مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

سيمياء اللباس في شبه الجزيرة العربية

السيمياء أو السيميائية (السيميولوجيا) هي مصطلح مشتق من السمة وتعني العلامة أو الرمز، وهي -كما يعرّفها المختصون في المجال- علم العلامات الدالة على معنى في الحياة الاجتماعية، سواء أكانت تلك العلامات طبيعية كالأصوات في الطبيعة مثل صوت الرعد وما يحمله من دلالات، أو علامات صناعية من صنع الإنسان كإشارات المرور، أو كالحركة المتعارف عليها محلياً في هز فنجال القهوة دلالة على الاكتفاء من شربها، أو كرائحة البخور التي ترمز لمناسبة مهمة
وقد ورد هذا المصطلح في عدة مواضع من القرآن الكريم، منها وصفه سبحانه وتعالى لأثر الصلاة ونور الإيمان كعلامة على وجوه المؤمنين في قوله تعالى: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) 29 الفتح.
وفي اللباس نجد الكثير من الرمزيات والعلامات التي تشير لدلالات ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية. واللباس دليل على هوية الأشخاص، ومن مظاهر الاختلاف والتمايز بين الناس، سواء أكان في الخامة، اللون، الشكل أو طريقة الارتداء. فنجد آيات القرآن الكريم أكثر ما تصف لباس أهل الجنة بكونه من الحرير، وفي ذلك دلالة على رمزية الحرير للترف والنعيم ورغد العيش. وكذلك في نهي الإسلام للرجال خاصة عن الإسبال، ما يدل على أنه رمز وعلامة للكبر والخيلاء، وكان الشعراء قد قاموا بوصف سحب النساء لأذيال ثيابهن فنجد الشاعر الجاهلي -الذي عاش في نجد- امرؤ القيس، يذكر أن مرط صاحبته -وهو نوع من الكساء- يعفّي على أثريهما أثناء المشي:
خرجتُ بها تمشي تجرُّ وراءنا
على أثرينا ذيلَ مِرْطٍ مُرحّلِ
كما وصف الشاعر محمد بن لعبون (توفي عام 1247هـ) ثوب محبوبته المُزيَّن بالزَّري وهي تَسْحبه:
يَسحب المنثور بالزَّري الرخيم
تحت ما هو بالنعم ريش النعام
عينها والعنق يشدي عنق رِيم
نايفة بالطوق تزهى بالزمام
أما الشاعر علي الخياط (توفي حوالي عام 1294هـ) المشهور بحربيَّاته، فذكر أنها تجر ثياباً مصنوعة من أقمشة القز والقيلان، وهما -كما يصفهما ابن جنيدل- بأن القز هو قماش من الحرير الجيد، أما القيلان فهو مِشلح أسود يُطرَّز جيبه بالزَّري، وقماشه من أجود أنواع الصوف:
جتني تَخَطَّى ما عليها لوم
تسحب ثياب القز والقيلان
تبكي وتمحش دمعها بكموم
من فوق خد كنه الرمان
وكذلك أكثر الشعراء من وصف الأردان أي الأكمام الطويلة وأنها علامة للترف والتباهي والزينة للمرأة والرجل، فهنا الشاعر مشعان بن هذال (توفي حوالي عام 1240هـ) يصف تلك المرأة التي ترتدي ثوباً يتميز بكون أردانه (أكمامه) واسعة ومنسدلة بأنها امرأة مترفة مخدومة لا تقضي حوائجها من الأسواق بنفسها:
ما وقّفت تمشي بسوق الحواضير
لبسه طرابزون تخثّع ردونه
وهنا الشاعر مبارك بن مويم الدوسري يتحسّر على دار قديمة ويصف ما كان بها من نساء جميلات مترفات يسحبن أردانهن الطويلة فيها:
يا طول ما حل بك بيضٍ هيافٍ غنادر
خودٍ حسيناتٍ يجرّن فيك الأردانِ
ووصف الشعراء كذلك أردان الرجال الطويلة وما بها من المباهاة والزينة، وقد شاع ارتداء الثوب المرودن للرجل والذي يتميز بأردانه (أكمامه) الطويلة السابغة. فهنا الشاعر محمد بن لعبون يفخر بردنه الطويل الذي يلامس الأرض:
والى ثوبي غَدَا يطرخ شلاحه
يدقّ القاع ردنه ومتثنّي
وهنا الشاعر محمد بن راشد بن عمار يذكر أن الرجل إذا كبر سنه أصبح غير مرغوب به، حتى لو قام بتكحيل عينيه أو ارتداء ثوب له أردان طويلة، مما يدل أن الأردان من علامات الزينة والجمال ورغد العيش:
ما فيه لذاتٍ ولا يقبلونه
لو حط له ردنٍ وكحّل عيونه
وهنا الشاعر فهيد بن دحيّم يؤكد على أن سحب الأردان الطويلة من صفات الشجاعة والرجولة:
يا هيه يا اللي كفها يزهى الخضاب
شومي عن اللي باللقا ما به حصيل
لا كمّلت هقوات منزوع الشباب
لو يسحب الماهود والردن الطويل
والعمامة للرجل منذ القدم هي رمز للعرب، كما ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه (العمائم تيجان العرب)، وما يرتديه الرجل كغطاء للرأس في هذا الزمان من الشماغ والغترة والشال هو امتداد للعمامة العربية، ويعتبر رمزاً وعلامة لأبناء الجزيرة العربية.
بل إن التماثيل والآثار أثبتت أن غطاء الرأس كان معروفاً في الحضارات التي عاشت في شبه الجزيرة العربية قديماً، كما في تماثيل مملكة دادان ولحيان.
وتعد العمامة لباساً للحرب ورمزاً للشجعان والأبطال الذين تبرز قوتهم في الحرب وشدائدها، كما في قول الشاعر:
إذا كشفَ اليوم العَماسُ عن استِهِ
فلا يرتدي مثلي ولا يتعمّمُ
وهي كذلك لباس للأكرام ذوي الشرف والمكانة، كما يقول الشاعر:
إذا لبِسوا عمائمَهم لوَوْها
على كرمٍ وإن سَفَروا أناروا
يبيع ويشتري لهم سواهُم
ولكن بالطِّعان هم تِجارُ
وإرخاء العمامة رمز وعلامة على الأمن والرخاء والأمان، حيث يقول الشاعر:
ألقى عصاهُ وأرخى من عِمامتهِ
وقال ضيفٌ فقلتُ الشيبُ قال أجلْ
وذكر المؤرخ سعد بن جنيدل -في كتابه (معجم التراث: اللباس)- أن العمامة هي ما يسمى في عهدنا بالغترة، وأن من أنواعها الشال والشماغ والغترة. كما وصف المؤرخ محمد العبودي -في كتابه (معجم الملابس في المأثور الشعبي)- العمامة التي تلبس فوق الشماغ أو الشال، وهي ما تسمى بالمَعَم أو العِمّة، والتي أضحت رمزاً وعلامة لأهل البادية الذين قام الملك عبدالعزيز بتوطينهم في الهجر، وهم ما يطلق عليهم بالمجاهدين أو إخوان من طاع الله، وقد ذكر العبودي -في كتابه الآنف الذكر والذي تم نشره في عام 2013م- بأن العمامة بهذا الوصف كانت معروفة وشائعة الارتداء إلى قبل خمسين سنة من نشر هذا الكتاب. ويوجد رسم للإمام عبدالله بن سعود آخر أئمة الدولة السعودية الأولى للمؤرخ الفرنسي فيليكس مانجان، ويرتدي الإمام في الرسم هذه العِمّة على غطاء الرأس (الشال).
هنا نجد الشاعر فلاح بن حثلين يمتدح -على الأغلب- الإمام تركي بن عبدالله، ويصفه بـ(كبير العمامة) مما يدل على أن العمامة علامة على الوجاهة خصوصاً مع كبر حجمها. وتُنسب هذه القصيدة لابنه راكان لكنها وردت في مخطوطة الرحالة تشارلز هوبير للشيخ فلاح بن حثلين:
ذي ديرة الحاكم كبير العمامة
اللي نحى عنها طوابير الأروام
وهنا الشاعر محسن الهزاني يذكر أن العمامة يمكن اعتبارها رمزاً وعلامة لأهل الدين والصلاح:
ما ينومن لو كان يلبس عمامة
لو هو نقي فالعرب به يشكون
وهنا الهزاني أيضاً يذكر أن كبر حجم العمامة هو رمز ودلالة على التدين، فيذكر أن هؤلاء الذين وصفهم بكبار العمائم لو شاهدوا محبوبته، لتبدّل وتغيّر هداهم إلى آثام:
لو شاهدوا حسنه كبار العمايم
تبدّلوا عقب الهدى بالمواثيم
وهنا الشاعر عجلان بن رمال يتوجّد على موطنه الذي أُجبر على تركه والرحيل عنه، وذكر أن من صفات من أبعدوه عنها ارتداءهم للعمائم:
جزرة ظما ما دشّها بارد السيل
ما يقطعه إلا أحدٍ فوق عرماس
قزّون عنها مروحين الشماليل
اللي يلفّون العمايم على الراس
وتلاشى استخدام العِمّة/المَعَم بوصفها السابق مع انتشار العقال، الذي كان باللونين الأبيض والأسود، كما اشتهر العقال المقصب والشطفة وكان رمزاً وعلامة للملوك والأمراء وأصحاب الجاه وأبناء كبار الأسر، وفي ذلك يقول الشاعر رشيد بن زيد الزلامي العتيبي الذي ينسب العقال المقصب للملك عبدالعزيز:
عسى السحاب اللي من العصر ينصب
دَلّت هماليله ودلّت نصوبه
يسقي وطن راعي العقال المقصّب
نجد العزيز وغرب نجد وجنوبه
ويرتدي الرجال كغطاء للرأس الشماغ أو الغترة أو الشال، وإن شاع ارتداء بعضها في بعض العقود أكثر من الآخر، أو حسب الظروف المناخية والطقس. الشاعر عبدالمحسن بن صالح يذكر في أبيات قصيدته أن الشماغ هو الشعار والرمز المفضّل لأهل نجد:
كيتايتي توّي شريته جديدة
من صالح العيسى بسبعة ريالات
فضّلت لبس شعار نجد المجيدة
على لبيب الشال سيد القماشات
و(الكيتاية) -كما يذكر ابن جنيدل- أنها مسمى قديم للشماغ، والشاعر يفضّل الشماغ على (الشال) الذي وصفه بأنه سيد القماشات.
و(الشال) -وهو غترة الشال- كان ولا يزال رمزاً للباس الشتاء، إلا أنه سابقاً كان أيضاً علامة على الثراء والجاه، وكذلك كان رمزاً للفرسان وذوي الشجاعة والإقدام، كما نسب الشاعر راكان بن حثلين لبس الشال للفرسان والمحاربين:
واللي تثنّوا كلّهم يلبس الشال
ومن صنع داوودٍ دروعٍ ثقيلة
أما الشاعر زايد بن صقر العتيبي، فذكر أن الشال هو من لباس الملوك:
ملبوسهم لبس الملوك المشهّر
ترَم وشيلانٍ محَضّى جدادِ
والشاعر فهيد بن دحيّم يذكر أن سحب قماش الماهود وهو الجوخ، والشال، والأردان أي الأكمام الطويلة من العلامات الشكلية للفرسان وأصحاب الشجاعة:
يسحب الماهود والشال والردن الطويل
وإن تسابقنا المحاجي، قِصَر من دونها
أبرق الجنحان لا جا اللقا ما به حصيل
والشكالة كلها لابتي يحظونها
أما في لباس الرجل العلوي فهناك العديد من الرمزيات، فالبشت/المشلح مثلاً يعد حالياً رمزاً للمناسبات والأعراس، إنما كان في السابق لباساً يومياً يرتديه الرجل القادر عليه، والعباءة كمسمى مرادف للبشت معروفة عند العرب منذ القدم، يرتديها الرجال والنساء، ولعل من أشهر الأبيات الشعرية التي ذَكَرَتها ما قالته ميسون بنت بحدل في تفضيلها لحياة البادية -والتي رمزت لها بارتداء العباءة- على حياة الحضر والتي رمزت لها بارتداء الملابس الرقيقة الشفافة:
ولبسُ عباءةٍ وتقرُّ عيني
أحبُ إليَ من لبس الشِفوفِ
ويتشابه هذا البيت مع ما ورد في الشعر الشعبي، للشاعر محمد بن مسلّم:
وأحب من لبس العبي والعلاقة
شاويةٍ شقرا بها الشوك مدفون
وبعض أنواع البشوت ممكن أن ترمز للوضع الاجتماعي لمرتديها، حيث تتفاوت أنواعها في الجودة. كما يذكر الشاعر عبدالله اللويحان (اللوح) نوعين من البشوت ويفضّل أحدهما على الآخر:
اللي لا يمني ما يدري
يحسب المرينة بدري
فالبدري -كما يصفه ابن جنيدل- مشلح أبيض من الصوف الجيد ويمتاز بالمتانة والدفء، بينما المرينة أقل جودة من البدري ولا يوفّر الدفء الذي يتميز به البدري ذو الوبر الثقيل.
وقد ارتدى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الجبّة، التي عرفها العرب قديماً وذكرها الراعي النميري الذي عاصر العصر الأموي، وذكر أنها من لباس الحرب:
لنا جببٌ وأرماحٌ طوال
بهن نمارس الحرب الشطونا
وفي تراثنا الملبسي تبرز الجوخة كلباس للحرب، والتي تصنع من قماش الجوخ ويسمى الماهود وهو قماش غالي الثمن ويرتديه الفرسان والأمراء، وتُرتدى الجوخة في الحروب وإذا ارتدى الفارس أو المحارب جوخته فإنه يتحدى خصمه لمحاربته، ووردت الجوخة/قماش الجوخ في كثير من أبيات الشعر الشعبي، وأنها من علامات المحارب فذكره الإمام فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود:
ملبوسهم من طيب الجوخ ما لاق
ونقّلتهم بمصقلاتٍ بواتير
وهنا أيضاً الشاعر راكان بن حثلين يذكر أن الجوخ من لباس المحاربين:
والجوخ في يوم اللقا يلبسونه
وسلّة سيوف الهند من صنع بيطار
أما الشاعر علي الخياط فيفتخر بمحاربته وقتاله للفارس المجوّخ أي الذي يرتدي الجوخة في ساحة الحرب:
تلقى الجنايز بالفلاة ركوم
منا ومنهم، يا أجرد الذرعان
عاداتنا ذبح (المجوّخ) دوم
والخيل صرعى في قفا الميدان
والشاعر مخلد القثامي أيضاً يذكر أن الجوخ هو لباس للفرسان:
أشكي على لبّاسة الجوخ الأحمر
من فوق قبٍّ ينقلن الرديفِ
ومن قماش الجوخ/الماهود الأسود تتخذ النساء -خاصةً ذوات الثراء- عباءة تسمى بالدفّة وهي مطرزة بالزري الذهبي في جيبها وأكتافها، وترتديها العروس في القصيم. وورد ذكر الماهود كلباس للنساء المترفات في شعر ابن لعبون:
ملبوسه الماهود وثياب الحرير
ومبيسمٍ له بالدجى يوضي سناه
إن مشى كنه يوطي له حصير
ومن الغوى ياطى على ردن العباة
والملابس التقليدية النسائية تحوي أيضاً دلالات ورمزيات تشير إلى وضع المرأة الاجتماعي، أو فئتها العمرية، أو تحدد انتماءها القبلي. ففي منطقة الحجاز مثلاً يكون لكل قبيلة زخارفها وتطريز ملابسها الذي يميز المرأة التي ترتديها، وكذلك في بعض قبائل الحجاز يكون لون اللباس دالاً على الحالة الاجتماعية للمرأة، فالمتزوجة يميز لباسها لون معين، بينما غير المتزوجة تنفرد بلون آخر، وفي بعض مناطق الجنوب غطاء الرأس هو ما يعد علامة لوضع المرأة الاجتماعي، ففي عسير ترتدي الفتاة على رأسها المنديل الأصفر بينما ترتدي المتزوجة الشيلة السوداء المريشة.
وفي بعد آخر، قد يكون اللباس علامة ودلالة على الفترة الزمنية، فالعباءة مثلاً بأشكالها وأنواع أقمشتها قد تدلنا على الفترة الزمنية التي اُرتديت بها، فمثلاً عباءة النسف أو عباءة الرفع التي انتشر استخدامها في السبعينات الميلادية إلى منتصف الثمانينات تقريباً، حين رؤيتها في صور نجهل زمنها يمكن أن تكون أحد الدلائل التي تشير للحقبة الزمنية للصورة، وكذلك الثوب الرجالي وما مر به من تطورات بسيطة وتغييرات في شكل الياقة مثلاً أو طريقة ارتداء الشماغ، في كل ذلك دلالات تشير للفترة الزمنية التي شاع بها هذا الطراز من اللباس. فاللباس غني بالرمزيات والعلامات التي نجد في دراستها والبحث عنها وتوثيقها الكثير من الفائدة والمتعة وتوثيق التراث والاعتزاز بالهوية.

ذو صلة