مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

ديون الدول النامية والنمو الاقتصادي

خلال السنوات القليلة الماضية، توالت الأزمات الاقتصادية على الدول النامية، ولاسيما القليلة والأقل دخلاً في أفريقيا وآسيا، واحدةً تلو الأخرى، فلا تكاد تتماثل للتعافي من واحدة إلا وتعصف بها أخرى أشد ضراوة وأكثر تأثيراً، فلم تلبث تداعيات جائحة كورونا في التراجع إلا واشتعل فتيل الحرب الروسية على أوكرانيا، لتحدث ما أحدثته من اضطرابات في أسواق النفط والطاقة وخطوط الشحن والنقل الدولي وسلاسل الإمداد الغذائي، وارتفاعات في تكاليف مدخلات الإنتاج، إلى جانب ما كانت تعانيه هذه الدول قبل هاتين الأزمتين من مشكلات مزمنة تتعلق بتباطؤ مستويات النمو الاقتصادي وتأثيرها على النمو الاقتصادي والتوظيف والأجور، وارتفاع معدلات الفقر وانعدام الأمن الغذائي، علاوةً على الأزمات المرتبطة بالتغير المناخي وتدهور النظم البيئية. وفي ظل هذا الوضع المتأزم، وجدت هذه الدول نفسها أمام ما يعرف في أدبيات اقتصاديات التنمية بالعاصفة المثالية (Perfect Storm)، وهو واقع تواجهه النظم الاقتصادية عندما تتعرض لأزمات ذات جذور متباينة وبشكل متزامن، فتتداخل أسبابها وتتفاعل عواملها لتُأجِج بعضها بعضاً وتتفاقم تأثيراتها بصورة تعجز أمامها حكومات الدول النامية، بكل ما تعانيه من مشكلات بنيوية تحد من كفاءتها وآدائية تقلل من فاعليتها، عن التعامل مع تداعياتها والخلاص من شُرُكِها. ولعل أحد ما أسفرت عنه هذه (العاصفة المثالية) التي نحن بصددها هو تفاقم أزمة الديون الخارجية للدول النامية، والتي توصف بأنها كانت عاملاً محورياً للوضع الاقتصادي المعقد الذي تعيشه الدول النامية، وهي في ذات الوقت نتيجة تزيد الصورة قتامة وتجعل الخروج منه مطلباً بعيد المنال.
ودعونا نبدأ أولاً باستعراض موجز لتطور حجم الدين الخارجي للدول النامية، وسنركز هنا على دول أفريقيا، كون الكثير منها على مشارف أزمة ديون محتملة أو بالفعل فيها، وكذلك كونها تضم دولاً من وطننا العربي في إقليمها الشمالي. وإلى حد كبير، يمكن أن نعزو جذور أزمة الديون الحالية للدول النامية إلى عام 2006، وهو العام الذي شهد بدء صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وشركاء التنمية الدوليين، والدائنين، شطب ديون العديد من الدول الأكثر فقراً ومديونية وتخفيف عبء الديون على الدول النامية بخفض سعر الفائدة في إطار (مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون) أو (هيبيك)، وسط مخاوف متزايدة حينها من أن مستويات المديونية غير المستدامة لهذه الدول ستعوق جهود المجتمع الدولي الرامية لتحفيز النمو الاقتصادي والتنمية والحد من الفقر في هذه الدول.
فمنذ ذلك العام، لم تلبث الدول النامية بشكل عام، والأفريقية منها على وجه الخصوص، أن أقبلت على الاقتراض الخارجي من جديد وبوتيرة متسارعة لترتفع مديونيتها الإجمالية خلال السنوات الأخيرة وتقترب من حاجز التريليون دولار أمريكي، أي ما يعادل أكثر من خمسة أضعاف قيمة مديونيتها عام 2000. ليس هذا فحسب، إلا أن هناك سمة أخرى تميز مديونية هذه الدول منذ منتصف العقد الماضي حتى الآن وهي تغير هيكل الدائنين، وانتقال هذه الدول إلى المؤسسات الخاصة والبنوك التجارية والتي ارتفعت حصتها في إجمالي ديون القارة الأفريقية من 17 % فقط في عام 2000 لتشكل نسبة 40 % من إجمالي ديون القارة الخارجية في العامين الأخيرين.

الصين.. لاعباً جديداً في فريق المقرضين
علاوة على ذلك، فثمة تغير آخر طرأ على بنية الدين الخارجي للدول لنامية وهو يتعلق بدخول لاعبين جدد إلى فريق المقرضين بخلاف اللاعبين التقليديين، فالصين -على سبيل المثال- أضحت خلال الأعوام الأخيرة ثاني أكبر الدائنين فيما يتعلق بالديون الخارجية البينية لدول جنوب الصحراء في أفريقيا، حيث تمتلك ما يقارب ثلثي هذه الديون التي اقترضتها دول الإقليم، وهو ما يثير مخاوف الكثير من المحللين والمراقبين الدوليين حول الخطر الذي قد تمثله الديون الصينية على الاستقرار السياسي والاقتصادي بهذه الدول.
وعلاوةً على كل ذلك، فقد تسبب زيادة عجز الموازنة والاحتياجات الاستثمارية وارتفاع مستويات التضخم في الدول النامية في أعقاب جائحة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا في تدهور العملات المحلية للدول النامية، وهو ما نتج عنه ارتفاع تكاليف وارداتها من منتجات الطاقة والغذاء المقيمة بالدولار، لتدخل في حلقة مفرغة تدفعها إلى طلب هستيري متزايد على الاقتراض الخارجي، فتصبح هذه القروض مشافياً لاقتصادات هذه الدول المثقلة بالديون والضغوط المالية، ويصير كل قرض بمثابة أنبوب الأكسجين الذي يُبقِيها بالكاد نابضةً لتلبي احتياجات مواطنيها الأساسية المتزايدة وسط طوفان التضخم المتنامي. ومع استمرار الأوضاع في التأزم وحاجة الدول النامية الملحة للتمويل، أصبحت شروط الاقتراض الخارجي أكثر صعوبة من حيث حجم الدين الذي يقبل المقرضون بتمويله وشروط توفيره، ولاسيما أعباء خدمته التي صارت تشكل جوهر الأزمة الحالية أكثر من الديون في حد ذاتها، فلقد استنزفت الدول النامية نسباً كبيرة من احتياطياتها من العملات الأجنبية فقط للوفاء بأعباء خدمة الدين. فعلى سبيل المثال، أنفقت أكثر من نصف دول جنوب الصحراء على خدمة الديون مبالغ أكبر مقارنة بالإنفاق على الصحة، فاستوعبت خدمة الديون في هذه الدول بين 5.3 % و42.6 % من إيرادات حكوماتها. ونجد مثلاً دولة كمصر، قد فاقت أعباء خدمة ديونها ما تنفقه على التعليم أو على الصحة، مما يشكل تحدياً حقيقياً لمساعيها في استعادة النمو الاقتصادي على المدى الطويل وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.

انعدام الأمن الغذائي.. الخطر القادم
وباستعراضنا لتطور حجم الدين الخارجي للدول النامية، وأعباء خدمته، اللذين دفعا نصف دول القارة الأفريقية بالفعل أو جعلاها على مشارف هوة التعثر أو العجز عن سداد مديونياتها، فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن على حكومات الدول المدينة وشركائها التنمويين يتعلق بالسيناريوهات التي قد تؤول إليها انعكاسات الأزمة الراهنة. ويساعدنا في الإجابة عن هذا السؤال نتائج الدراسة التي أجريت مؤخراً في المؤسسة التي ينتمي إليها كاتب المقال حول تداعيات أزمة الديون الخارجية الحالية على الأمن الغذائي والاستقرار السياسي في الدول النامية، والتي تشير إلى وجود ارتباط قوي بين ارتفاع نسبة الدين وأعباء خدمته من ناحية، وبين انعدام الأمن الغذائي من ناحية أخرى، بحيث إن كل ارتفاع في حجم الدين الخارجي أو أعباء خدمته بمقدار 10 % يصاحبهما ارتفاع في معدلات انعدام الأمن الغذائي بين السكان الأكثر فقراً بنسبة 0.15 %، و0.1 6 % على الترتيب، وهو ما يشكل ناقوس خطر في قارة كأفريقيا تعتمد بشكل كبير على واردات الغذاء لتلبية احتياجات سكانها من الغذاء، وتنفق الأسر فيها قرابة نصف دخلها على المنتجات الغذائية، ويعاني بالفعل أكثر من 60% من سكانها من معدلات انعدام الأمن الغذائي المتوسطة أو الحرجة. ولذلك فمع استمرار تصاعد وتيرة الديون، ستواجه العديد من الدول الأفريقية تصاعداً في معدلات الجوع والفقر، مما يشكل تهديداً كبيراً للجهود التي بذلتها حكومات هذه الدول لتقليل الفقر وتخفيف انعدام الأمان الغذائي وجهود تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وتشير نتائج الدراسات التي أجريت في أعقاب حركات الربيع العربي في شمال أفريقيا خلال عام 2011 أن ارتفاع أسعار الغذاء في أعقاب أزمة الغذاء العالمية في 2008 وما تلاها من تداعيات للأزمة المالية العالمية خلال الفترة من 2008 إلى 2010 شكل عاملاً مساعداً لإشعال هذه الموجات التمردية التي لم تقف آثارها عند الجوانب الاقتصادية فحسب بل امتدت انعكاساتها لتسقط نظماً سياسية وتدفع دولاً عدةً لدوامات من الأزمات السياسية والاقتصادية التي لم تتعاف من آثارها حتى الآن. ومؤخراً واجهت دولة سريلانكا هذا السيناريو عندما عجزت الحكومة عن سداد ديونها، لتدخل في أزمة اقتصادية طاحنة تسببت في موجة تضخمية غير مسبوقة، ارتفعت على إثرها أسعار الغذاء بنسبة 90 %، ما جعل أكثر من ربع سكان البلاد يواجهون تحديات خطيرة فيما يتعلق بعدم الأمان الغذائي، لينتهي المطاف بانتفاضات شعبية ضخمة أطاحت بالنظام السياسي. وتشير كل المعطيات أن هذا السيناريو الذي شهدته سريلانكا ليس ببعيد عن دول نامية أخرى، بل يمكن أن يتكرر في عدة دول أفريقية بعضها عربية.
وهنا يبقى سؤال أخير: ماذا يمكن لهذه الدول أن تفعله للخروج من أزمة الديون الخارجية؟ وفي الحقيقة فإن هذا سؤال لا يجيب عنه مقال ولا تسعه هذه السطور، فجذور أزمة الدين الخارجي والعوامل التي تحدد تداعياتها تختلف من دولة لأخرى، والدول المدينة تتباين هي الأخرى من حيث بنياناتها الاقتصادية وبنيتها المؤسسية وقدراتها وكفاءتها على تفعيل سياسات ملائمة للتصدي للأزمة. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الدول تحتاج بشكل عام إلى اعتماد إستراتيجيات تحقق التوازن بين خفض النفقات لتقليل العجز المالي وتعزيز حصيلة إيراداتها المحلية من خلال تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، لتتمكن الدول من تحسين إدارتها المالية وتخفيف الضغوط الاقتصادية. إلى جانب ذلك، فيجب أن تتعامل هذه الدول مع الاقتراض الخارجي بميزان حساس يراعي قدراتها على السداد، ويضمن توجيه حصيلة القروض إلى مشروعات تحقق نمواً اقتصادياً يدعم قدراتها على الوفاء بالتزامات القروض، حتى لا تقع فريسة لمصيدتي الدين والتباطؤ الاقتصادي. وبالتوازي مع ذلك يجب أن تسير برامج الحماية والضمان الاجتماعي جنباً إلى جنب مع هذه الإصلاحات. علاوة على ذلك، تحتاج هذه الدول إلى استحداث آليات جديدة لإصلاح نظمها الضريبية لتصبح أكثر كفاءة وأشد عدالة، وتطبيق أدوات أكثر كفاءة لتقييم وإدارة المخاطر المالية وبناء قدرات مؤسساتها المالية والنقدية لتعزيز الرقابة على النفقات الحكومية. كما ينبغي أن تسعى هذه الدول المدينة بجدية إلى إعادة تنشيط موارد النقد الأجنبي، وذلك من خلال تنفيذ برامج مستدامة للإصلاح الاقتصادي تضمن تحسين بيئة الأعمال، وتعزيز الاستثمارات، وتحفيز النمو الاقتصادي، مما سيساعد في زيادة الإيرادات وتقليل العجز في الميزانية. وأخيراً، فيمكن للدول النامية الاستفادة من الدعم والمساعدة من المنظمات الدولية وشركاء التنمية، وذلك من خلال السعي لإعادة هيكلة ديونها عبر التفاوض مع الدائنين لتمديد مدة السداد، أو تخفيض معدلات الفائدة، أو تقديم شروط سداد أكثر مرونة، لتتمكن من تخفيف حدة أعبائها المالية والخروج من أزمة الدين الخارجي.

ذو صلة