مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

نظرات عابرة

في هذا الصباح أيضاً فتحت نافذتي، نظرت فرأيتُه يجلس في القارب على مقربة من شاطئ النهر، لا يملك شيئاً سوى هذا القارب والشبكة، أتابع هذا الصياد العجوز كل يوم، في مثل هذا الموعد يتحرك الصياد إلى عرض النهر، يلقي شبكته، أنا معه كأنني أتعلم فنون الصيد القديمة منه، أجده يمسك عصا طويلة يضرب مياه المنطقة المحيطة به، يجمع شبكته في نظام ويلقيها في تسلسل منتظم كحبات العقد على وجه المياه، مثلما يفعل الفلاح عندما يبذر بذوره في الحقل، ثم يمسك مجدافيه ويدور حول شبكته وينتظر. أنا أرَى معه أتابع، وجدته ينزع ثيابه سريعاً ويقفز في البحر، شدني المنظر، ماذا هناك، غريق أم علقت شبكته ثم قفز يحررها؟!
يصارع العجوز شيئاً مجهولاً، أراه يغطس ثم يطفو، المنظر غير واضح تماماً من شرفتي، سريعاً أرتدي سترتي، أذهب بسرعة إليه، أدقق النظر، اقتربت أكثر، المشاهدة لم تكن كاملة لكنها أفضل، يطفو العجوز كأنه يستنشق الهواء لتجديد الأكسجين في رئته، أحاول أن أقدم يد العون، أشعر بالحزن، أنا لا أجيد السباحة، الأمور تزداد صعوبة، هل أصرخ وأطلب المساعدة؟ لايزال الوقت مبكراً لخروج الأهالي، فعلتها طلبت النجدة. جاء واحد من بعيد، تابع المشهد معي، نزَع سترته، تقدم بحرص، أنا خلفه خطوة تلو الأخرى، أتحسس بقدمي أرضية النهر التي غمرتها المياه، لم أبلغ العمق بعد، الحماس يجذبني بقوة لإنقاذ هذا العجوز، أو بالأحرى معرفة مع من يتصارع.
اقترب المُنقذ من العجوز، استند على القارب، يبدو أنه سابح مبتدئ، شاهد ماذا يفعل الصياد، دخل هو الآخر في الصراع المحتدم بين العجوز ومَن بالنهر! شعرت بالخوف أكثر على الشاب الذي دخل في المعركة، وأنا أشك أن يكون سباحاً محترفاً، الفترة تجاوزت نصف الساعة، أخاف الدخول أكثر والمخاطرة، أصرخ إليهم: (ماذا بكم؟ هل أنتم بخير؟)
لم يأتِ الرد، الصراع محتدم، العجوز في المقدمة والشاب يستند بالقارب، والمجهول الذي بدأت تظهر معالمه، برأس سوداء كبيرة، تناوش، تحاول أن تقفز بينهم، حركاته عشوائية، الرؤية ضبابية إلى حد ما، أشعر بالاضطراب، أسمع صرخات العجوز يقول: (تقدم تقدم لا تخف، أصبح في متناول يدي، لن تغرق، حوطه بذراعك الأخرى)،
الشاب يتمرس في الخبرة، يقفز بكتلته على المجهول، أظن أنها سمكة كبيرة يصعب صيدها، لن يكون هذا غريقاً من بعد المئة متر، جاء صوت العجوز: ألقِ لنا بالحبل، سمعته وفرحت جداً، ولكن أي حبل، كيف أرسله لهم: أنا أسبح على الشط ولا أدخل إلى العمق، ثم أنظر يميناً ويساراً، أي حبل يريد؟ ما من حبال هنا، أشار لي أن الحبل في عدة الصيد على القارب، صحيح المسافة بيني وبين القارب اقتربت جداً حوالي خمسة أمتار، لكن هذا غير كاف للمخاطرة، قالوا لي: هيا تعال لا تخف نحن معك.
لم أخاطر، تسمّرت مكاني، ورفعت يداي معلناً عجزي عن خدمته، تمنيت لهم الحظ السعيد من قلبي. دقائق ربما تجاوزت العشرين دقيقة؛ حتى وجدتهما عائدين ظافرين برفقتهما وحش كبير على ظهر القارب البدائي، صدمني المشهد ما يكون هذا؟!
لعله يكون قرشاً أو حوتاً، كيف؟
وضحت الرؤية، كانت سمكة البياض، ربما تجاوز وزنها خمسة عشر كيلو، أتعجب من جمال هذا الكائن الذي خرج للتو من النهر ومن رضوخه العجيب بمجرد خسارته المعركة.
ربّتُ أولاً على ظهر الشاب الشجاع، أثنيتُ عليه، ثم شددت على يد العجوز المغامر، فرحت لهم، شرع العجوز يمسك سكينة بطريقة الهجوم، ارتعدت جداً، ثم ماذا سوف يفعل بنا؟
حاولت التراجع للوراء، قال لي: انتظر سوف نقتسم السمكة بيننا. الشاب، تقدم وشكر العجوز، قال له: (لا، خذه يا سيدي هي لك كلها، أنا فقط جئت للإنقاذ، لن أشاركك رزقك).
- لا يا بني أنت تعبت جداً، وأشعر أنك خاطرت من أجلي، فأنت لست بالسباح الماهر، سمعتك تقول: (لا تخف يا خال سوف أُساعدك، لتأتي بها).
رفض الشاب أن يأخذ منها شيئاً، وشرع ليرحل، وأنا أيضاً برفقته.
قال لي العجوز: (وأنت رأيتني في الشرفة، ثم جئت إلى هنا، واستدعيت هذا الشاب)، لك حق أن تقتسم معي الصيد، ضحكت كثيراً: نعم سوف أقتسم معك الصيد المرة القادمة عندما أكون مستعداً لذلك.

ذو صلة