مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

اللهجات المحلية تراث وهوية

اللهجة المحلية هي شكل لغوي خاص بمنطقة جغرافية معينة يجتمع سكانها على موروث تقافي واجتماعي وتاريخي مشترك يجعل من تطور اللغة الأم شكلاً مختلفاً بعض الشيء في استخدامه محلياً بين أفراد هذه المجموعة، وتكون لغتهم نتاج تداخل عوامل ثقافية وجغرافية وتاريخية تتشكل منها اللهجة المحلية المستخدمة.
يقول علي عبدالواحد وافي في كتابه علم اللغة:
(للغة نشأتان نشأة حينما أخذ الإنسان يلفظ أصواتاً مركبةً ذات مقاطع وكلمات متميزة للتعبير عما يجول بخاطره من معانٍ، وما يحسه من مدركات، ونشأةً حينما يشرع الطفل يقلد أبويه والمحيطين به فيما يلفظونه من مفردات وعبارات، فتنتقل إليه لغتهم عن هذا الطريق).
فإذا كانت بداية اللغة في الأصل مستمدة من الإنسان وممتدة لأبنائه فستستمر هذه الدورة في التكرار، وتنتقل من الأبناء إلى زوجاتهم اللاتي يأتين بلغاتهن الموروثة، فتتوسع هذه الدائرة إلى قبائل ثم بلدان وتختلف اللغات باختلاف المنشأ الأول، فتكون لغة الأجيال اللاحقة نتاج تمازج تلك اللغات. ثم تتكون اللهجات المحلية التي هي شكل لغوي تطور في منطقة جغرافية تسكنها مجموعة تتحدث اللهجة المحلية التابعة للغة أكبر مثل الإنجليزية التي أنتجت الإنجليزية التي يتحدثها البريطانيون والإنجليزية التي يتحدثها الأمريكان، ومن الجلي الفوارق بين اللهجتين، ومثل العربية التي يتحدثها أهل السعودية ولهجة أهل مصر والتباين الواضح بين اللهجتين مع تبعيتهما للغة العربية.
ولقد عُني أهل اللغة بدراسة اختلاف اللهجات بين الدول العربية التي تجمعها اللغة العربية الأم ويفرقها الاستعمال المحلي للغة مما ينتج عنه لهجات خاصة بكل دولة، فظهرت معاجم للهجات المحلية مثل معجم اللهجة القطرية الصادر عن المؤسسة العامة للحي الثقافي كتارا، ومجموعة من الدراسات والمؤلفات عن اللهجة السعودية مثل معجم اللهجة المحلية لمنطقة جازان لمحمد بن أحمد العقيلي، ومعجم ألفاظ لهجة الإمارات وتأصيلها الصادر عن مركز زايد للتراث والتاريخ، ومعجم الإحسان الصادر عن مجمع اللغة العربية بالخرطوم، اشتملت هذه الدراسات على نظريات تأصيلية لألفاظ اللهجات المحلية، سعياً من بعضها لربط اللهجات المستخدمة حالياً في البلد المعني باللغة العربية الأم وتأكيداً لأصالة هذه اللهجة، وقصد البعض الآخر الدراسة العلمية المجردة التي تؤكد في المجمل الصلة الوطيدة بين اللهجات المحلية واللغة الأم.
تأتي أهمية دراسة اللهجة العامية من أهمية دراسة مدى قوة التداخل الثقافي والاجتماعي وأثره على تغير تراكيب الكلمات والتطور الدلالي للمفردات، ومن نماذج اتصال اللهجات المحلية باللغة العربية الأمثال الشعبية التي توارثتها الشعوب الناطقة بالعربية ثم صاغتها بلهجتها المحلية تسهيلاً للفهم وتقريباً للمعنى مثل بعض الأمثال في اللهجة السودانية الموضحة كما يلي:
المثل العربي: ما حك جلدك مثل ظفرك
المثل السوداني: الجمرة بتحرق الواطيها. بمعنى: أن جمرة النار لا تؤلم إلا من يطأ بقدمه عليها.
المعنى العام: أن صاحب الشأن أولى الناس بالقيام به.
المثل العربي: عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة
المثل السوداني: الجفلن خلهن أقرع الواقفات. بمعنى: اترك الصيد الجافل أي الهارب وامسك بالواقف الذي لم يهرب.
المعنى العام: استفد مما تملكه ولا تهدر مجهودك على ما لا تملك.
وهي ذات المعاني الواردة في الأمثال العربية بلهجة بسيطة يفهمها المتعلم والأمي، وفي ذلك توارث للفضائل والمعاني الكريمة الموروثة من اللغة العربية والثقافة العربية.
وبصورة فردية يترتب على زائر البلد صاحب اللهجة المختلفة عن لهجته أن يتعلم طريقة نطق الحروف واختلاف معاني ودلالات الألفاظ، مثل:
طريقة نطق (القاف): فهي تنطق في السودان واليمن بصوت قريب في النطق من حرف (G) باللغة الإنجليزية بينما ينطق في العراق (ك) وينطق في مصر (أ) مما يجعل من الصعب للوافد أن يفهم الحديث ما لم يلم بهذه الاختلافات.
ومن نماذج اختلاف دلالات الألفاظ: كلمة العافية التي يكثر الدعاء بها للخير في مخاطبة الآخر عند أغلب اللهجات العربية، وتكون ردة الفعل عند سماع: (يعطيك العافية) هي السرور والتأمين على الدعاء، بينما يختلف رد الفعل عند أهل المغرب عند سماع كلمة (العافية) فيغضبون ويعيدون الدعاء على قائله، لأن العافية تستخدم في اللهجة المغربية بمعنى النار.
مما سبق يتضح أن يكون من المهم بل واللازم أن يُعنى الباحثون بتأليف الكتب التي تشتمل على اختلافات اللهجات مما يقرب بين الشعوب ويجعل التواصل أسهل وأكثر فائدة.
وعليه فإن اللهجات العربية -التي هي فروع اللغة العربية الأم- هي اللغة التي يتواصل بها العامة ويتحادث بها الناس في الأسواق وعلى محادثات الهاتف وسوى ذلك من ضروب التواصل اللفظي، بينما تعد اللغة العربية الفصحى لغة للعلوم والدراسة والمخاطبات الرسمية، ولن يضير لغة القرآن التي تكفل المولى عز وجل بحفظها أن يتفاهم بعض الناس في سوحهم وشوارعهم بلغة متفرعة عنها ما داموا يصلون بها صلواتهم الخمس ويخطبون بها في أيام الجمع.

ذو صلة