين التقليدي والمعاصر.
لو انطلقنا من الجامع الأعظم بالقيروان الذي أتم بناءه الصحابي عقبة بن نافع في أواسط القرن الأول للهجرة وبعد أن تم توسعته سنة 248 هجري أمر أحمد بن محمد الأغلبي بكتابة سورة الإخلاص ونص الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم على جدار المحراب وكانت بالخط الكوفي العتيق الذي هو قريب من الحجازي المكي والمدني والذي تقتسمه معه عدة جوامع أخرى منها جامع الزيتونة الذي تزدان به قبة المحراب ورواق الأقواس في الصحن وجامع سوسة الذي تعلو كتاباته السور الداخلي للصحن وبه أول زخرفة أضيفت إلى لفظ الجلالة في التاريخ وكذلك جامع الثلاثة أبواب وقد بناه ابن خيرون في سنة 252 هجري والذي تعلو واجهته الكبيرة خطوط تلك المرحلة مع وحدات زخرفية غير متشابهة وقريباً منه جامع أبي ميسرة وكذلك الجامع الكبير بمدينة صفاقس وكل هذه المساجد منها ما جُدّد بناؤه ومنها ما تم بناؤه في أواسط القرن الثالث للهجرة.
وفي هذه المرحلة برز المصحف الأزرق المشهور والمكتوب بماء الذهب على رق أزرق بنفس أسلوب الخطوط التي كتبت بها المساجد مع مصاحف أخرى مشابهة كتبت بالحبر البني على الرق الأبيض ولم يتم تحديد سنة كتابة المصحف الأزرق بالضبط لكن إذا قارنا خطوط النقائش التي تعلو المساجد المذكورة بخطوط المصحف فهي متشابهة تماماً وهذا ما يؤكد أنه كتب بين القرنين الثاني والثالث للهجرة في عهد الأغالبة.
كان لمرحلة العهد الزيري أثر بارز في تعدد أساليب الخط الكوفي وتعدد محامله إذ تمت في فترته كتابة مصحف الحاضنة المشهور باسم فاطمة حاضنة الأمير أبي مناد المعز بن باديس بن منصور الصنهاجي وهو وقف على الجامع الأعظم بالقيروان في السابق، كتبه علي بن أحمد الوراق سنة 405 هجري ويسمى بالخط الريحاني وسمّي كذلك بالخط القيرواني.
وبرزت مصاحف أخرى تحمل خطوطاً كوفية متعددة الأساليب وبأكثر دقة في طريقة تنفيذها وتختلف عدد أسطرها في الصفحة الواحدة من 3 و5 و7 و9 و10 ثم تصل إلى 20 سطراً.
ثم كان في جامع القيروان مقصورة المعز بن باديس يحيط بها سور خشبي نُقش عليه خط كوفي في غاية من الجمال وذو أسلوب فريد من نوعه مع وحدات زخرفية نباتية.
وكذلك تم توظيف كثير من الخطوط الكوفية على شواهد القبور منها البارز ومنها الغائر وكتب كثير منها على الأواني الفخارية.
- ثم في العهد الأندلسي تحول الخط الكوفي إلى خط لين دقيق يستعمل في الكتابة العادية فأدى ذلك إلى ظهور الخط القرطبي المبسوط فأصبحت سمة التدوير غالبة عليه وقد أثرت المدرسة الأندلسية على الخط المغربي تأثيراً مباشراً.
ثم انتقل هذا الخط من المغرب إلى الجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا وبلدان الساحل الإفريقي ووصل إلى السودان من جهة حيث تولدت الأسلوبية وأصبحت واضحة في كثير من الفروقات بين الأحرف، وجاء أيضاً من الأندلس عبر الأندلسيين أنفسهم مع هجرتهم عند سقوط دولتهم إلى بلدان شمال إفريقيا من جهة أخرى فأصبح لكل بلاد أسلوبها الخاص.
وفي العهد العثماني الذي مرّ على تونس أضفى أيضاً مسحة خطّيّة جميلة مازالت قائمة إلى اليوم وذات خصوصية على المباني لم نجد مثيلها في أماكن أخرى وتجسدت في الكثير من اللافتات الرخامية على مداخل المساجد والمدارس والمقابر وأغلبها كتب بخط الثلث بطريقة حفر الرخام وصبّ الرصاص الذائب على الحروف مما جعلها تقاوم تأثير الطبيعة على مدى عشرات السنين.
لقد برز أحد الخطاطين العظام في القرن الثاني عشر هجري وهو الحاج زهير باش مملوك والذي كتب خمسة مصاحف بالخط التونسي وتم طبع أربعة منها ومن أهمها مصحفان الأول كتبه في ستين صفحة بمعدل حزب واحد في كل صفحة والثاني ما سمي بالمصحف المرآتي أي كتب المتشابهات من الصفحة الأولى هي نفسها الموجودة في الصفحة المقابلة في نفس السطر والمكان بحيث تتلاقى المتشابهات عند غلق المصحف وهذه من الإبداعات التاريخية في تونس التي لم يكن لها نظير.
وفي سنة 1888م بدأ تخصص الصحافة بالظهور في تونس مع جريدة الحاضرة وبدأت معها حركة الخط العربي تدب شيئاً فشيئاً مع صدور عدة جرائد أخرى وبدأت المطبعة تتطور وأصبحت الحاجة ملحّة إلى توظيف الخط العربي على أعمدتها إلى أن وصلت أوجها في ثمانينات القرن الماضي وكان عديد الخطاطين عملوا في هذا التخصص بأساليب متنوعة من الخط منها الرقعة والنسخ والتعليق وبعض الخطوط الحرة تماشياً مع نوعية المواضيع المنشورة، وتم استعمال الخط العربي في المجلات وأغلفة الكتب والمعلقات الإشهارية وعناوين البرامج التليفزيونية ولكن بقي هذا التخصص نشطاً إلى أن وصل (تسونامي) الحاسوب حيث تم الاستغناء عن جمال الخط العربي وتعويضه بخطوط إلكترونية جافة وغير حيوية مما أثر سلباً على مستقبل الخطاطة، وغادر بعض الخطاطين تخصصهم ومنهم من واكب موجة هذه التكنولوجيا ويعمل عليها إلى الآن ومنهم من توجه إلى المجال الإبداعي في كتابة اللوحات والمشاركة في المعارض ومنهم من فتح محلات لكتابة اللافتات القماشية واللافتات الضوئية والقليل ممن لا يزال يعمل مع المطبعة بالطريقة التقليدية في كتابة دعوات الزفاف وما إلى ذلك من هذه الطلبيات.
فن الخط العربي اليوم
ما يتصل بالمسألة الإبداعية في تونس اليوم فإنها منقسمة إلى ثلاثة أقسام هناك مجموعة محافظة اتخذت سير الأقدمين في أعمالهم. وهناك مجموعة مزجت بين التراث والمعاصرة ووازنت بين المقروئية والتشكيل وهناك من اتخذ فن الحروفية كاتجاه قائم الذات منذ مدة كبيرة والذي اتخذ أشكالاً عدة وفق أساليب الفنانين وعلى اختلاف تقنياتهم ومشاربهم الفنية وأصبحت أعمالهم وأساليبهم معروفة دولياً.

ذو صلة