مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

لمحة حول المسرح العماني

غالباً ما نغفل عن مختلف التطورات في عالم المسرح العربي لنربطه بالصورة السائدة عن المسرح الطليعي في دول المغرب العربي وبالمسرح السياسي الساخر والواقعي الجاد في كّلٍ من مصر وبلاد الشام. وخير مثال على ذلك هو النهوض المسرحي في منطقة الخليج العربي، وهي نهضة أصيلة نتجت عن اهتمام مسرحي متزايد أدى إلى تطورات يُعتدُّ بها.
ولذلك اخترتُ في دراستي الموجزة هذه المسرح العماني لكون الحظ قد حالفني في حضور إحدى مسرحياته أثناء المهرجان العربي للمسرح هذا العام، والذي مكنني حضوره من الالتقاء بأحد المسرحيين العمانيين ويدعى ياسر بن أسلم البلوشي، مما أعطاني رؤية أشمل حول المسرح العماني.
عجالة عن المسرح العماني
جاءت البدايات من النشاطات المدرسية، ولا سيما المدرسة السعيدية التي يعود تأسيسها للعام 1936، حيث حضر تلك المسرحيات العديد من المسؤولين العمانيين والشخصيات العاملة في القنصلية البريطانية.
أدى ذلك إلى تأسيس نشاط مسرحي تتوّج بتشكل النوادي الأهلية في منتصف السبعينيات وأشهرها (النادي الأهلي) والذي شهد في عام 1973 أول ظهور لممثلة عمانية، وهي الأستاذة عائشة الفقير. في حين قدّم (مسرح الشباب) أول مسرحية تاريخية عمانية في عام 1982، وهي بعنوان الوطن، من تأليف الكاتب المصري منصور مكاوي.
تأسس بعدها قسم للدراسات المسرحية في جامعة السلطان قابوس بن سعيد في عام 1990. وحالياً، تنامى المسرح في سلطنة عمان للغاية ليبلغ عدد فرقه 42 وعدد مسارحه 13 في عام 2020.
لقاء على هامش المهرجان
التقيت والسيد ياسر بن أسلم البلوشي على هامش المهرجان العربي للمسرح في بغداد، وقد أفدتُ من حديثي مع السيد ياسر حول المسرح العماني ومسرحية (سدرة الشيخ) بنظرة أشمل عن الحركة المسرحية في السلطنة، وكان هذا الحديث:
(عرض سدرة الشيخ هو من تأليف الدكتور الشيخ سلطان القاسمي وإخراج الأستاذ عماد الشنفري. طبعاً سدرة الشيخ هي رواية اقتبسها الأستاذ عماد وحولها إلى مسرحية. العرض مجملاً كإيقاع كان جميلاً جداً، فيه موسيقى من التراث الخليجي، وهذا أجمل ما في الموضوع لأن المسرح يجب أن يعكس هوية الشعب الذي يمثله.
والعرض فيه الكثير من الأغاني التراثية، ومن ضمنها فن الهيدان، وهو فن خاص بأهل صلالة، فحينما يتوفى أحدهم يعزونه بهذه الطريقة: هيدان.. هيدان.. وقد أحببت ذلك كثيراً لأنني عملت سابقاً على مسرحية استخدمت فيها هذا الفن.
وهذا العرض هو أول عرض عماني في مهرجان المسرح العربي، وذلك لأن المسرح العماني يشهد تطوراً كبيراً رغم عدم امتلاكنا لمدارس أو معاهد لتدريس وتأهيل الطلاب للمسرح، لكن لدينا فكر وعقول تعمل بجهود شخصية وإبداعات ذاتية، فمثلاً في عرض سدرة الشيخ كل شيء هو جهود شخصية دون تدخل حكومي.
ربما حينما تصل العروض للمشاركة في المهرجانات قد تقدم لهم الحكومة بعض الدعم، لكن الأمر كله اجتهادات شخصية. لذا، المسرح العماني في تطور دائم، والدليل على ذلك أن المشاهدين على ما أظن قد استمتعوا بالعرض، وأهم ما في الأمر هو استمتاع الجمهور بالعمل، وهذا هو المسرح فهو الوصول من الناس إلى الناس).
تحليل وقراءة نصيّة ومشهدية
امتاز العرضّ بسينوغرافيا عمليّة تبتعد عن التعقيد، حيث اكتفى ببعض الأشياء المسرحية على المنصّة بدلاً من اتخامها بالأغراض. إذ استبدل المخرج الأغراض الثابتة والجامدة بالعناصر الحيّة عبر إبقاء الفرقة الراقصة على الخشبة مما ساهم في خلق إحساس بامتلاء الفضاء المسرحي بالحياة والحركة مما أضاف حيويّة وديناميكيّة إلى العرض تعكسان فهماً درامياً عميقاً لكلمة الدراما نفسها والتي تقوم على الحدث وعلى الحركة التي يخلقها الصراع والحدث نفسه.
ومن ناحية أخرى، يُبرز التجاور الرمزي بين الأغراض المسرحية القليلة والحشد البشري قيمة هذه الأغراض، إذ تظهر شجرة السدر (النخلة) وحدها في وسط المنصّة لتسمو فوق جميع الأحداث. وترمز الشجرة، بشكلٍ عام، إلى (الحقائق المطلقة) وإلى (النزعة السامية)، وهذا يتفق مع جوهر المسرحية التي تؤكد على المعاني الوطنية والأخلاقية من شرفٍ وانتماء وتشبّثٍ بالأرض. وهنا تكمن أهمية توسط السدرة منتصف المنصّة، فهي -بما تمثلهُ من قيمٍ ورموزٍ سامية- محور العمل الذي يدور الحدثُ جميعه حوله وتحت ظلاله. ويشيرُ الارتفاعُ إلى سمو رمزية النخلة عمّا يحدثُ تحتها، فالقيمُ فوق البشر وشرورهم وأنانيتهم، وجميعُ ما يفعلونه من خير هو دون المبادئ وإنما استشراف لها.
إضافة إلى ما سبق، أضفت الشاشة القائمة في مؤخر المنصّة عمقاً بصرياً لكونها خلفيّةً متحركةً وأفقاً مفتوحاً للمنصّة تجلّى في تصوير سماء المدينة أو الليل المقمر. وساهم هذا الامتداد المفتوح والمتحرك في زيادة الديناميكيّة على خشبة المسرح، إذ لا يُحتبس نظرُ المشاهد ضمن مستطيلٍ مغلقٍ من الجدران، بل ينداحُ بعينيهِ عميقاً عبر هذا الأفق. لذلك جاء هذا المزيج التكنولوجي كحلٍّ موفقٍ لبنية المنصة، مما أضفى بعداً تحررياً من المحدودية التي تفرضها تقاليد وآليات استغلال الفضاء المسرحي المتعارف عليها.
وبالحديث عن هذه التقنيات، فقد ساهم تنوع خلفيات الشاشة في تعزيز الوهم أو الخيال المسرحيّ، الأمر الذي قدّم حلاً بسيطاً وأصيلاً للتنوع في الديكورات الذي يقتضيه التغيّر في المشاهد. كما أضاف هذا البعدُ البصري المتحرك واقعية إلى الأحداث تفتقرُ إليها الديكورات الجامدة والثابتة والمكلفة، حيث تتكاملُ خشبة المسرح التي تمثّل الساحة العامة مع البحر والسماء ومنظر المدينة الذي تقدمه الشاشة من خلفها ليرى المشاهدُ بذلك مدينة متكاملة بشوارعها وأناسها وجميع التفاصيل المحيطة بها بسلاسة ومرونة وبأقل التكاليف، إذ لم يحتج المخرج إلى إعادة ترتيب الأغراض المسرحية على المنصة وما يقتضي ذلك من قَطْعٍ لتدفق الحدث بغية تغيير المشاهد، بل على العكس جاءت الأحداثُ تدفقاً مستمراً بفضل هذا الحلّ التكنولوجي المبتكر.
وبالحديث عن سلاسة العرض، تجب الإشارة إلى توظيف العنصر التراثي المتمثّل بالرقصات والأغاني الشعبية. وقد أشار البلوشي إلى استخدام (فنّ الهيدان)، وهو فنّ غنائي حزين خاصّ بمدينة صلالة يستخدم لأغراضٍ تأبينية. ويتحدث البلوشي أيضاً عن إضافة التراث الشعبي إيقاعاً جميلاً للعرض، وهو رأيٌّ غاية في الصواب، فقد استعاضَ المخرجُ عن تقسيم المسرحية إلى مشاهد منفصلة بمزج لونين دراميين وهما: المسرحية التاريخية والمسرحية الغنائية، بحيث ازدادت سهولة تدفق الأحداث والوصل والفصل بينها عبر تقديم أغانٍ شعبية تتصل بالحدث الدائر على المنصّة وتعلّق عليه أيضاً دونما فصلها بصرياً ودرامياً إلى مشاهد وفصول، وهذا ما جعل العرض سلسلة متصلة من الأحداث دونما انقطاعٍ أو إفراغٍ للمنصّة من العنصر البشري. ونتج عن ذلك المحافظة على المستوى نفسه من تطور الحبكة دونما هبوط أو مراوحة، إضافةً إلى اللمسة الجمالية التي أحاطت العرض بهالةٍ من التراث تتماشى مع واقعية البيئة التي تجري فيها المسرحية ومع طبيعتها التاريخية.
وتتناسق الإضاءة مع العناصر السابقة فاستخدامها أيضاً عمليّ من حيث متابعة حركة الممثل وبالتالي متابعة الحدث نفسه، مما شدد أهميّة هذين الاثنين، فجميع ما يوجد على المنصة يعتمُ ويفقدُ أهميته تجاه بقعة الضوء الوحيدة في وسط هذا الظلام. كما أضفت حركية الضوء المزيد من الديناميكية على الخشبة، إذ لا تقتصرُ الحركة على العنصر البشري فحسب، بل تترافقُ مع العناصر غير الماديّة أيضاً -المتمثلة بالضوء- بحيث تدفق الحدث كتيارٍ يملأ أرجاء المنصّة. على المقلب الآخر، تتطلبُ هذه التقنية مزامنة دقيقة بين العنصرين المتحركين: الممثل وبقعة الضوء، وقد بدا شيء من ضعف التنسيق بينهما أثناء العرض، فسبق أحدهما الآخر في بعض الأحيان، وأظنّ أنه كان بالإمكان التنسيق لهذه التقنيّة بطريقة أفضل مما أساء بعض الشيء إلى جمالية العرض.
وبالانتقال إلى حبكة المسرحية، يمكن القول إنّها تطورت بسلاسة ورشاقة ودونما ملل متنقلةً من ذروةٍ إلى أخرى حتى يصل التشويق إلى القمّة لتنتهي الأحداث عند اللحظة الحاسمة. ويشيرُ البلوشي إلى هذه النقطة مؤكداً أهمية عنصر المتعة لكون المسرح هو الوصول (من الناس وإلى الناس). هذا ويفتتحُ العرضُ أولى مشاهده بحدثٍ ذروي وهو تبادل التهديدات بين القائد العماني الشيخ محمد ونظيره الأجنبي لينتقل بعدها إلى معضلة إبقاء اليتيم الأجنبي أو لا، ثمّ إلى محاولة قتله وإقناعه بالعودة إلى دياره، وبعدها الذروة العاطفية المتمثلة بوعد الأمير عبدالله -وهو الطفل اليتيم بعد أن كبر- لمحبوبته بعدم التعرض لوالدها رغم معارضة هذا الأخير لزواجهما. وتتلاحق الذُرى بعدها فلدينا النزاع المسلح الذي يقتضي تدخّل الشيخ محمد نفسه، ثمَّ موت الشيخ والصراع على الحكم لينتهي العرض عند القمّة: أيعقلُ أن يخون عبدالله عهده لمحبوبته؟ أيعقلُ أن يقتل ابن عمّه بالتبني؟ لكن أيعقل أن يتركه ينجو بجريمته في قتل والده بالتبنيّ؟ كما يلاحظ، تتدفقُ الحبكة بشكلٍ تصاعدي في تيارٍ سريعٍ يشدُّ المشاهد ويمتّعهُ بأحداثٍ متلاحقةٍ وبأسئلةٍ وجودية مهمة، بحيثُ يدمج ما بين التشويق والعمق الفكري في آنٍ معاً. يتوقف العرضُ بعدها عند اللحظة المحورية ليواجه هذه الأسئلة ويجدَ الإجابات دونما تدخلٍ، بحيث تكون المسرحية أداة تحريضٍ ونقاشٍ وليس تلقين ومحاضرة، وهذه إحدى أهمّ جماليات المسرح بشكلٍ عام ومسرحية سدرة الشيخ على وجه التخصيص.
وبالرغم من إتقان انسيابية الأحداث واستحواذها على أحد أهمِّ العناصر الدرامية وهو متعةُ وانتباهُ المشاهد، تنبغي الإشارة إلى تسارعها إلى درجةٍ اختصرت فيها من تطور المسرحية الطبيعي عندما شارفت على النهاية. وبعبارة أبسط جاءت النهاية مفاجئة أو مبكرة، إذ تدخل عبدالله دونما توضيحٍ ليكشف ملابسات المؤامرة دفعة واحدة، رغم أنّ بناء المسرحية كان ليسمح وبمتعة شديدة إضافة مشاهد تثري تطور الأحداث وتحكم عُرى النهاية. كما قد يسأل المرءُ نفسهُ كيف للشخص الذي رفضَ مطلقاً قتل عبدالله صغيراً خوفاً من ارتكاب جريمة ومعصية القيام بالشيء ذاته ليقتل الشيخ محمد؟ أظنُّ، وظني عُرضةٌ للخطأ والنقص، أنَّ هذا الجزء من المسرحية قد تسارع فوق الحد ليختصر من متعة وجمالية العرض.
ويمكنُ بالطبع التماس أعذارٍ عديدة للمسرحية من حيث مراعاة المدّة الزمنية للعرض أو إغراقه بالأحداث، أو مخافة الحشو في التفاصيل. لكن أفضل عذرٍ وجدتهُ هو ما قالهُ لي المسرحي ياسر بن أسلم البلوشي حينما أشار إلى افتقار عُمان إلى المدارس والأكاديميات المسرحية التي تدرّس وتؤهّل الطلاب درامياً رغم التطور المشهود الذي لم يحققهُ المسرح العماني إلا بجهودٍ شخصيةٍ من بعض المهتمين بالمسرح. قد لا يرى البعضُ في هذا تبريراً، ولكن لا يصقلُ الإبداع إلا التدريب والدراسة، ولذا فإنه لأمرٌ رائع أن نرى عرضاً متقناً ومتوازناً ومستوفياً جميع الشروط الفنية بجهودٍ شخصية ودونما دراسة أكاديمية ضمن مؤسساتٍ فنية، وهذا أكبر تبرير لجميع ما تقدمَ من اقتراحات للوصول إلى درجة أعلى من الجمالية والمتعة.

ذو صلة