مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

ضياع

على المقعد الخشبي المطل على البحر. أرافق والدتي العجوز في الأماسي الصافية. نهرب من صخب الحياة، لنستنشق النسيم البحري المنعش. فأنا الملاذ الوحيد لها، وآخر الباقين من عائلتنا الصغيرة. ‏أجلس بجوارها نتحادث طويلاً ونتناول القهوة من البائع المتجول القريب. منذ سنوات وأنا أعاني من الكوابيس المظلمة، تنهشني الذاكرة الغارقة في القدم بمخالبها الحادة. نفس الأفكار السوداء تجرحني في الصميم. ويتكرر ذلك السؤال آلاف المرات.
- من أنا؟
- أحمد أم محمود؟
أنا ومحمود توأم حقيقي، ومنذ ولادتنا في هذا العالم القاسي، كان من الصعب التفريق بيننا.
اشترى والدي أساور تحمل اسمينا لتمييزنا، وكنا نضحك كثيراً حين نستبدلهما سراً.
لن أذكر القصص المثيرة، والكثيرة التي كنا نتبادل فيها الأدوار في المدرسة، دون أن يلاحظنا أحد.
نحب أسمينا وندخل بدوامة نقاش طفولية حادة حول أيهما أجمل؟
حتى جاء اليوم المشؤوم.
في المساء وقبل العيد تماماً، كانت والدتي تطحن اللحم بطاحونة يدوية، وتعاني من الإرهاق طوال النهار.
لا أعرف أين ذهبت فجأة!
حاولنا استغلال غيابها لمساعدتها.
وبدأتُ بتحريك الذراع، كان أخي يتمتم بأغنية وهو يضع قطع اللحم في فوهة الطاحونة.
فجأة!
صرخ أخي بصوت مرعب.
وحين رفع يده، كانت سبابته قد التهمتها تلك الطاحونة اللعينة.
سال الدم غزيراً، وكذلك دمعي.
في تلك اللحظة حدث الزلزال الذي دمر عوالمي، والإعصار الذي هدم ملاعب طفولتي الجميلة.
ومنذ تلك الحادثة أصبح تمييزنا سهلاً، وبمجرد تأمل أصابعنا.
بات أخي الطفل المدلل للعائلة، ويلازم والدتي في أغلب الأوقات.
حدث ذلك في سن العاشرة.
‏وتحولنا بعدها كقابيل وهابيل.
وافترق التوأم الرائع وللأبد.
كنت أحلم دائماً بحضن والدتي، يلمني ويجمع شتاتي المبعثرة.
حين زحفت الحرب نحونا، وبات الدمار ينتشر في المدن الآمنة.
كنا قد انتهينا من دراستنا الجامعية.
وتم سوقنا للجبهات المشتعلة.
في أحد الخنادق، وفي هذا الأتون المرعب.
كنا نستذكر طفولتنا بحسرة.
اعتذرت له كثيراً كلما لامس حديثنا الجرح الذي لا يندمل.
وكان يسامحني مبتسماً، ويقبّل جبيني.
وفي لحظة أهرب دائماً من استذكارها حدث الزلزال الثاني.
في ذاك اليوم المرعب تعرضنا لهجوم ليلي، وانفجر لغم تحت قدمي أخي، وتناثر جسده.
في حينها كدت أموت حزناً.
وما زاد من ألمي هو: كيف سأقابل حزن والدتي؟
وكيف سيتحمل قلبها الضعيف تلك الصاعقة القاتلة؟
حين رافقت جثمان أخي.
تمنيتُ ومن كل جوارحي، لو انفجر ذاك اللغم الأحمق تحت قدمي.
فقد كنت أحسده وهو الذي غادر هذا العالم المرعب.
قبل المنزل بقليل وفي سيارة الإسعاف، التي تخرق صمت القرية بصفيرها المميز.
أخذت قراري الذي لا رجعة فيه.
ودون تردد، نزعت الحربة الحادة من بندقيتي، وقطعت سبابتي.
انتشلني من تدفق شريط ذكرياتي صراع النوارس المترافق مع عودة الصيادين.
كانت الشمس تختفي تدريجياً وراء الأفق البحري.
صاحت والدتي بعد أن استفاقت من غفوتها:
- محمود.
- ‏هيا بنا نعود إلى البيت يا ولدي.

ذو صلة