مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

الكهوف.. إبداع إلهي وسياحة شيّقة

الكهوف عالم من العجائب والأسرار، وغابة من الحكايا والأساطير، وفي كلّ أشكاله يبقى الكهف إعجازاً إبداعياً لا يقدر على تشكيله سوى الخالق العظيم، ولغرابته وغموضه تنجذب إليه أفواج السيّاح من مختلف البلدان، لرؤية الإبداع الإلهي بأبهى صوره. لذا، فالكهوف يؤمّها بخاصة العلماء والمغامرون والفنّانون. وقد كانت الكهوف ولا تزال تراثاً جيولوجياً طبيعياً، يسرد قصة تطوّر ونشأة وتاريخ الحضارات، ويتمّ تتبعها من خلال كتابات ونقوش جدارية لا تزال شاهدة على تاريخ إنساني حافل منذ الأزل. ويمكن وصف الكهف علمياً، بأنه تجويف طبيعي تحت سطح الأرض، أو في الصخور، وهو عبارة عن متدلّيات تتشكّل عن طريق ترسّب كربونات الكالسيوم، وبعض أملاح معدنية أخرى.
يبدأ تقاطر (الدالية) الكهفية بنقطة واحدة من الماء المحمّل بالأملاح المعدنية، ثم نقطة ثانية وثالثة وهكذا.. وتتساقط نفس القطرات من المتدلى على الأرض مكوّنة صواعد مخروطية تنتصب على الأرض، ويسمّى الصاعد الكهفي، ومع الوقت قد تكبر تلك الصواعد مكوّنة أعمدة متراصة. والمتأمل لطبيعة الكهف الداخلية ليقف مشدوهاً أمام منحوتات طبيعية بديعة، تتباين بين البلورات والكريستالات الكربونية والجبسية إلى الهوابط التي تتدلى من سقف الكهف، والصواعد التي تنشأ من أرضية الكهف، ويعجب للتمازج الفريد في إبداع الخالق للطبيعة النابضة بالحياة، ويثيره الاهتمام لدراسة البلورات الكلسية والجبسية وتقدير عمر الصخور. إضافة إلى التساؤل حول الأهمية الفطرية للكهوف، وما تحتضنه من كائنات ورسومات وبقايا أدوات مختلفة تثير اهتمام الباحثين في المجال الحيوي والحياة الفطرية.
تختلف أشكال الكهوف وتفاصيلها حتى في البلد الواحد، كما تختلف تشكيلاتها النحتية، وأماكن وجودها سواء في البر أو البحر والسهل والجبل، وتتنوّع أسباب تشكلها، وتاريخ نشأتها، وبعض الكهوف التي تشكّلت ضمن الصخور الرسوبية العائدة للعصر الثلاثي يعود تاريخها إلى ما يقارب 35 مليون سنة، وتكونت بعضها قبل ما يقارب 54 مليون سنة، مثل كهوف محافظة ظفار العمانية المتموضعة في الصخور الرسوبية المكوّنة من الحجر الجيري، ويُقدّر عمر بعض الكهوف بأكثر من 25 ألف سنة. وتُصنّف الكهوف وفقاً لموقعها وأسباب وجودها كالآتي:
- الكهوف البحرية الموجودة بمحاذاة السواحل.
- الكهوف الجليدية التي تتشكّل نتيجة ذوبان الجليد، أو تحت الأنهار الجليدية.
-  الكهوف المتحللة التي تتكوّن نتيجة ذوبان الصخور في المياه الجوفية.
- أنفاق (اللافا) التي تكوّنت من النشاطات البركانية.
يؤكّد علماء الجيولوجيا أنّ أعمق كهوف العالم موجودة في فرنسا، ويزيد عمق بعضها عن 3000 قدم تحت سطح الأرض. وأكبر كهف في العالم هو (سون دونج Son Doong cave)، ويقع في أدغال فيتنام، وتقدّر مساحته بحوالي (80 متراً مربعاً) بطول 4.5 كيلومترات، ويليه كهف الغزلان (Deer Cave) في ماليزيا، وتبلغ مساحته 91 متراً مربعاً بطول 1.6 كيلومتر. وتُعدّ تركيا الأكثر عدداً وتنوّعاً في العالم، إذ يوجد في أراضيها أكثر من 40 ألف كهف مختلفة الطول والعرض والعمق، وغالباً ما توجد تلك الكهوف في المناطق الجبلية والبحرية، وأجملها كهف بينار أوزو غرب بحيرة بيشهير في مدينة إيسبرتا، ويبلغ طوله أكثر من 16 كم، وكهف تشوكور بينار دوداني أعمق كهوف تركيا حيث يبلغ عمقه حوالي 1880 متراً. وهناك كهف دارغاح، وكهف ماريس، وكهف باينيرليك أونو، وكذلك كهف داملاتاش، وكهف غوك نصفه السفلي تحت الماء والنصف الآخر فوق البر، ويتميز بأنّ مياهه السفلى حلوة المذاق ومياهه العليا مالحة، ويقع في مدينة أنطاليا.
أما في المملكة العربية السعودية، فيمتدّ انتشار الكهوف من تكوين أم رضمة في شمال المملكة إلى حدود الربع الخالي، وهناك الكثير من الكهوف والمغارات الأرضية التي تُعرف محلياً بمسمّى (الدحول)، وتتنوع أشكالها ومن أبرزها الكهوف الأنبوبية الناتجة عن الانفجارات البركانية في مناطق الحرّات، كحرّة خيبر في منطقة المدينة المنورة. وتتكوّن الكهوف في المملكة من طبيعة صخرية متفردة، لهوابط وصواعد كلسية، وتضفي تشكيلات الصفائح الصخرية حول محيط الكهوف مناظر خلابة. وتتميّز بعض الكهوف في المملكة بوجود نقوش أثرية حولها أو داخلها يعود تاريخها إلى آلاف السنين، كما توفر بعض الكهوف البيئة المناسبة للحياة الفطرية والكائنات الحية مثل الخفافيش وأنواع من الطيور والثديات. هذا بالإضافة إلى كهوف جبلية وهي عبارة عن مغارات وتجاويف في المرتفعات الصخرية والجبال.
وتختلف أحجام تلك الكهوف بين مساحات صغيرة جداً تكاد لا تتسع لشخص واحد، وبين ممرّات تمتد لعشرات الأمتار أو أكثر. ويطلق على أنواع منها الدحول أو الغيران، وهي فجوات أو تجاويف جبلية أو أرضية ويُقدّر عددها بالآلاف، غير أن المكتشف منها حتى الآن لا يتجاوز 300 كهف تقع غالبيتها في المنطقة الوسطى شمال الرياض، والصمان في المنطقة الشرقية، وفي منطقة الحرّات والأحساء والطائف، ومن أبرزها، كهف شعيفان أو الشويمس، ودحول عين هيت، وكهف أم جرسان، وكهف ضارب النجم شرقي المجمعة. وقد بدأ استكشاف الكهوف في العام 1980م.
وقد بدأ تفعيل سياحة الكهوف في المملكة، بالتعاون بين الهيئة السعودية للسياحة وهيئة المساحة الجيولوجية، وتتاح زيارة هذه الكهوف للسياح من داخل وخارج المملكة من خلال منظم رحلات معتمد وبرفقة مرشد سياحي مؤهل لهذا النمط ووفق المعايير المطلوبة لتوفير سياحة آمنة، تضمن سلامة السائح وسلامة بيئة الكهف. ويجري التعاون بين الهيئتين على تطوير مواقع الكهوف، ودراسة إمكانية عمل الاستدامة لهذه المواقع، وتحديد الاحتياجات العاجلة للكهوف، كعمل تصميم خاص للوحات التعريفية والإرشادية المناسبة.
وقد اكتسبت الكهوف أهمية سياحية بالغة في العقود الأخيرة، نظراً لما تضمّ من مكنونات وتحف طبيعية بديعة، وتتجلّى متعة الزيارة في الغوص بعمق أسرار الكهف وتفرعاته وخبايا تجاويفه، ولم تعد زيارة الكهوف قصراً على العلماء والدارسين والمغامرين، بل أصبحت وجهة مفضّلة للسائحين حول العالم، وتقدر أرباح سياحة الكهوف على مستوى العالم بقرابة 800 مليون دولار، وهي تجد رواجاً كبيراً من قبل السياح الشباب، ويزداد الإقبال عليها عاماً بعد آخر، بعد أن قامت معظم الدول بتطوير البنى التحتية، وتطوير المرافق السياحية القريبة من مواقع الكهوف فيها، إذ تتطلّع إلى تلك الهبة الطبيعية كثروة وطنية واعدة.

ذو صلة