مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

الطبيب الأندلسي ابن زهر الإشبيلي الذي سبق مارسيلو مالبيغي

لقد أنعم الله على العالم العربي والإسلامي بالكثير من العلماء الأجلاء الذين أَثْرُوا العلم بعلومهم، وحظوا بمكانة مرموقة في بلاد الغرب، نظراً لما قدَّموه من معلوماتٍ ثرية تمثل الخطوة الأولى والركيزة الأساسية التي بدأ منها مَن جاؤوا بعدهم. ومن هؤلاء العلماء الذين نبغوا وذاغ صيتهم في مجال الطب الطبيب ابن زهر الإشبيلي.
العَلاَّمَةُ الأَوحدُ، أَبُو العَلاَءِ زُهْرُ بنُ عَبْدِالمَلِكِ بنِ مُحَمَّدُ بنُ مَرْوَانَ بنِ زُهْرٍ الإِيَادِيُّ الإِشْبِيْلِيُّ، الطَّبِيْب، الشَّاعِر.
أَخَذَ الطِّبّ عَنْ أَبِيْهِ، فَسَاد فِيْهِ، وَصَنَّفَ، حَتَّى إنَّ أَهْلَ الأَنْدَلُس كانوا يفتخِرُوْنَ بِهِ، وَحَمَلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الجيَّانِي، وَعَبْداللهِ بن أَيُّوْبَ.
أَلَّف كِتَابَ (الأَدويَةِ المُفردَة)، وَكِتَاب (الخَواصِّ)، وَكِتَاب (حل شكوك الرَّازِيّ)، وَكَانَ أَبُوْهُ ملكَ الأَطبَاء، وَكَانَ جَدُّهُ فَقِيْهاً مُفْتِياً.
تُوُفِّيَ أَبُو العَلاَءِ بقُرْطُبَة سَنَة خَمْسٍ وَعِشْرِيْنَ وَخَمْسِمئة منكوباً.
أخذ عن كتب جالينوس والنكتة الطبية، وكان أَبوهُ من رُؤُوس الْأَطِبَّاء، وَقد ذكرت فِي تَرْجَمَة (مُحَمَّد بن عبدالْملك) حفيد زهر هَذَا مَا اعْتَمدهُ زهر فِي كتاب القانون لِابْنِ سينا.
وكعادة علماء هذا الزمن كان يتقن إلقاء الشعر بجانب الطب، وَمن شعره الْمَذْكُور من الكامِل:
يَا من كلفت بِهِ فذلت عزتي
لغرامه وَهُوَ الْعَزِيز القاهر
رمت التصبر عِنْدَمَا ألْقى الجفا
وَيَقُول ذَاك الْحسن مَا لَك نَاصِر
مَا الجاه إِلَّا جاه من ملك القوى
وأطاعه قلب عَزِيز قَادر
وكتب عنه ابن رشد في أبواب الطب الكلية أو الرئيسة، مقابل التفاصيل الجزئية التي تناولها أستاذه العلامة الطبيب أبو مروان عبدالملك بن زهر في كتابه (التيسير). قال عنه (القاضي عياض) إنه فاق أهل وقته جلالة وعلماً وجاهاً ومكانةً عند الرؤساء، والخاصة والعامّة. مولده سنة ثمان وثلاثين وثلاثمئة.
وذكره (أبو يحيى أليسع بن عيسى بن حزم) في كتاب المغرب عن محاسن أهل المغرب، إنه مع صغر سنه تصرخ النجابة بِذِكرِهِ وتخطب المعارف بشكره.
عائلته أندلسية اشتهرت بممارسة أفرادها للطب علماً ومهنة، على مدى ستة أجيال كاملة، ولكن كُتُب التراجم الخاصة بالعلماء ذكرت هذه العائلة بصورة باهتة، ليست كاملة، أو كما ينبغي أن تُذكر، ولم توضح الدور البارز الذي قامت به هذه العائلة في تطور الطب في الأندلس آنذاك، ولكن بعضاً من العلماء الغرب والباحثين أناروا الطريق وبذلوا الجهد الكبير في سبيل تتبع آثار هذه العائلة من الجهود المضنية، وهم ثلة من العلماء الباحثين أمثال: جابريال كولان، ورينو، وروزاكوني بربانت.
بالإضافة إلى دراسة الدكتور جعفر يايوش أستاذ قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة مستغانم، إذ ألقت هذه الدراسة الضوء على العديد من النقاط المهمة، والدور البارز لابن زهر في الطب والتشريح، من خلال الاطلاع على بعض أعماله الطبية، واشتهار بعض آثاره، وتأثيره العلمي في أوروبا، واعتماد أعماله مصادر لعلم الطب حتى نهاية القرن السابع عشر الميلادي، وتم اعتبار أبي مروان بن زهر الإشبيلي طبيب التجربة والاختبار.
وإذا تحدثنا عن إنجازاته الطبية والعلمية فنجد أن الطبيب ابن زهر رغم إنكاره المتكرر لممارسته للجراحة والتشريح، إلا إن نتائج أبحاثه الطبية تقول عكس ذلك، فعلى سبيل المثال في تشريح عظام الرأس نجده وافق العلم المعاصر في تحديد عدد عظام الجمجمة. كما أن تحديده للأغشية الخارجية والداخلية لعظام الجمجمة، وهي خمسة عنده؛ هي نفسها في علم التشريح المعاصر. كما أنه حدد عدد أغشية الدماغ بثلاثة أنواع، المعروفة اليوم بـ(السحايا)، واستطاع كذلك معرفة الشبكة الوعائية، كما أنه أول من اكتشف الغشاء الخاص بعظم القحف المعروف اليوم بالسمحاق.
وعند دراسة مبحث الشرايين والعروق والأوردة؛ نجده يفرق بين العروق الضوارب (الشرايين)، والعروق غير الضوارب (الأوردة)، ولكنه لم يذكر أن العروق الضوارب مكونة من طبقات، كما سبقه إلى ذلك الزهراوي ومن بعده ابن رشد. هل لأنه لم يعرف ذلك، أم لأنه لم يكن بصدد دراسة تشريحية لجسم الإنسان؟
كما نجده يفرق بين بنية العروق الضوارب والأوردة، بل يكتشف ما يسمى اليوم بالأوردة الدقيقة، وهو أول من أطلق اصطلاح (أوعية الدم)، بل استطاع اكتشاف الشعيرات الدموية، وهو أول من وصفها بأنها رقيقة كالشعر، وهو بذلك سبق (مارسيلو مالبيغي) -عالِم الأحياء الشهير الذي اكتشفَ خلايا الدم الحمراء- بخمسمئة واثنتين وثلاثين سنة في وضع أول التصورات العلمية حول الشعيرات الدموية، قبل ابتكار المجهر.
وعندما ننتقل للنظر في دراسته للأعصاب نجده يفرق بين أعصاب الحس وأعصاب الحركة، وطبيعة كل منها، ووظيفتها، وأماكن وجودها في الجسم البشري، ومن خلاله نستنج أنه قارب المفهوم التشريحي المعاصر للأعصاب.
ولا تتوقف إنجازاته وابتكاراته في الطب؛ فنجده أول من تحدث عن الخلية العصبية، وأول من حدد ما يعرف اليوم بالزوائد الشجرية، وكذلك اكتشافه للعصب الراجع في العنق، وما يعرف بالغدة الصنوبرية وقنطرة فارول ومركز التنفس في الدماغ، والنخاع المستطيل والبصلة السيسائية.
أما عن دراسته للبصر والعيون التشريحية نجده مقارباً للطب المعاصر عبر تحديده أجزاء العين الداخلية، وبخاصة في موضوع الأعصاب المجوفة، كما يعتبر أول من تحدث عن القناة الدمعية - الأنفية أو ما يعرف حديثاً بـ(المسيل).
ويكمل لنا ابن زهر في دراسة الأنف، إذ كان أول من تحدث عن وجود غشاء مخاطي في الأنف. وبخصوص القلب يقول بأن له بطنان، وهو بذلك يقوض دعوى عدم مباشرته للتشريح وعدم معرفته له.
وفي دراسة البكتريا والدم نجده أول مَن اعتنى بمسألة الاحتراق الداخلي للدم، أو ما يسمى بالاحتراق البطيء الذي اكتشفه (أنطوان لافوازييه) -العالِم الفرنسي الكيميائي الذي يعدُّ أول مَن صاغ قانون حفظ المادة، وكان يُلقب بأبي الكيمياء الحديثة، وتم إعدامه بعد الثورة الفرنسية 1794م-، وهو أول من تحدث عن التخمر والبكتريا قبل مجيء باستور، وأول من فرق بين التنفس الخارجي للصدر والتنفس الداخلي للرئتين، وأن سبب حركة التنفس هو الصدر، كما اعتنى بمسائل الفيروسات الممرضة والأمراض السرطانية.
وأخيراً، نقول إن ما يُميز الطبيب (ابن زهر الإشبيلي) عن غيره كابن سينا والزهراوي، أنه توصل إلى نتائج دقيقة لا يمكن أن يتوصل إليها إلا من خلال دراساتٍ وملاحظاتٍ سريرية، وهو بهذا يعتبر طبيباً تجريبياً فتح آفاق البحث الطبي لمَن جاء بعده، وخير مثال على ذلك اكتشافه للغذاء الصناعي عن طريق أنبوب يمر إلى المعدة مباشرة، ومن هنا يكون وضع أولى التصورات لما يعرف اليوم بالتغذية الاصطناعية، وكذلك التشخيص المجهري الداخلي الذي لم تعرفه أوروبا إلا في الثلاثين سنة الأخيرة من هذا القرن.
رحم الله كل مَن أنار العالَم بعلمه وأبحاثه القيمة، وساهم في تطور العلوم والعلماء من بعده.

ذو صلة