مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

أوجاع الرحيل

الوداع رمق الأرواح الأخير، والفقد موعد يجدده الحنين، والرحيل حكاية ترويها الأيام، والموت نهاية الحياة والوجع.


لم يشفِ وصلُكَ في الفؤادِ غليلا         أعجلتَ عنّا! هلْ عزمتَ رحيلا؟
أزمعتَ أن تذرَ القلوبَ حزينةً،        وتركتَ روحي لا تريدُ بديلا
أسرجت خيلَ الذكرياتِ مودّعاً        لتذوبَ في جمْرِ الوداعِ عجولا
أَلِفتكَ أوجاعُ الرحيلِ وحينما        أشرقتَ منها، عاودتك أفولا
ما أنتَ إلا فرحةٌ مغروسةٌ            نبتت بقلبي ما عرفتَ ذبولا
هيأتُ مُتكأ الجمالِ محبةً            وعزفتُ لحنكَ بالوصالِ جميلا
ألقيتُ أمتعتي وصوتي متعبٌ        وحطامُ روحي ما يزالُ هزيلا
إنْ تمنحِ القلبَ المُحبَّ مودةً        فلقدْ منحتُكَ بالودادِ جليلا
ارحلْ، وخذْ منّي الشغاف فإنّها        لم تلقَ في كنفِ الوجودِ مثيلا
النّفس بعدكَ في الحياةِ كطفلةٍ        ترنو إليكَ ملاذها المأمولا
ما زالَ يحرقها الوداعُ ولم تزلْ        عينايَ تنزفُ للفراقِ طويلا
قلبٌ تمرّس بالجراحِ ثخينةً            كسرتْهُ آلامُ الحياةِ عليلا
لم يتخذْ غيرَ المحبةِ موطناً            لكنّه حُرِمَ الوصالَ سبيلا
قفْ، لا تودعْ، فالرحيلُ جراحُهُ        وجعٌ تخثّرَ في الحشا مسلولا
لا تثنِ أطرافَ الكلامِ مُفارقاً            حسبي اتخذتُك في الفؤادِ خليلا
كالسندبادِ وقدْ توغلَ في المدى        كلفا، وخابَ إلى النجاة وصولا
غادرتني، وغدوتُ وحديَ مُرهقاً        لأخوضَ بعدَكَ عالماً مجهولا
ورسمتَ أوهامَ الإيابِ كغيمةٍ        وهبتَ لنا وهم الرجوعِ فضولا
في القلب منزلةٌ لحُبّكَ إنّني        توّجت حُبَّكَ في الهوى إكليلا
إنّي بكيتكَ إذ تلّوح راحلاً            شمساً تُودعُ في المساء طلولا
عدْ، لا تؤجلْ، فالحياة قصيرةٌ        أحلامُها لا تقبلُ التأجيلا
ما أطرقَ الطرفُ الكئيبُ بحسرةٍ        إلا ليصدحَ في الفؤادِ صهيلا
لا تسق أغصان المواجع دمعةً        فلقد غدت أشجارهنّ محولا
صرخاتُ أضلاع المُحبِّ طويلةٌ        لتكادُ تسمعُ من لظاهُ صليلا
هبْ أن ملكيَ لا يطاوله السّنا        أتُرى سأملكُ - إنْ رحلت - فتيلا
زمنٌ يجودُ بكلّ شيءٍ إنّما            بترَ العلائقَ بكرةً وأصيلا
لم يتركِ الدهرُ القلوبَ سليمةً        حتى تفارقَ مَنْ هويتَ قتيلا
أيقظت أحلامَ الرحيلِ ولم تعدْ        لتنامَ حتى تطفئَ القنديلا
الذكرياتُ على ضفافِ توجسٍ        تُخفي على وجع الحنينِ غليلا
سكنتْ جراحُ الراحلينَ مشاعري        وغدا فؤادي بالأسى مأهولا
كم لوعة بعدَ الغيابِ بخاطري        وسمتْ تباريح الجراحِ دليلا
منذ التفتُّ وجدتُ روحَ تساؤلٍ        تكسو الطريقَ وتفتحُ التأويلا
يمشي بنا الجسدُ المُحطّمُ ذابلاً        والقلبُ إثرَ رحليهمْ مشلولا
ما الراحلون سوى ضياءٍ خاطفٍ        ليعودَ طرفُ العاشقينَ كليلا
شكوى تفاصيلِ الفراقِ أليمةٌ        كم عادَ منها خاطرٌ مخذولا
تشقى النفوسُ إذا تجدّدَ موعدٌ        للبيْنِ يعتصرُ القلوبَ عويلا
يا موعدَ الآلامِ حسبُك إنّما            أرهقتَ قلباً بالوفاءِ نبيلا
ألقيتَ أحزانَ الفراقِ بمُهجتي        وجعلتَ يومَك في الضلوعِ ثقيلا
المتعبون على شواطئِ حُلمهم        يترقبونَ لقاءك المعسولا
يتفجعون على غيابك هيأوا            نصُباً لطيفك قد أتوه فلولا
يتوافدون تورّدتْ شهقاتهم            أجعلت حزنك في القلوب وكيلا؟
هذي مواجعهم تئن كئيبةً            تختال في وجه الرمال حمولا
ما سلوةُ الأيام إلا قسوةٌ            قد نكّلتْ بقلوبهم تنكيلا
يهوي بهمْ زمنٌ يسيرُ وتنزوي        أزهارُهم تطوي اليباس حقولا
قهرت ظلال الراحلين قلوبهم        كم صار قلبٌ بالرحيل ذليلا
يا غربةَ الآمالِ تطحنُ حلمهم        أضحى بها عهد الزمانِ بخيلا
ليت المشاعر في الخرائط رُسّمت    كيما نميّزَ عرضها والطولا
ونعيد تشكيل المسافة بيننا        ونرى الزحام فلا نجاوز ميلا
تعبت مشاعرنا وأرهقها السُّرى        وجعاً تذوب به القلوب نحولا
يكفي من الزمن التفات مودعٍ        ليزيد من دمع الحنين مسيل

ذو صلة